حماتها وليسوا أعداءها
ردا على مقال الدكتورفيصل القاسم الموسوم بـ (ألد أعداء اللغة العربية مدرسوها!)
حمّل الدكتورفيصل القاسم في مقاله (ألد أعداء اللغة العربية مدرسوها!) المنشوربموقع الشرق مسؤولية ضعف الطلاب في مادة اللغة العربية إلى طرائق تعليمها المتخلفة وإلى مدرّسيها، وضرب مثلاً على ذلك عن نفسه حيث كان ببلده ضعيفاً في لغته، ولمّا وجد في بريطانيا كتاباً إنكليزياً يعلمّه لغته بأيسرطريقة ارتقى مستواه في لغته، فأتقنها، وزادعلى ذلك أنه شرع يشرح أساسيات قواعدها لمن يجهلها، ويشير في مقاله أنه جلس مع مجموعة من الطلاب العرب يتحدثون عن حال اللغة العربية، فشكوه صعوبتها، وأخذ يعلمهم بأسلوب مبسّط أساسيات قواعد لغتهم في ساعة ماعجزت عن تعليمه طرائق تعليم اللغة في سنوات، ثم ختم الدكتورفيصل قاسم مقاله بقذفه مدرسي اللغة العربية دون استثناء حمم شتمه وازدرائه بقوله: (تباً لكم أيتها المدرّسات والمدرّسون العرب، فأنتم ألد أعداء اللغة العربية).
لقد أصاب الدكتور فيصل القاسم الحقيقة في وصفه الحالة المزرية التي آلت إليها لغة الضاد، حالة اغترابها بين أبنائها حكاماً ومحكومين، وضعفهم الشائن في استخدامها، وشكواهم من صعوبة طرائق تعليمها، لاسيما قواعدها وصرفها، واندحارها أمام اللهجات العامية واللغة الإنكليزية التي أخذت تحاصرها في ميادين الحياة كافة.
لكن الضعف في اللغة هو ضعف عام، لايعاني منه طلاب المدارس الذين عناهم الدكتورفيصل القاسم في مقاله، ولا الطبقات الحاكمة، ولاالنخب المثقفة في المجتمعات العربية، ولا القيادات السياسية فحسب، وإنما يعاني منه وبأسف كثيرمن مدرسي اللغة العربية: رسل لغة الضاد في مجتمعاتهم، وهذه هي الطامة الكبرى، صحيح أنّ فئة من مدرسي اللغة العربية متمكنة من لغتها، وتتفانى في خدمتها، وتسعى حثيثاً إلى ترقية مستوى طلابها في تعلمها، وتغرس محبتها في قلوبهم، فتحثهم إلى التحدث بها، والدفاع عنها، وأثمرغرسهاأدباء وكتاباً وشعراء ومفكرين وإعلاميين وقادة كباراًوغيرهم يدينون لمدرسيهم بالفضل غير أنّ فئة أخرى منهم نشأت في مدارسها ضعيفة فيها، ولم تستطع بعد التخرج في المعاهد أو الجامعات أن تعد نفسها إعداداً كافياً يؤهلها لترميم الثغرات التي أحدثتها المدارس في بنائها اللغوي، فصارهؤلاء ضعافاً في مادة اختصاصهم غيرجديرين في تدريسها، وفئة ثالثة منهم شغلتها الدروس الخصوصية في منازل الطلاب والمعاهد الخاصة عن إيلاء تدريس اللغة الاهتمام الكافي في المدارس ما جعلها تقصربواجبها الوظيفي والأخلاقي.
والمسؤولية عن ضعف الطلاب في لغتهم لاتقع على عاتق مدرسي اللغة وحدهم، ولا على طرائق تعليمها المتخلفة أيضاً كما ذكرالدكتور، وفي هذا الصدد ألفت نظره إلى محاولات الجهات المعنية التي لم تتوقف في تحديث طرائق تعليم اللغة وتطويرها رغم أنها لم تبلغ إلى اليوم المستوى المطلوب الذي ييسّر للطالب فهم لغته، فهناك أطراف أخرى في العملية التعليمية التعلمية، غابت عن ذهن فيصل القاسم تتحمل أيضاً مسؤولية هذا الضعف مثل الطالب والمؤسسات التعليمية في الدولة. يحدث هذا الضعف العام في اللغة، ويتعمق بسبب غياب استراتيجية لغوية قومية شاملة تلتزم تنفيذها حكومات الدول العربية والمجتمعات المدنية والأهلية في أرجاء الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.
وليس من الإنصاف في شيء أن يتغاضى الدكتورفيصل عن أسباب الضعف في مادة العربية، ويحصرها في المدرس، فيهين مدرسي مادة اللغة العربية على مختلف فئاتهم ومستوياتهم شاملاً الجميع باحتقاره دون وجه حق، وكاتب المقال إعلامي شهير، يغارعلى لغته، ويحرص على إتقانها والتحدث بها، وهو يعلم أنْ ليس كل الإعلاميين يبلغون مستواه اللغوي إتقاناً وحرصاً، وقد أشارفي مطلع مقاله إلى انتهاك المذيعين والإعلاميين العرب من تونسيين ولبنانيين وغيرهما حرمة اللغة العربية واختراق قواعدها الذين يتخذون الإعلام وسيلة للترويج إلى اللهجات العامية بدلاً من الترويج للغة الفصيحة، أفيعطينا هذا الواقع المزري والأليم للغة في الإعلام العربي الحق أن نحمّل الإعلاميين وحدهم مسؤولية هوان اللغة وغيابها عن إعلامها؟ بل هل من الحق أن نشتمهم، ونحتقرهم جميعاً، فنشملهم جميعاً بمن فيهم الحريص على لغته كالدكتورفيصل وغيرالحريص، وقائمة أسمائهم تطول؟
نشأ الدكتور فيصل القاسم ببلده ضعيفاً في لغته العربية بسبب ماعزاه إلى الطرائق المتحجرة المتخلفة في تعليم اللغة العربية، فكان يجهل المضاف والمضاف إليه والأعداد والممنوع من الصرف، فلمّـا ذهب إلى بريطانيا اضطره العمل في هيئة الإذاعة البريطانية إلى تعلم العربية، فلجأ إلى كتاب يعلم العربية بالإنكليزية بطريقة مبسطة وسهلة للغاية لكاتب يدعى "رأيت" ولووجد الدكتورالقاسم عملاً في بلده سورية أو في اي بلد آخريشترط عليه تعلم اللغة لاضطرإلى تعلمها، ولكان بحث عن الكتب التي تعلم اللغة العربية بطريقة لاتقل يسراً وتبسيطاً عن ضالته التي وجدها في بريطانيا. إذن حين يتوفرالدافع إلى تعلم اللغة يستطيع المرء أن يتعلمها مذللاً الصعاب التي تواجهه في طرائق تعلمها، وهذا مافعله أعلام اللغة والأدب والشعرفي مختلف العصور، وفعله كل من تعلم لغته وأتقنها، فالطرائق العقيمة في تعليم اللغة لاتقف عائقاً بوجه من له دافع في تعلمها.
وأود أنْ أهمس في أذن الدكتورفيصل القاسم، وأنا أحمد له حرصه على إتقان لغته، وتحدثه المستمربها في كل حواراته في برنامجه المثير(الاتجاه المعاكس)، فأقول له: إن كتاباً واحداً في الإنكليزية يعلم العربية بأسلوب سهل بسيط لا يكفي لإتقان اللغة العربية، ولايغني من العودة إلى الكتب العربية التي تبسط طرائق تعليم اللغة العربية، وأظن الدكتورلم يسمع بها، وإذا ما اهتدى إليها فسوف يجد فيها مالم يجده في كتابه الإنكليزي الذي علمه العربية:
سوف يجد فيها بلاغة (التغليب)، وهذه البلاغة تقول: إذا تحدثت عن العاقل وغيرالعاقل، فتتحدث عنهما بلغة العاقل، وإذا تحدثت عن المذكروالمؤنث، خاطبتهما بصيغة المذكر، فتقول عن الأب والأم (الوالدان)، فإذاجاء زيد وفاطمة، قلت جاءا، ولا تقول : جاءتا. أمّا لغة التغليب في الكتاب الإنكليزي الذي علمه العربية، وربما يعلمها بعقلية، تحمل نظرة المجتمع البريطاني إلى المرأة والرجل، وتخاطبهما بصيغة واحدة، يستوي فيها المذكروالمؤنث، كما يبدو ذلك في صيغة لغته في المقال المذكور، إذ غلب صيغة المؤنث على المذكر، فالدكتورفيصل يقول في جملة جواب الشرط:
(لوجدنا أن المدرّسين والمدرّسات هن ألد أعداء اللغة بامتياز، وهن (يعني المدرّسين والمدرّسات) يشاركن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في المؤامرة على اللغة العربية)، (وأن المدرّسين والمدرّسات مازلن في واد واللغة العربية في واد آخر) لقد أنث المدرّسين، وتجلى هذا التغليب في عدة جمل أخرى من المقال. ورأيت فيصل القاسم وقع في مقالته القصيرة غيرمرة في أخطاء نحوية، أذكرمنها نصبه اسم الموصول(اللذين) الذي وقع نعتاً مرفوعاً للـ (التشرذم) في عبارته الآتية:
(كما لو أنه لا يكفينا هذا التشرذم الجغرافي والسياسي (اللذين) ولــّدتهما الاتفاقية البريطانية الفرنسية) ولم ينصب (عربي) الواقع خبر(ليس) متوهماً أنه اسمها في عبارته الآتية: (وبالمناسبة أفضل قاموس عربي انجليزي وضعه لغوي ألماني وليس عربي، واسمه «هانز فير»).
فماذا على الدكتور فيصل لو عزّز إتقانه لغته التي لايشك أحد في حرصه عليها، ودفاعه عنها، فتعرف إلى كتب النحو والبلاغة المؤلفة حديثاً بأساليب مبسطة وسهلة، واغترف من معينها، وأفاد منها، وهنا أذكره، فلعلّ الذكرى تنفعه، أنّ مؤلفيها هم مدرسواللغة العربية، حماة لغة الضاد ورسلها، وليسوا أعداءها؟ إنهم يستحقون المدح لا القدح.