الخميس ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥
بقلم أيمن فضل عودة

رأيٌ في اللغة «3»

في مـِحنة اللّغة ومَعاني «الاشتهار» .. قُل: اشتَهَر، وقُل: اشتُهِر

من جوانب هذا الرأي الذي أكتبه، أنني قد اطّلعت على رسالة في اللّغة يعتبرها صاحبها رسالة أكاديمية، وهي لا تعدو أن تكون ورقة لغوية بالية، ومثالا واضحا لمحنة اللغة العربية في هذا العصر، يصادق عليها علماء ترتبط أسماؤهم بجامعات عربية معروفة- وهذه هي المحنة والطامة الكبرى-، نبذوا الحق ظِهريا فجاءوا أمرا فَرِيًّا، وراحوا يهدمون أعمدة اللغة والنحو والبيان بما لم يُنزل الله به من سلطان؛ فوجدتهم يُنزلون أحكاما لغوية من التخطيء والتوهين، للكثير من صحيح اللغة وفصيحها.

ولما كانت هذه الرسالة تخصّني وتخصّ إيماني، تلقّفتها تلقف العطشان للماء المــَعِين، ودعوت ربي أن يكون هو المــُعين؛ إذ عكفت على دراستها وتنقيدها، وعُنيت عناية شديدة بردّها وتفنيدها. وبعدما نقدتها نقدا جذريًا، قرّرت أن أواجه المسؤولين عليها شخصيًا، فاتصلت بهم كتابة وشفويًا؛ لأجدَ مِنهم مَن قضى نحبه، ومنهم مَن على قرب ينتظر؛ فأنّى لنا أن نُقيم أحدا من الأموات، وأن نجمع عظامه من بين الرُّفات؛ وكيف لنا أن نزيد على أحد في بلائه وهو في خضمّ لأوائه!؟ وأما الآخرون منهم، فما لبثوا أن كلمتُهم؛ حتى فرّوا فرار الحُمُر المستنفرة فرارَها من قسورة، فلم يعقّبوا بعدها بشيء، وما ردّوا وما صدّوا، وكأنهم اعترفوا بما اجترحوا وأقرّوا بما اجترموا.

ولسنا هنا في موضع التشهير بأحد، ولا كانت هذه من الغاي فيما نكتبه هنا في اللغة من راي؛ إنما هو من واجبنا أن نرد على هؤلاء بما ألحقوه باللغة من ضرر، وأن نَرُمّ ما هدموه من صرحها العظيم، وأن نستدرك عليهم الخطأ بالصواب، والقول بالقول؛ لنقول:

استدراك أول ...

وجدتُهم يخطّئون كلمة «الاشتهار» بمعنى «الإعلان»، ويخطّئون مشتقاتها، كمثل: «اشتهَرَه/ المــُشتهِر»، بمعنى: «أعلنه/ المــُعلن »؛ ويقولون: إنها من الخطأ الصُّراح، وليست هي بعربية قَراح.

ولسان حال هؤلاء في هذا الاعتراض يقول: إن الفعل «اشتهر» لازم- لا غير– ويعني أنّ الشيء أصبح معروفا أو مشهورا، ولا يأتي في العربية مُتعديا على معنى: شَهَرَ الشيءَ وأعلنَه، أي: جعله مشهُورا ومُعلَنا؛ وهذا في الحقيقة مَكْمنُ جهلهم.
قلت: لا درّ درُّكم يا مَن ائتُمِنتم على اللغة فخنتموها! ألم تجدوا بضع دقائق للبحث في معاجم اللغة المعروفة، قبل أن تُنزلوا في اللغة هذه الأحكام، أو تنشروا على الملأ هذه الأوهام!؟ فهاكم ما تقوله المعاجم اللغوية من معارف الكلام:

1: جاء في تاج العروس:

«الشُّهْرَةُ: وُضُوحُ الأَمْرِ. (وَقد شَهَرَه، كمَنَعَه)، يَشْهَرُه شَهْراً. (وشَهَّرَهُ) تَشْهِيراً فاشْتَهَرَ، وشَهَّرَه تَشْهِيراً. (واشْتَهَرَه فاشْتَهَرَ) أَي، يُسْتَعْمَلُ لازِماً ومُتَعَدِّياً، وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ:

أُحِبُّ هُبُوطَ الوَادِيَيْنِ وإِنَّنِي
لمــُشْتَهَرٌ بالوَادِيَيْنِ غَرِيبُ
ويروى لمــُشْتَهِرٌ بِكَسْر الهاءِ.»
[تاج العروس (12/ 262)]

2: وفي لسان العرب:

«وَقَدْ شَهَرَه يَشْهَرُه شَهْراً وشُهْرَة فاشْتَهَرَ وشَهَّرَهُ تَشْهِيراً واشْتَهَرَه فاشْتَهَر؛ قَالَ: أُحِبُّ هُبوطَ الوادِيَيْنِ، وإِنَّنِي ... لمــُشْتَهَرٌ بِالوادِيَيْنِ غَرِيبُ.» [لسان العرب (4/ 432)]

3: وفي الوسيط:
«(شهره): شهرا وشهرة أعلنه وأذاعه ...
(أشهر) الشَّيْء أَتَى عَلَيْهِ شهر ... وَالشَّيْءَ شهره

(اشْتهر) الْأَمر انْتَشَر وَيُقَال اشْتهَر بِكَذَا واشتُهر بِهِ وَالشَّيْءَ شهره». [المعجم الوسيط (1/ 498)]
وبعد كل هذا، لا يمكن أن يخفى على كل حصيف أريب، ما بيْن الشَّهْر والإشْهار والاشتِهار والإعلان من توافق المعنى، فإنك إن شَهَرتَ الشيءَ أو أَشْهَرْتَه أو اشْتَهَرتَه أو أعلَنتَه؛ جعلتَه مشهورا ومُشْهَرا ومُشْتَهَرا ومُعلَنا. ولا يخفى أن الفعل (اشتهر) يأتي متعديا، فنقول: اشتَهَره/ أعلنَه، فالفاعل (مُشْتَهِرٌ/ مُعلِن)، والمفعول (مُشتَهَرٌ/ مُعلَنٌ)، والمصدر (الاشتِهار/ الإعلان).

فقُلْ: شَهَره، وقُل: أَشْهَرَه، وقُل: اشتَهَرَه؛ وكلها بمعنى أعلنَه!

استدراك ثان ...

وفي سياق آخر، قال لنا أصحاب الــقُل ولا تقل: قل اشتَهرَ ولا تقُل اشتُهِر.

قلت: فيما سقناه أعلاه ردّ وافٍ على هذه الخرافة! فإنك إن اشتهرتَ الشيءَ، يكون بالمبني للمجهول قد اشتُهِر. وفيما ذكره المعجم الوسيط أعلاه، غُنية لنا عن الشرح والتفصيل، فقال: اشتهَر بكذا واشتُهر به. وكل هذا من فصيح الكلام، كما يصنّفه معجم الصواب اللّغوي، حيث جاء:

«اشْتَهَرَت المدينة بصناعة النسيج [فصيحة]-اشْتُهِرَت المدينة بصناعة النسيج [فصيحة]». [معجم الصواب اللغوي (1/ 120)]. ثم ساق ما سقناه من تعليل.

فقل: اشتَهَر العالـِم بعبقريته؛ وقل، ولا تخف: اشتُهِر العالـِم بعبقريته!

وليكن شعارُنا دائما: يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفّروا، وَسّعوا ولا تضيّقوا، ففوقَ كلِّ ذي علم عليم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى