الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم سعيدة بيدة

ستبقى

من برودة الجو في الخارج تستلذ دفء البيت تمر في أرجائه في خيلاء، تائهة في صمت المكان وتبعثر الزمان، لم يعد للوقت قيمة، لمواعيد الأكل والسهر والزيارات والمناسبات.. كل شيء دخل في سبات عميق مع برد هذا الشتاء برودة عواطف زوجها، حبيبها تجاهها ودفء هذا البيت يمنحها الأمان رغم أن أشياءه باردة …الهاتف يرن …….

 ألو، أنت سلوى.؟

 نعم أنا هي ومن تكون محدثتي

 لا يهم من اكون، لكن المهم ان تعلمي أن زوجك سيقضي الليل كله عند عشيقته بدل الأويقات التي كان يمنحها إياها

 زوجي يا آنسة أوفى الرجال وأصدقهم ولن يبرح بيته

 أنت بلهاء

 شكرا

تضع سماعة الهاتف برفق، تضغط عليها تقول عيناها اذهبي دون رجعة، تجول بنظراتها أنحاء الغرفة تتجه بخطى متثاقلة نحو النافذة، تطل من خلالها على الساحة الخارجية حيث سيارة زوجها. ترى الأنوار الأمامية فيشتعل قلبها وترتجف أعضاؤها. لم تعد تحس لساقيها من وجود. وضعت يدها على رأس المدفأة المعدني لم تحس بحرارته فما يفيض به قلبها نار تكاد ألسنته تخترق جسدها وذواتها لتحرق كل ما حولها لكنها لم تتحرك … سمعت وقع أقدام، باب الغرفة يفتح, إنه هو….

يدخل متقدما بخطى ثابتة … تمتد نظراتها الحزينة إليه قبل أن يمتد ذراعها.. تحضنه بحرارة كأنها تتخلص من لهيبها ثم تبتعد عنه قليلا …. هو واجم لا يتحرك، كأنه صنم بقامته الطويلة وقده اليافع،لم يتناول زوجته بذراعيه كما في الماضي الذي يكاد يكون غايرا.. لم يصدها، لكنه ظل صلبا يرفض جسده الحراك. لاحظت سلوى عليه الدهشة، أرادت أن تنعش فكره وتطلق لسانه ….. ربما سيحيا بعد ذلك هذا الجسد، فقالت في حنو هو أقرب إلى الغنج:

 دعني أصلح لك ربطة العنق – تمسكها بكلتا يديها كما تمسك اللبؤة عنق الفريسة وتواصل حديثها وقد ضمنت ألا مقاومة منه :_ أوفلنقل أن حلها أفضل …. يبدو أنك ستذهب لموعد رسمي، لم لا ترتدي البدلة الرمادية فهي تليق بك وستضفي عليك كالعادة هيبة وجمالا …………

 أترين ذلك

حلت الربطة بسرعة البرق واتجهت بنفس الخفة إلى الخزانة ونظراتها لا تفارقه وهو يرمي بربطة العنق على السرير، أخرجت البدلة الرمادية وهو ينزع البيضاء. ساعدته في ارتداء الطقم، اختارت له ربطة عنق مناسبة وبدأت في ربطها وهو مستسلم لها كطفل وديع، لمساتها عميقة … أرسلت أثناءها نظرات دافئة. أضحت عيناها العسليتان أكثر إشعاعا من ذي قبل، قالت أشياء كثيرة.. تلك النظرات، أفرغت من خلالها ما في صدرها من عتاب وعذاب، شعرت بالارتياح وهي تغرس سهامها النارية في مروج عينيه، بانت خضرتهما شفافة... كم عشقتها.

ابتعد عنها قليلا، يريد الفرار من المعركة ثم التفت إليها وهي لا تزال متسمرة في مكانها تقاوم برودته، لا تريد أن تبرح أرض المعركة، تراجعت في صمت لتضرب من جديد.. تريد استفزازه:

 إذا كان موعدك في الثامنة … فالوقت قد حان كي تذهب!

 أقلقك وجودي (يقولها في استهتار )

 أبدا حبيبي؛ فقط لا أريد أن تخسر احترام أصدقائك؛ لأن الوفاء بالموعد كالوفاء بالعهد، أي عهد كان؟؟ لا يجوز نقضه!

 صدقت - قالها وقد بدأت فرائصه ترتعد. انتقل داء الرجفة إلى الطرف الآخر، أراد إخفاء ارتباكه فاتجه نحو النافذة … ونظراتها الحادة تتبعه، وقف في نفس المكان، وضع يده على رأس المدفأة فأحرقته حرارتها نزع يده الباردة وهو يطل على سيارته التي ترك محركها يعمل لأنه كان باردا برودة الطقس... برودة قلبه الذي بدأ يتسلل إليه الدفء.

حرك شفتيه متمتما :
 ربما سأتأخر حتى الساعات الأولى للصباح!!

استجمعت قواها فالوقت قد حان: لا ضير في ذلك … عليك أن تذهب الآن لا تكن كسولا. ربتت على كتفيه وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة فوقع في الفخ وقوع الفارس المغرور، دنا منها حين ابتعدت عنه، قال بعد صمت طويل :

 و…. ماذا ستفعلين في غيابي

ردت متنهدة :

 طبعا لن أخلد للنوم، فالنوم غذاء موتى القلوب، أما أنا فلي الليل كله …

أرسلتها جملا صحيحة واضحة،دقيقة الهدف، هزت فستانها الأحمر الطويل بكلتا راحتيها مبتعدة عنه قاصدة نفس النافذة … نافذة الفر والكر، تتهادى كمراهقة عاشقة ثم أرسلت نظرة خاطفة نحوالخارج … نحو السيارة المضيئة
لمت شعرها الأسود الطويل ثم أرسلته على نهديها بحركة خفيفة، استرقت النظر إلى زوجها ثم عادت إليه بخطى تنم عن دلال ودهاء تتبعها بنظرات فاحصة كأنه يكتشف أنوثة زوجته لأول مرة.. بعد خمسة عشر عاما من زواجهما، أتراه قد نسي في لحظة ما أن زوجته أنثى ؟؟ وأنها ذات جمال أسر قلبه منذ عشرين عاما … استمر نسيانه أياما وأشهرا … ليبحث عن أنثى أخرى فتوقظ فيه رجولته، أتراه هو أيضا قد فقد صورة الرجل في عينيها؟؟ كلا غير ممكن … فهو رجل … وهي …؟

كثرة التفكير جعلته يشع بالدوار زاده حدة تتبعه لحركاتها وقد تمادت في استفزازه، مسحت براحتيها غطاء السرير فانزلقت على ملمسه الحريري، تزاوج لونه الأبيض الناصع بحمرة أكمام فستانها، غيرت مواضع الوسادتين لتوقظ ذاكرته وتنعش خياله

ثم التفتت إليه كأنها نسيت وجوده فترة من الزمن أو تناست وقالت مستفسرة :

 مازلت هنا ؟؟ أ وه!! ستتأخر …

ظل صامتا، يراقب، يحلل، يسترجع الماضي… لأول مرة أعاد شريط الماضي ليكتشف أن رفيقته في الحياة امرأة وأنها يمكن أن …

أرادت سلوى أن تزيد النار اشتعالا فقالت في هدوء:

 ألا ترى أن غرفتنا قد زاد بهائها بوجود الستائر المخملية الجديدة.. آه ربما لم تلحظ أني قد استبدلت الستائر القديمة بأخرى، يكفي تغيير أشياء طفيفة لتدب الحياة في الحيطان، يكفي تحريك الأشياء لتبرز من جديد …

والآن ألن تذهب؟؟؟ قالتها بنبرة حنان وحب وقلبها يخفق بشدة فالنتيجة قادمة إما النصر أو…………….

 كلا أشعر بحرارة ودفء كبيرين وأخشى أن أصاب بالزكام إن خرجت أطلبي من أحد الأولاد أن يطفئ محرك السيارة،

 وموعدك

 حتى الصباح …


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى