الثلاثاء ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم سلامة عودة

بوابةُ «مندلباوم» بَيْنَ قلميْنِ

احتلتِ القدسُ عام 1948م، وشُطرتْ إلى شقّيْنِ: الشقِ الشرقيِّ والشقِّ العربيِّ، وثمَّةَ حاراتٌ فلسطينيَّة عديدةً شُيدت خارجَ أسوار القدسِ العتيقةِ. وبعد قرارِ التقسيم أصبحت تحتَ الوصايا الأردنيّة ، وقد برزتْ بوابةٌ فصلت بينَ شقي المدينةِ تُدعى بوابةُ “مندلباوم"،وبعدَ وقفِ إطلاقِ النّار، وإعلانِ الهُدنة، وَفقَ اتفاقيّة رودس 1949م اتفقَ على منحِ مسيحيي البلاد إذناً بزيارة القدس وبيت لحم في أيام عيد الميلاد المجيد للشرقيين والغربيين. إضافة إلى فرصة أتيحت للقاء الأهل والأقارب الذين هجّروا وصاروا لاجئين في كلّ من الأردنِ وسوريّة، والضفة وغزة.

وتعدّ بوابةُ مندلباوم شاهداً على تاريخ يسعى الكيانُ الصِّهْيَونيّ إلى طمس معالمه؛ ليثبت أنَّ القدسَ موحدةٌ منذ فجرِ التاريخ،غير أنّ البوابةَ كانت حاجزاً بين الجانبين: جانبِ الكيان الصهيونيّ، والجانب الأردنيّ، بعد أنَّ وقع قسم من فلسطين تحت الاحتلال إبان النكبة، وذلك بين عامي 1949م وحتى 1952م، فالبوابة تقع إلى الشمال الغربي من المدينة العريقة، على طول الخط الأخضر، وقد كانت معلماً تاريخياً يدلًّ على تقسيم المدينة المقدسة مدينة القدس، وبعد عام 1952م نقلت إلى منطقة منزوعة السلاح، واستمرت حتى حرب الأيّام الستة 1967م.

سبب تسميتها ببوابة مندلباوم:

مندلباوم تاجر يهوديّ ألمانيّ، يُدعى سميحا ماندلباوم، ابتنى له منزلاً في أرض اشتراها في القدس الشرقيّة، وقد كان المنزل يحتوي على عشر شقق له ولأولاده، ولم يبن بيته في شارع يافا، وكان يرمي إلى حث اليهود على توسيع الحدود الشماليّة للقدس، غير أنّ هيئة الأوقاف منعت الفلسطينيين من بيع أراض أخرى لليهود، ولم يُبن في تلك المنطقة غير هذا البيت، ثم استولت عليه عصابة الهاغانا وأجبرت سكانه على تركه، وتحصنت فيه، ووضعت على سطحه قطعاً خشبيّة مطليّة يُخيل لمن يراها من الأعلى بأنّها مدافعُ مضادةٌ للطائرات،إلاّ أنّ القوات الأردنيّة قد هاجمت المنزل وتركته أطلالاً، ولم يتبق منه سوى الجدارِ الأماميّ مع البوابة.

وما انفكت حكايةُ البوابة بين قلميْن: قلم موشيه ديان الأخضر، وقلم عبدالله التل الأحمر، وهما يرسمان الحدود على خريطة المدينة المقدسة، وهو ما يعرف بخط الهدنة الذي قسم المدينة إلى شطريْن: الشطر الغربيّ والشطر الشرقيّ عام 1948م، واعتمد ذلك في اتفاقية رودوس عام 1949م، فبرزت البوابة شاهداً على تلك الحقبة«.Ar.wikipedia.org»

فضاء المكان:

هي ساحة واسعة من الأسفلت المعفر، في منطقة المصرارة، ولها بابان، باب من الغرب والآخر من الشرق، يتسع كل باب لمرور سيارة واحدة، وكل باب يقع في جدار من الصفيح المحشوّ بالحجارة، والمدهون بالكلس الأبيض وفق وصف إميل حبيبي، وفي عام 1967م سيطر الكيان الصهيوني على البوابة وأزال الجدار الذي يقسم المدينة، وذهبت معالم بوابة مندلباوم، بقيت الساحة التي تربع فيها تمثال الساعة الشمسية، وبالقرب من البوابة أنشأ الكيان متحفاً في المنطقة المسماة خط التماس. ‬‬‬

إخفاء معالم بوابة مندلباوم

ولكي تمحى من الذاكرة اليهودية، ولا تكون معلماً على الفصل بين شقي المدينة، عمل الكيان على هدمها واتخذ من منزل عائلة البرمكي المهجرة الذي يطل على البوابة، وجعله متحفاً ، وبهذا ينتسى المنزل الخاص بمندلباوم، وتنسى البوابة.

وعمد اليهود إلى منطقة واسعة تدعى منطقة مطار قلنديا خارج حدود المدينة، وجعلوها بوابة للعبور إلى القدس الموحدة وفق زعمهم.

تهويد المصطلح

(بوابة إلى معبر)

عهدنا كلمة بوابة وهي بالعبرية (شَعَر ، والشين في العبرية ثاء في العربية، والعين غين، وتعني ثغر)، و قد وظفها الاحتلال في تسمية المدن والمغتصبات ( المستوطنات) فنجد (بِتح تكفا) وهي ملبس المنطقة القريبة من رأس العين وكفرقاسم، والمغتصبة (شعاري تكفا) الواقعة على أرضي عزون عتمة، وعندما وضعوا البوابة بينهم وبين الأردن أطلقوا عليها (معبار)، فهو كما يرون أنها بين دولتين، وبدأ الفلسطينيون يطلقون على البوابات التي تناسلت من بوابة مندلباوم معابر، وهي بوابات وليست معابر، ونرى أنّها حواجز كما أشار إلى ذلك عزمي بشارة عندما نسج عباءة روايته الحاجز.

(قاف هتيفر)

للوقوف على تحليل المصطلح في رواية الحاجز لعزمي بشارة، فقد كتب يقول: : كاف هتيفر (خط التماس) مستعار من الخيط الذي يُرتق به الثوب، إنّه الخيط الذي يشير إلى الرتق أو الفتق، أو إلى الرقعة في الثوب يصلحها، ويؤكد وجودها في آن، وإنّه الوصلة بين قطعتي قماش أو الجلد الآدميّ عند خياطة الجرح بعد عملية جراحيّة. (الرواية: ص19)

فكلمة قاف تلفظ قافاً، وترسم قاواً، من القوة، والخيط عند يمد يأخذ قوته، ففي العبرية (قو الذي يلفظ (قاف)بمعنى خيط، والآرامية: قَوّا (ابن شوشان: 1634).

هتيفر: تُوخذ من كلمة ثفر: استثفر ثوبه وبه، لمّ أطرافه وأخذها من بين فخذيه فربطها في وسطه.(الوسيط:97) ، وخط التماس بين منطقتين فاصلاً بينهما.

ولا يخفى أنّ البوابةَ كانت على خط التماس وهو (قاف هتيفر)، وهذا ما يؤكد أنّها كانت مقسمة ولم تكن موحدة.

صدى البوابة في الأدب الفلسطيني

القارئُ لرواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا)، يجده يقف عند هذه البوابة الذي مضى عليها ردحاً من الزمن يقترب من عشرين عاماً، ويجسد ذلك في القصة الرمزيّة التي تحدثت عن ذلك الطفل الذي تُرك عشرين عاماً، وقد ذهب إلى القول: إن هذه الحكاية الرمزيّة تجسد هذا المكان الذي أقف عنده بعد مرور عشرين عاماً، وهذا المكان هو بوابة مندلباوم، فقد كتب يقول:

"حين وصل سعيد إلى مشارف حيفا، قادماً إليها بسيارته عن طريق القدس"، وكما يشير إلى الزمن في الرواية فيقول:

"هذه حيفا إذن بعد عشرين عاماً"، ثم يتحدث مع زوجته قائلاً: "أتعرفين طوال عشرين عاماً كنت أتصور أن بوابة مندلباوم ستفتح ذات يوم"...، ويوجه نقده واصفاً الواقع "لكن أبداً أبداً لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى ، وقد أكون مجنوناً لو قلت لك إنّ كلَّ الأبواب يجبُ ألا تفتح إلا من جهة واحدة، وأنّها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة".

(عائد إلى حيفا، غسان كنفاني، ص 2)

بوابة مندلباوم في الرواية العبرية

رواية داليا كوهين قنوهل، معبر مندلباوم، وفي العبرية:

تتحدث داليا في الرواية عن معبر مندلباوم فتقول: إنّها زارت وعشتار شخصية في الرواية المعتقل القريب من بوابة مندلباوم التي تفصل بين الشرق والغرب، وتشير إلى أن بوابة مندلباوم قد قسمت القدس، وكانت بمنزلة همزة الوصل وهمزة القطع بين العائلات، وتعد البوابة التي تقود من يسكن شمال فلسطين من طبريا إلى تخوم القدس وأروقتها العتيقة.

(مريم فوزي ، صراع الهوية في الشخصية اليهودية، ص279)

الخاتمة:

إن إخفاء المعالم وتحويلها من شكل إلى آخر لا يحجب التاريخَ لتلك المنطقة التي كانت شاهداً على مكانة القدس في الذاكرة الفلسطينية، فهي بوصلة الفلسطينيين والعرب نحو معلم دينيّ متجذر في العقيدة، فالقدس مهوى الأفئدة، وتاريخها قد نقش على معالمها المادية الباقية رغم محاولات الاحتلال طمسه، ويبقى للتاريخ كلمته في الحديث عن هذه البوابة التي جسدت تاريخاً في سجلات القضية الفلسطينية، فهي خالدة في كتب التاريخ ، وروايات الكتاب، ولا يمكن تجاهلها مهما يحاول الاحتلال تغيير المعالم واسقاطها من ذاكرة الأجيال، فبوابة مندلباوم حاضرة وشاهد على تاريخ القدس، وليس كما يزعم الاحتلال أن القدس موحدة منذ بزوغ التاريخ.

المراجع والمصادر

1- إميل حبيبي، سداسية الأيام الستة، دار الجيل للطباعة والنشر، منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة الإعلام والثقافة، ط3، 1984م.
2- أنيس، إبراهيم وآخرون، المعجم الوسيط، الطبعة 2، القاهرة، 1972م.
3- بشارة، عزمي، رواية الحاجز شظايا رواية ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2006م.
4- فوزي ، مريم، صراع الهوية في الشخصية اليهودية في رواية معبر مندلباوم لداليا كوهن، مريم فوزي، مجلة رسالة المشرق
5- كنفاني، غسان، رواية عائد إلى حيفا، دار منشورات الرمال، قبرص، 2015م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى