حقوق الإنسان ومسألة عالميتها واحترامها
تعاني شعوب العالم على تفاوت من أزمات اقتصادية وسياسية. بيد أن هذه الأزمات لا تحصل على التناول الوافي بالغرض. ويجب وضع مبادئ ثقافية وقضائية واقتصادية وسياسية للتصدي لهذه الأزمات. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق المبادئ وهي في صيغة مجردة. لتحقيق تلك المبادئ من السليم وضع المبادئ في صيغة محددة. إن الشعوب التي تعاني من مشكلات معقدة وكثيرة ليس في وسعها ترف الإتيان بالفكر المجرد دون أن يكون له إمكان توجيهه الوجهة الواقعية. ومن الترف أيضا أن يؤتى بالفكر المجرد في مجتمعات فيها تمس الحاجة إلى المعرفة العملية وإلى الفكر الذي يشجع على نحو أكثر صراحة ومباشرة على المشاركة والديمقراطية وما إليهما. ويمكن للفلسفة أن تساعد البشر على بلورة التفكير للتصدي للأزمات القائمة. لقد حاولت الفلسفة الدخول في سياق الواقع واستجابت للمشاكل القائمة في الزمان والمكان. بحث أفلاطون، على سبيل المثال، عن حلول لمشاكل المدينة-الدولة اليونانية، وحاول ابن رشد التوفيق بين الدين والعقل.
والدوغما عنيدة بمعنى أنها تتسم بشدة اليقين وبقوة التمسك بها والتشدد في التمسك بها. وهذا التناول لا يشمل المجال الديني، فالتناول العقدي الديني يختلف عن التناول العقدي غير الديني. والمتقيد بالدوغما تصعب عليه الاستجابة إلى الحالات والظروف المستجدة والمتغيرة. ونظرا إلى صعوبة استجابة الدوغما إلى الحالات المستجدة وإلى تحجرها تقريبا فإن التفكير الدوغمائي بطيء الحركة نسبيا. ومن سمات الفكر الدوغمائي التعصب أو ثنائية التفكير. وثنائية التفكير مقيّدة لأنها لا تسمح بتصور ومراعاة الدرجات الواقعة العديدة بين الدوغما ونقيضها.
والدوغما نقيض الشك، لأن الدوغما يقينية أو موقنة. وهو يقين قد يكون متطرفا ومطمئنا وساذجا وساكنا وسخيفا. ونظرا إلى أن الدوغما يقينية فهي مطلقة. وتكمن في اليقين صفة التطرف. ومحدودية عِلم الإنسان تنم عن جهله. ومن الخطوات اللازمة للإفلات من الجهل هو الشك الذي هو طبعا نقيض اليقين الدوغمائي. ولا يتوفر ما يفي بغرض التمتع بالحرية في ظل الفكر الدوغمائي، إذ لا يمكن في ظل ذلك الفكر الإفصاح الفكري والانطلاق الفكري. وفي غياب حرية الانطلاق الفكري يصعب على الإنسان الذي يميل بفطرته إلى الحرية أن يمارس حقه في الحرية. وبما أن الكرامة الإنسانية لا تتوفر في انعدام الحرية فإن انعدام الحرية يعني غياب الكرامة الإنسانية.
إن من المهم القيام بالتفكير.ومن المهم أيضا أن يسلك المرء وفقا لفكره. مما ينطوي على قدر أكبر من الفائدة أن يتجاوز الفكر حدود التجريد إلى حيز التحقيق والإعمال والواقع. وعلى الرغم من ذلك، فإن الفكر المجرد لديه القدرة على فهم الواقع وإدراك العلاقات السببية. وثمة حاجة إلى الفكر ذي التوجه العملي في الظروف التي يكون فيها للفكر ذي التوجه العملي صلة أكبر بتحسين تلك الظروف.
وتعاني البلدان النامية من مشكلات معقدة وكثيرة في شتى المجالات. ومن هذه المشكلات مشكلات تحديد الهوية والحرية والديمقراطية والحقوق السياسية وحقوق الإنسان. في البلدان النامية – وفي الحقيقة في جميع البلدان - من اللازم أن يكون الفكر أقل تجريدا وأكثر تحديدا وأن يكون التوجه الفلسفي ذا توجه أكبر إلى الواقع والعمل. تناوُل هذه المشكلات في هذه البلدان يكون أشد فعلا وأثرا في السياق الفكري ذي النزعة العملية وليس ذا النزعة التجريدية.
ولكل مجتمع خصوصياته. ومن حق الشعوب أن تراعى تلك الخصوصيات. والفكر الأكثر تحديدا ذو النزعة الواقعية أكثر مناسبة لتناول مشكلات الشعوب النامية مع مراعاة خصوصياتها.
ولكل الناس الحق في التفكير في الماضي والحاضر والمستقبل وفي دراسة حالة الحاضر وأزماته وفي تقييم حياتهم وظروف معيشتهم. وفي هذا العالم الذي يسيطر فيه رجال السياسة وينشط فيه العاملون في المجال العام ينبغي للناس، ومن بينهم طبعا المثقفون والمطلعون، أن يقوموا بالرصد والتحذير ولفت الانتباه وأن يجعلوا الشعب يقظا متنبها وواعيا بحالاته وأزماته ومشكلاته الاقتصادية والسياسية.
ويتعلق التنظير بالفكر. والتنظير أو الفكر النظري هو وسيلة أو أداة لتفسير الظواهر التي يمكن أن تخضع للتفسير عن طريق التوصل إلى العلاقات السببية بينها. وليس من الصحيح وضع نظرية ثُمّ ليّ الواقع ليناسبها. ليس من السليم، مثلا، القول إن أفريقيا تخلو من الحضارة لتبرير الإساءة إلى الأفارقة. إن حيوية الواقع وغموضه وتجلياته تتجاوز المفاهيم المألوفة وتفسيرها يفتقر إلى الدقة والشمول. ولتحقيق فهمنا للواقع من اللازم أن تؤخذ في الحسبان صفات الواقع.
ونظرا إلى أن الطبيعة البشرية ذات طابع عالمي ومستقل عن الحدود الجغرافية والزمنية فإن حقوق الإنسان ذات طابع عالمي ومستقل عن هذه الحدود. ونظرا إلى قِدَم الطبيعة البشرية فإن هذه الحقوق المتأصلة في الطبيعة البشرية قائمة قبل وضع الصكوك الدولية من اتفاقات واتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات وغيرها المعنية بحقوق الإنسان. ونظرا إلى ذلك، فمما يتنافى مع عالمية حقوق الإنسان الانتقائية في ممارستها، واللجوء إليها حسب الفائدة التي يجنيها الشخص الذي يلجأ إلى هذه الانتقائية، مسترشدا بمقتضيات أهداف السياسة الخارجية والمصالح الاقتصادية والعسكرية.
من الطبيعة البشرية أن تكون للبشر حقوق جوهرية في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن هذه الحقوق الحق في العيش والحياة والحرية والكرامة، وفي السعادة وفي التحرر من الخوف والعوز وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن لحقوق الإنسان ولقيمة الإنسان المتأصلة فيها من الأهمية ما يجعل من الإثم الكبير إخضاعها للاعتبارات السياسية أو استخدامها أداة للضغط السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو للإبقاء على نظام من النظم الظالمة العسكرية أو الاحتلالية أو العنصرية أو التوسعية أو الاستيطانية. والقيام بذلك من شأنه أن يؤدي يقينا إلى تقويض الثقة بنزاهة من يدعي أو يتشدق بالمناداة باحترام حقوق الإنسان.
وبما أن الطبيعة البشرية، التي تتأصل حقوق الإنسان فيها، واحدة فإن هذه الحقوق يترابط الواحد منها بالآخر ترابطا عضويا. وهي بالتالي تترابط بعضها ببعض في وجوب حمايتها، بمعنى أن حماية حق واحد من حقوق الإنسان تتطلب حماية الحقوق الأخرى، وانتهاك حق واحد منها انتهاك للحقوق الأخرى. لا تصح تجزئة مفهوم الحقوق بأن يعترف بحق ولا يعترف بحق أو حقوق أخرى، أو تجزئة مفهوم الحماية بأن يعترف بوجوب حماية حق ولا يعترف بوجوب حماية حق أو حقوق أخرى. لا تراعى حقوق الإنسان حينما يمارس الحق في التنمية الاقتصادية بينما لا يمارس الحق في الإعراب عن الرأي. إن ممارسة الحق في التنمية الاقتصادية لا تغني عن وجوب ممارسة الحق في التعبير عن الرأي.
ونظرا إلى أن البشر ينتمون إلى جنس واحد لا يصح أن يجزأ الإقرار بحقوق الإنسان تجزئة جغرافية بأن يقر بحقوق الإنسان لشعب دون شعب آخر في منطقة أو دولة أو قارة واحدة، أو لفرد دون فرد آخر في نفس الدولة لمجرد أن ذلك الفرد الذي لم يتم الإقرار بحقوقه يتكلم لغة ما، مثلا اللغة العربية، أو يعتمر كوفية ويضع عقالا على رأسه ولا يضع قلنسوة أو قبعة، أو ولد في مكان مثل نابلس أو رام الله أو بيت لحم ولم يولد في مكان أخر.
وللسبب الجوهري نفسه لا يصح أن يجزأ الإقرار بحقوق الإنسان تجزئة على أساس اللون أو الدين أو الانتماء العرقي أو الطائفي أو المذهبي. لا يصح أن يكون لشخص ولد في أوروبا حقوق إنسان أقوى وأكثر من حقوق الإنسان الفلسطيني لمجرد أن الأول ولد في الغرب بينما يماثل لون بشرة الشخص الآخر لون التراب الفلسطيني.
والاعتراف أو الإقرار بحق من حقوق الإنسان شيء وضمان ممارسة هذا الحق شيء آخر. مما له صلة وثيقة بانتهاك حقوق الإنسان التطورات المذهلة التي حدثت في السنوات القليلة الماضية على ساحة الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية. لقد كانت نهاية الحرب الباردة وانهيار ما كان يسمى بالكتلة الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي أحداثا تاريخية قلبت حالات دولية كثيرة وغيرت كثيرا من المعادلات والعلاقات الدولية. وكانت هذه الأحداث من الأسباب التي آدت إلى نشوء حالات انفعال قومي متطرف وعصبيات عرقية كانت مكبوتة أو خافتة في ظل الحكم السابق. وإن الهجمة الهمجية على الشعب الفلسطيني المعاني وأراضيه انتهاك سافر لحقوق الإنسان الأساسية: انتهاك لحقوقهم في الحياة والتمتع بالحرية والاستقلال والأمن والتحرر من الخوف.
ونظرا إلى عالمية حقوق الإنسان – وهي العالمية المستندة إلى وحدة الجنس البشري – لا يصح أن يقصر تحديد هويتها أو تدوينها أو تعزيزها أو حمايتها على حفنة من الدول تتمتع بالتفوق السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو التكنولوجي. إن عالمية حقوق الإنسان، أو الطبيعة العالمية لهذه الحقوق، هي النقيض التام لأن ينتحل شخص أو فئة أو جماعة أو دولة أو ائتلاف أو تحالف لنفسه مهمة وضع معايير لحقوق الإنسان ومهمة إصدار الحكم على مدى مراعاة الآخرين لها ومدى تمسكهم بها.
ولتأصّل حقوق الإنسان في الطبيعة البشرية لا مفر من أن يتضمن ضرورة حماية هذه الحقوق. فتأصّل الحقوق في الطبيعة البشرية يقتضي بالتأكيد حماية هذه الحقوق. وحماية هذه الحقوق من شأنها أن تستدعي عدم انتهاك هذه الحقوق وتستلزم توفر ما يلزم لحمايتها من موارد مالية وقانونية وسياسية وثقافية. ويقصد بتوفر المورد السياسي توفر الإرادة السياسية الحكومية وغير الحكومية على حمايتها. فإذا قيل بوجوب حماية حقوق الإنسان دون توفر الموارد اللازمة لحمايتها وصونها فقد ينال ذلك من أثر هذه الحقوق.
لقد عقد في فينّا في حزيران/يونيه 1993 المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان. وأتاح عقد هذا المؤتمر فرصة طيبة لأن يقيّم المجتمع الدولي منجزاته ووجوه قصوره في مجال تعامله مع حقوق الإنسان في فترة ربع القرن التي انقضت منذ عقد المؤتمر الأول في طهران عام 1968. وتطرق مؤتمر فينّا إلى قضايا حيوية من قبيل احترام القيم الثقافية والدينية والأخلاقية لكل الأمم، وعدم قابلية حقوق الإنسان للتجزئة، ورفض الانتقائية والكيل بمكيالين والتلاعب والمناورة السياسية بقضية حقوق الإنسان. واعتمد مؤتمر فينّا وثيقة ختامية، هي إعلان وبرنامج عمل فينّا. وهذه الوثيقة ذات مغزى، إذ تمثل تحركا صوب تعزيز وحماية حقوق الإنسان بتأكيدها على عالمية هذه الحقوق وعلى عدم قابليتها للتجزئة.