جرح جناح الطير
نزل رفيق من سيارة البوصطة (التنقل) القديمة العفنة والكريهة برائحتها ، وبصعوبة لقيوده من اليدين والرجلين تناول حقيبته التى جمعت القليل من حاجياته الشخصية ، وبدأ التفتيش .
قال الشرطى الأثيوبى بالعبرية : ما شيم شلخا ؟
لم يفهم رفيق ما قاله الشرطى........
فقال ضابط الاستخبارات الذى يتقن العربية
– يقول لك ما اسمك؟
– أجاب رفيق : مكتوب معه فى الملف والكارت ألم يقرأه؟
– غضب الضابط من إجابة رفيق :
عليك أن تجيب للتأكد.
– اسمى رفيق العسقلانى
– هل أنت جديد؟
– نعم.
أنهى الشرطى تفتيش الحقيبة بهمجية وترك نصف الأغراض على الأرض وأبقى الحقيبة مفتوحة وأومأ لرفيق بالدخول لخلع الملابس لتفتيشه عارياً.
رفض رفيق أن يخلع ملابسه ، فنادى الشرطى على الجنود حوله ليخلعوا ملابس رفيق بالقوة.
دفع رفيق الشرطى فوقع على الارض وبدأ العشرات من الشرطة بضرب رفيق بالهروات حتى فقد الوعى .
أفاق رفيق على نفسه وهو مكبل اليدين والقدمين فى حلقات سرير أربعة فى زنزانة مكث فيها أسبوع على هذا الحال.
وفى نهاية العقاب دخل رفيق سجن عسقلان المركزي وهناك تعرف على عشرات الأبطال من أبناء شعبه وقابل إخوانه الذين اعتقلوا قبله فتحدث لهم عن تجربة التحقيق والعصافير وأخبار الناس خارج السجن.
دخل رفيق الغرفة فشعر بالأمان واستقبلوه الشباب بالترحاب والحب والإعجاب بصموده.
كانت الغرفة ضيقة ولها رائحة كريهة ففيها عشرة أسرة كل منها بطابقين وحمام مع مرحاض وشباك صغير مغطى بالحديد يمنع الهواء ومحاط بالأسلاك الشائكة، والغرفة كل شئ في حياة العشرين أسير الذين يعيشون فيها، فهي المطبخ والحمام والمسجد والمدرسة والجامعة وغرفة الرياضة والنوم والضيافة ويعيشون جماعة في كل صغيرة وكبيرة فوجد القديم والجديد والكبير والصغير والمثقف والأمي وابن المدينة والقروي والفلسطيني والعربي من غزة والضفة وفلسطين المحتلة، المتدين والعلماني وكل أسير منهم له قصة وبطولة ومأساة ومواقف ألم وهَمْ وحزن وأمل وطموح وبسمة.
في الغرفة تلفاز واحد يتقاسمه العشرون فمنهم من يحب الرياضة والثاني الأخبار وثالث البرامج السياسية ورابع الأفلام والمسلسلات وخامس البرامج الوثائقية واخر الصور المتحركة أو البرامج الترفيهية ويحقق كل من الحد الأدنى من رغبته احتراماً لأخيه.
إذا مرض أحدهم يجمعون له فاكهتهم على ندرتها، وإذا علم أحدهم بموت عزيز أقاموا له العزاء واجتمعوا حوله يواسونه بمصابه ويخففون عنه.
وإذا تلقى أحدهم خبراً سعيداً باركوا له فيه وأشعروه بأنه بين أهله وذويه فوزعوا الحلوى والعصير.
يعيشون مع شعبهم فرحته وألمه وانتفاضته ويترقبون الأحداث وكأنهم خارج السجن، هم يدًٌ واحدة وقلبًٌ واحدٌ على السجان الذي يقتنص كل فرصة لينقض عليهم فصنعوا بوحدتهم جدار العز وملاحم البطولة، فلم يجد بينهم سبيل ضعف ولم يؤتوا من قبل أحدهم.
هم جسدٌ واحدٌ كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً، متآلفون فأوجدوا بينهم التفاهمات الداخلية في الغرف والقوانين التنظيمية كل وفق رؤيته ومبادئه، ووضعوا اللوائح الاعتقالية بين الفصائل الإسلامية والوطنية ليضبطوا أوضاع قلاعهم ويقاوموا إدارة السجن التي لا تنفك عن سحب إنجازاتهم ومحاولة السيطرة عليهم، فسيطروا بجوعهم وأيام نضالهم وخطواتهم ملاحم تشرف شعبهم، وأوجدوا واقعاً عزيزاً كريماً مع السجان الذي لم يقوى عليهم.
فكل حياتهم قائمة على الحوار والنقاش والمشورة وجميعها منظمة ومدروسة ولا يسمحون للعابثين المس بها أو تخريبها ولا يفرقون في المحاسبة بين عنصر أو قائد جميعهم كأسنان المشط.
تعرف رفيق على زملاءه التسعة عشر في الغرفة وتطورت علاقته بهم جميعا، فأحبهم وأحبوه وكان يحمد الله وهو يرى مآسي وأحزان وهموم من حوله.
فتعرف على أبي ياسر الذي كان يعاني من العديد من الأمراض ويشعر بالاختناق من الأزمة الصدرية المزمنة ولم يجد الاهتمام الصحي لتتحسن حالته،،
ولاحظ في النزهة أخ كفيف عزيز النفس يقوم بكل احتياجاته بنفسه ولا يثقل على الآخرين ويكون مبتسما في معظم أوقاته،
تنقل رفيق من سرير ( برش) إلى آخر وسمع من أصحابها بطولاتهم وآلامهم وأّمالهم وتأثر بأبي هشام الذي أمضى في سجنه ما يزيد عن سني حياته في الحرية.
– قال أبو هشام: هذه السنة السادسة والعشرون من اعتقالي يا بني.
– تألم رفيق وسانده: جعلها في ميزان حسناتك يا عم أبا هشام.
– أدعو الله أن تكون كذلك ولكني أتساءل لماذا أبناء شعبنا والفصائل والمؤسسات تهضم حق هذه الثلة الصابرة منهم ، تصور يا بني أني أتفاجأ من كل مناضل جديد كونه لا يعرف عنا شئ، فهل يعدوننا أمواتاً وإن كان كذلك فلنوصي أهلنا بإقامة بيوت العزاء علينا.
– لا قدر الله يا أبا هشام فالعديدون ممن أمضوا فترات طويلة فرج الله عنهم ويعيشون بين الناس في قمة الاحترام والتقدير أو السجن لا يبني على أحد، كما يقولون يا عم.
– أخشى ما أخشاه يا رفيق أن يحدث هذا مع المجاهدين الجدد والمحكومين أحكاماً عالية وتتكرر مأساتنا معهم ويمضون زهرة شبابهم وأجمل سني أعمارهم في هذه العتمة وبين الجدران.
أليس من الغريب يا رفيق أن يكون شخص منا بطل عند تنظيمه خارج السجن يطلب فيُطاع وإذا ما دخل السجن تنتهي صلاحيته لأن الاستفادة من إمكانياته وقدراته وتضحياته قد توقفت.
وإذا ما خرج ويجد أبناء جيله يتمتعون بالحياة وأبناءهم شباب فيخرج دون مساندة ليبدأ رحلة الحياة على مشاقها من جديد، أليس من الظلم عدم مساندتهم ومساعدتهم والوقوف بجانبهم لتعويضهم؟؟
– معك حق يا أبا هشام، وهل عندك أبناء؟؟
– نعم عندي هشام تركته ابن عامين فقط وأنا الآن جد لثلاثة أطفال.
ترك رفيق أبا هشام وهو يحمل في قلبه هما عليه ودعا الله له بالفرج القريب.
جلس في اليوم الثاني مع زميل آخر يسمى رفعت وعلى جانبه صورة لحاجة كبيرة فأساله:
– من هذه الحاجة يا رفعت؟؟
– إنها أمي يا رفيق توفيت قبل سنة ونصف.
– الله يرحمها ويجمعك بها في الجنة، فمتى زارتك المرة الأخيرة؟؟
– قبل وفاتها بيوم كانت مريضة ومثقلة بالألم وفي موعد الزيارة أجبرت إخواني على تسجيلها للزيارة فعارضوا وحينما قالت لهم أن لم ازور رفعت فلن اقعد عند أحد منكم في بيت فنزلوا عند إصرارها ورغبتها.
كانت أمي سندي الوحيد في الحياة، فبنت لي بيتاً من مدخراتي وما استطاعت توفيره وجمعت لي مهر عروس لتفرح بي فور الإفراج عني وقبل حضورها للزيارة جمعت إخواني الكبار وأخذت عليهم عهداً أن لا يتخلوا عني إذا ما حصل لها شئ فعاهدوها.
وحينما حضرت للزيارة بمساعدة الأهالي نظرت لها وكأني أراها لأول مرة ، كانت تتحدث بمشقة ووجهها قاتم ويديها ترتجف فعاتبتها على حضورها وهي مرهقة فقالت:
يا رفعت يا حبيبي، أشعر بالراحة حينما أراك واليوم أراك وكأني أودعك فيا قلبي كنت أتمنى حضور يوم فرجك وفرحك ولكن الأعمار يا حبيبي بيد الله، فبيتك ومهر زوجتك أمانة عند إخوانك، أخذتُ عليهم عهد مساندتك وهم أوفياء لحالك فسامحني يا رفعت إن مت، فالموت يا بني حق وليس بيدي، واعذرني لأني سأقطعك من الزيارة فهذا يا حبيبي قدرنا وحكم الله على وعليك، ولو كان الأمر بيدي لبقيت على قيد الحياة ليس حباً فيها بل لأجلك وكل ما أخشاه يا رفعت أن تشعر بالوحدة من بعدي وخاصة بين أصحابك الذين يزورون ويحضرون لهم أمهاتهم وزوجاتهم طلباتهم ويساندوهم، فخوفي أن يقصر أحد معك بعد موتي في تأمين طلباتك ، ولكن الله لن ينساك فكن دوماً معه حتى يبقى معك، ولا تيأس من رحمة الله فالسجن يا رفعت لا يدوم على أحد وخذ بالك من دينك وإيمانك واحفظ ما استطعت من القرآن الكريم وصلي لله إذا حزنت أو شعرت بضيق ولا تنساني يا نور عيني من الدعاء....
حينها رن جرس انتهاء الزيارة فودعْتَها وقبَّلتُ يديها وطلبت رضاها ودعائها وأوصيتها بصحتها وحينما وصلت للبيت ..... انقطع رفعت عن الحديث وحشرج صوته وذرفت دموعه وقال – لقد توفت يا رفيق في نفس الليلة.
تأثر رفيق بحديث رفعت الذي بدى عليه الحزن كثير الألم وأخذ يواسيه ووضع يديه على كتفيه وقال : قدر الله يا رفعت الله يرحمها ويحسن مثواها.
وفي اليوم الثالث جلس رفيق مع زميله أبي علاء على الشباك المغطى بالحديد لعلهم يلمحون السماء ليلاً ، وإذا برفيق يشاهد القمر من بين الأسلاك وسأل أبا علاء:
– هل رأيت أجمل من هذا القمر؟؟
وبصوت يملأه الحنين قال أبو علاء: يارا يا صديقي أجمل مخلوق على وجه
الأرض أجمل من ضوء البدر ليلة كماله، وزرقة السماء ونسمة الربيع وصوت الجدول المغطى بالغصن الأخضر وأحلى من خيوط الشمس الذهبية وأجمل من بياض الثلج، يارا قطرة الندى على الزهرة المتفتحة وحبات مطر الشتاء ، يارا يا رفيق مرجانة بل حبة لولو في محار مزين فهي أصفى من ماء العين .
– لهذه الدرجة يا أبا علاء؟؟
– وأكثر من ذلك ، فأهون علي أن أحمل كل المرض على أن لا يمسها سوء، فهي البسمة البريئة الجميلة وسط العذابات، والكلمة الرقيقة بين الآهات وطلعة بدر في ظلام حالك وزهرة رقيقة بين الأشواك.
يارا يا رفيق نسمة حب ووردة معطرة وطير مغرد وسحر أخاذ كم يا رفيق أتمنى ضمها بين ذراعي وحضنها على أضلعي وأن أقبلها بقدر شوقي يارا حلمي الذي انتظره وقلمي الذي أكتب به ، وعاطفتي التي تخرجني بجمالها من هذه العتمة والأسلاك.
يارا كل قلبي ومهجته وكل ما أتمناه يا صديقي أن أعوضها حرمانها وأشعرها بالحنان الذي افتقدته.
يا هل ترى يا رفيق ماذا تتصورني الآن؟؟ فلقد ولدت بعد سجني ولم تعرفني إلا على شبك الزيارة والصور، وهي الآن في البستان بنت الرابعة من العمر كلما نظرت لصورتها تمن علي بشعور الأبوة الذي أعيشه بفضل الله ثم بفضل يارا أصبحت أبا لها يا رفيق الآن علمت خشية أبي علي وحب أمي لي .
– الله يجمعك بها يا أبا علاء وتعوضها طفولتها فأنا ذكرتك بمن تحب وفتحت عليك بابا قد تتألم كلما عشت الفراق عنه.
– بالعكس يا رفيق فأجمل اللحظات هي التي أتحدث فيها عن طفلتي وملاكي وأجمل الصور في نظري ملامحها.
مرت الأيام وفي أحدها جلس على سرير زميله أشرف ويقال له أبو رائد يسأله:
– كم لك يا أشرف في السجن؟؟ فأجاب:
– ثمان سنين.
– قال رفيق: وهل لك أولاد؟؟
– لي ابن وحيد اسمه رائد وكان عمره أيام يوم اعتقلت فعرفني وعرفته على شبك الزيارة في سجن حتى قال بابا.
ومع مر السنين قربته إلى فأخرجت له الحلوى في كل زيارة وفي إحدى الزيارات سألته:
– هل تأتي لي أم للحلوى يا رائد. فأجاب : للحلوى.
تأثرتْ زوجتي بجوابه وتألمَت لأجلي وبدأَت معه مسيرة جديدة من التربية ليتقرب إلى ، وبقيت احتفظ له بالحلوى فحرمت نفسي من كل شئ في السجن واذكر أن أحد الأخوة وزع حلوى لزواج أخيه وانقطعت الزيارة بسبب أحداث وانتقلت من سجن إلى آخر فآثرته بها وحينما زرت أخذتها وإذا برائحتها كريهة فلم يأكلها رائد ولم آكلها أنا، وعلى شبك الزيارة سألته بعد أشهر:
– هل تأتي لي أم للحلوى يا رائد؟
– ففاجئني بقوله: آتي لأجلك يا بابا فأنا أريدك أن تخرج من السجن لتحملني كما يحمل عمي أبناءه وأحضنك وتشتري لي دراجة كما صديقي محمود.
– تمنيت حينها لو قبلته وعانقته أو وضعته بين ذراعي ولمست شعره بيدي وحينما كبر تعلقت به وتعلق بي وقبل أشهر دخل المدرسة وكان يذهب مع أبناء عمه إليها وحينما قطع الشارع السريع بين قريتنا والمدرسة ضَرَبَتْهُ سيارة مسرعة وتوفي قبل أن يصل للمستشفى.
ذرفت دموع أشرف على ابنه الأحب وذرفت دموع رفيق على أشرف الذي لم يتمالك نفسه.
مرت الأيام والسنين صعبة على رفيق وأشد ما كان يؤلمه أنه كان أثناء تضحياته يأمر فى تنظيمه فيطاع فى كل شىء وحينما دخل السجن وكأن صلاحيته قد انتهت كالسلعة ، وتساءل أى ثورة هذه؟
وأى تنظيمات تحترم ذاتها وقياداتها وعناصرها وهى تبقيهم فى السجون لثلاثين عام متتالية فى السجون والمعتقلات ؟
وإلى متى سيبقى حال الأسرى ومعاناتهم على هذا الحال؟؟؟