السبت ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٣
بقلم سلامة عودة

حكايةُ تعانقِ برجِ الساعةِ والقوسِ التي تعلوهُ المزولة

(هذه صورة بوابة برج الساعة في باب الساحة في نابلس تعلوها كتابات بحساب الجمل شاهد على العصر العثماني وعرقة رواية فلسطين التاريخية)

حثَّ الخطى دالفاً من بابِ البلدةِ القديمةِ في نابلس، متأملاً في هذا المَدخلِ الذي تربعتْ على جوانبِهِ مدرسةٌ ومسجدٌ وكنيسةٌ، وطريقٌ تحكي حكايةَ الماضي، بقبابها أروقتها التي تعلو هذا الممرَّ، وقلّبَ الطرفَ يمنةً ويسرةً ،فحمامٌ تركيٌّ يقدمُ لنا حكايةَ الوطنِ من خلال عراقتِهِ وتسجيلِهِ واقعاً مكانيّاً، ومن يراه يستحضرُ الزمنَ، وذاك َالطرازَ المعماريّ الذي يجسّدُ تاريخَ المكانِ والزمانِ في الوقتِ ذاتهِ؛ ممّا يجعلُك تعيشُ في العصرِ الذي شُيدت فيه، ولا يزالُ عصياً على عوادي الزمن، ثم تغريه الطريقُ فيطلق لأرجله العنان كي يحظى بما يلحظهُ من توثيقِ للأصل الفلسطينيّ الموغلِ في القدم، ها هي الطريقُ تخبره باستراحةٍ على أحد الأكتافِ، وما فتئ يشاهد المحالَ التجاريةَ تصطفُ على جوانبِها، أدرك عندها أنَّ البوابةَ التي ولجها قد تكونت من مِنطقتيْن: مِنطقةِ المدخل الذي خلا إلا من بعضِ المحال، والمِنطقةِ الثانية تعجُ بالمحال التجاريّة، والمسافةُ بين المنطقتيْن تجعلُه يحكمُ عليها بأنّها بوابةُ البلدةِ القديمةِ، بعدها واصلَ المسيرَ ، وقطع مسافةً لا بأسَ بها، وإذا بعلّية عثمانيّة الطراز تغازلُ العيون، بأقواسِها وقبابِها، وشرفتِها التي زَينت مقدمةَ البيوت التي تقع في الطبقةِ الثانية، وقد ازدانت بخشبِ الأربسك، فهي شرفةٌ مطلةٌ على الشارع، يستشرفُ من خلالِها ساكنُ المبنى الأفقَ، وخيوطَ الشمس الذهبيّة التي تنسج عباءةَ الصباحِ على طاولة يقتعدها راشفُ القهوة ، وهذه الشرفة لها وظيفة أخرى فهي لتعليق الملابسِ المبتلةِ؛ كي تجففها أشعةُ الشمس، إضافة إلى أنّها تعدّ متنفساً للمبنى، والطبقة السفلية تربض تحتها المحالُ التجاريّة، وحتى يتمكن الزائرُ من الجلوسِ في هذه الأجواء التاريخيّة التي تعبق بالحضارة والتطور ثمة بنايةٌ تصافحُ هذا المبنى على الكتف الثاني من الطريق التي سلكها، و المقهى صورةٌ لهذا المبنى أو مرآة تعكسُهُ؛ فيجد الجالسُ في ردهتها ما يجده في ذاك البيتِ الشامخِ بعليته، وبين البيتِ والمقهى تتوسدُ ساحةً واسعةً بمقاعدَ خشبيةٍ تخللها بعضُ الأشجار، و هناك مقاعد توزعت في فضاء الساحة، والساحة تحفّها المحال التجارية الثابتة، وعربات باعة متنقلة، وهذه العربات تقدم المشروباتِ الساخنة، وأخرى تقدّم أصنافَ الحلوى التقليدية التي تتفقُ والزمانَ والمكانَ، وأمام هذه الساحةِ مسجدُ النصر ، ولعل الجالسَ في هذه الساحةِ يشاهدُ مبنى شامخاً بطراز معماري قديم، يرتفعُ ارتفاعَ المئذنة، إنه برجُ الساعة.

وفد سياحي يكسرُ الصمتَ، ومرشد يتحدثُ عن تاريخ هذا البرج الذي تتوجه الساعة، ويستحضرُ التاريخَ العثمانيّ الذي يؤرخ للوجود الفلسطيني، وأن الناسَ كانوا لا يعرفون الزمن إلا بزحفِ الظلِّ، وانحسارِ الفيء، فقد كانت المزولةُ أداةَ الوقت لديهم، حتى العصر العثمانيّ، وبناء هذه الساعة؛ إذ ما انفكَّ الناسُ ينظرون من شرفتِهم فيأخذوا قسطاً من أشعةِ الشمس، وشعاعيْ الساعة التي تعانقهم صباحاً، بعد أن كانت المزولةُ التي تصافح الظلَّ صباحاً وتودعُ الفيءَ مساءً، هذه المزولة التي أخذت اسمها من الزوال قد توسدت القوسَ الذي توسطَ الطريقَ بين قبةِ الصخرة والمسجد القبلي في ساحات الأقصى في القدس، فمن يجلس حول صحن المتوضأ يكون المسجدُ من الجهة الجنوبيّة، والمزولة تقدم له عبق الوقت من الجهة الشماليّة، من على قوس أعلى الربوة التي تجثم عليها قبةُ الصخرة، وهناك درج يفضي إلى تلك التلة.

فالمزولةُ التي في رحاب ساحة المسجد الأقصى قد أرّخت للساعة التي في باب الساحة، كي تكون الفكرة التي انقدحت في ذهن من ابتنى هذه الساعة، فتكون الساعةُ دليلاً على الوقت قد استشفها من المزولة التي شاهدها في بيت المقدس، وفي ساحة مسجد أحمد باشا الجزار، ولهذه الساعة التي تعلو البرج نظائر في مدن فلسطين، مثل : برج ساعة يافا وحيفا وصفد والقدس وغيرها.

هذه رواية الساعة التي وصفتها لنا قد سجلتها كتب التاريخ في صفحاتها، لكن السؤال المطروح ما الدليلُ على أن هذه الساعة موغلة في الزمن العثمانيّ الذي يؤرخ للتاريخ الفلسطيني؟

إنَّ هذه المعالم التاريخية الذي تراها أمامك قد احتفظت بأسمائها اللغة ، فكلمة السرايا : من السرايا والسرايات وهي لفظ ٌ وظف في الفترة العثمانيّة؛ ليدلّ على القصور والبنايات العالية، والعليّة وغيرها، وهذا الطراز شاهد على هذه الحقبة التاريخيّة، ولا تزال المنطقة تستخدمُ الأمثالَ التي يتناقلها الناسُ في معرض حديثهم عمن يسكن السرايا باعتبارها أماكنَ الحكمِ والقيادة وهي الباب العالي، وثمة من يسكن القرى المجاورة ويأتمر بأمر السرايا، فقيل: "حكي القرايا أم حكي السرايا"، وهناك من رجع إلى التراث فأخذ منه صفة البيت الواسع والقصر العالي الذي كان يطلق عليه قصر النجمة " قصر يلديز" وهناك فندق على ثغر البلدة يحمل هذا الاسم.

وحتى يوثق هذا الكلام يحتاج إلى أدلة مكتوبة، فهل هناك كتاباتٌ تدلّ على ذلك؟

صحيح أن الكتاباتِ التي دوّنت عن هذه الحقبة التاريخية تزخرُ بها كتبُ التاريخ، ولكنّ ثمة نقوشاً لا تزال تؤرخ لتلك الفترة، ودونك على أعلى بوابة برج الساعة تجد على أسكفة الباب لوحة حجريّة من أساس المبنى قد وثقت هذه الحقبة.

وهل هذه الكتابة تؤرخ لتلك الحقبة، فالكتابة يمكن أن تنقش في أي زمن، وبألوان متعددة، ولا يقصر الأمرُ على الكتابة باللون الأسود؟

هذه اللوحة التي في أعلى الباب تخلّد التاريخ العثماني الذي شيّد هذا المعمارَ، فقد كتبت اللوحة وختمت بعبارة تحمل زمن البناء ولكن بحساب الجمل أو بالتأريخ الشعري.

حساب الجمّل، ما حساب الجمل و ما علاقته بالتاريخ؟ لقد نشط هذا اللون في نهاية العصر المملوكيّ، وازدهر وتطور في العصر العثمانيّ، وهو حسابٌ معروفٌ منذ القدم، ويقوم على فكرة (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت)، ولكل حرف قيمة عدديّة، ونحن نستخدم حتى الآن الحروف الأولى حتى الرقم عشرة، أي (أبجد هوز حطي)، وعند الانتقال للحروف الأخرى تأتي العشرات ومن ثم المثات.

هذا يحتاج منا إلى الاطلاع على هذا الحساب في كتب التاريخ، أليس كذلك؟

كتب التاريخ قد أشبعته تسجيلاً، وثمة دراسات تناولته بالتحليل وقدمت أدلة كثيرة على وجوده في المساجد وشتى مناحي الحياة، فقد كان في العصر العباسيّ على ازدهاره يؤرخ بالحروف إلى جانب الأرقام، وحتى الآن نكتب بالأرقام ونؤكد بالحروف، والعصر العثماني كتب بالحروف وأكد بالأرقام، فأحيانا تجد الحروف التي تناولها الشاعر في بيت شعره دون الإشارة للأرقام، ولكن يضع ضوابط للقارئ، بكلمة أرّخه وغيرها، ويأتي بقول أو جزء من حديث أو مثل يجسد فيه تاريخ الوفاء بحساب الجمّل.

يبقى السؤال : هل هناك ما يثبت أن الساعة التي تنهض على أرض الساحة بها كتابة بحساب الجمل؟

نعم، وإليك النقش الذي كُتب، وتستطيع من خلاله أن تحسب الفترة التاريخيّة التي بنيت فيها هذه الساعة، وسأقدم لك النقش؛ لتقرأه على مكثٍ، وها هو النقش الذي يعلو البوابة التي تفضي إلى درج الساعة، ولوحة أخرى تجدُها على بوابة المسجد الذي هو في أول طريق بوابة البلد ، نابلس.

لاحظت أن النصَّ الأول على مبنى الساعة بالحروف والأرقام، وكذلك النص الثاني بالحروف والأرقام على المسجد.

عليك الآن الحساب بإجراء العملياتِ الحسابيّة للنصّ المكتوب بالحروف ومقارنته مع المكتوب بالأرقام، لتجد التطابق بينهما، وتعرف الحقبة التاريخية التي تؤرخ لعراقة هذا الوطن وأنه يسجل لك رواية فلسطين التاريخية من خلال نقوشها التي ينطق بها الحجرُ بلغة صامتة، ويقدم الرواية بثوبها التاريخي الذي لا لبس فيه وتقارن مع ما ورد في مظان المعرفة التاريخية، وتصل إلى أصالة الرواية الفلسطينية وقدمها وعراقتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى