تجديد الخطاب الديني.. بين التأصيل والتحريف
يؤكد الشيخ محمد بن شاكر الشريف في مقدمة كتابه أن الحياة تجري وفق سنة الله، لكن أهل الباطل يسعون إلى إطفاء نور الحق، مستخدمين كل الوسائل لمحاربة أهل الحق لتحقيق المبتغى، ويشير إلى تعالي نداءات "تجديد الخطاب الديني"، ممن يزعمون أنهم قادة الفكر والمعرفة. ويتساءل الباحث عن معنى تجديد الخطاب الديني، وما مراد المتكلمين به؟ ومتى كانت البدايات الحقيقة له؟ وما هي أهدافهم وماهي وسائلهم لتحقيق تلك الأهداف، وأثر ذلك على المسلمين في دينهم ودنياهم؟ وما هو مستقبل هذه الدعوة؟ وماهو دورنا إزاء ذلك؟ ويختم مقدمته بشرح الخطوات المنهجية التي اتبعها لمناقشة هذه التساؤلات.
التجديد من الناحية التأصيلية:
يستهل الكاتب هذا الفصل بتعريف معنى كلمة الجديد لغويا واصطلاحا، ويشير إلى أنه قد وردت في القرآن الكريم كلمة "الجديد"، في الحديث عن البعث بعد الموت، و يتبين له أن "تجديد الدين لا يعني تغييره أو تبديله، وإنما يعني المحافظة عليه"، ويخلص إلى أن التجديد عملية إصلاحية وليس تخريبية؛ التجديد المشروع هو إعادة الدين إلى النحو الذي كان عليه في زمن النبوة، ويؤكد أن التجديد مطلوب شرعا وواقع قدرا، أما طلبه الشرعي، ففيما جاء من التكليف بالعمل بما فيه وتبليغه للناس، وثمة آيات كثيرة تحث على التمسك بالدين والعمل به، فضلا عن أحاديث نبوية تشير إلى حاجتنا إلى الفهم و العمل، فالحفظ من غير فهم أو عمل به يضيع العلم، لذا يحتاج المسلمون إلى نشر علوم الدين والعمل به، لا سيما وأن العلم ينقص بموت العلماء، مما يوقع في الجهل والضلالات ويؤدي إلى التهلكات، وبالتالي تعدد الفرق الدال على التباين الكبير في القدرة على الفهم الصحيح، مما يدل على الحاجة إلى التجديد من تلك الفرقة الناجية.
في مبحث آخر يتحدث الشيخ محمد بن شاكر الشريف عن ضوابط التجديد، ومن أهمها: صفات المجدد، عموم الرسالة، عصمة الأمة، من أن تجتمع على خطأ، واتفاق الشرع الصريح مع العقل الصحيح والمصلحة. كما أنه لا اختلاف في الشريعة، لأن الدين ليس من وضع البشر، والتجديد المشروع هو الذي يتعامل مع الشريعة على أنها وحدة واحدة، فلا يأخذ البعض ويترك البعض الآخر، وينبغي أن يقوم على فهم الشريعة وتفسيرها، بلغة الضاد وأساليبها.
ويختم الباحث الفصل الأول مؤكدا على أن التجديد ليس لفظا غريبا على لغتنا، ولا من مفردات العصر الحالي، بل هو لفظ أصيل في لغة العرب، وجاءت مادته في النصوص الشرعية، ويتساءل : هل الذي تقدم هو مقصود المنادين بتجديد الخطاب الديني في وقتنا الحاضر؟.
التجديد من الناحية التحريفية:
يستهل الكاتب هذا الفصل بالإشارة إلى وجود اتجاهين: اتجاه ينادي به كما ورد في الفصل الأول وهم قلة، وغالبيتهم من أهل الاختصاص، لكن صوتهم لا يسمع بسبب صخب الفريق الآخر. ذلك الاتجاه الذي ينادي بالتجديد، ويفهمه على أنه تغيير للمحتوى وليس تطويرا للأسلوب، ويرى أن التغيير يجب أن يطال أصول الدين وفروعه، ليتوافق ومتغيرات العصر. وتتجلى خطورة هذه الدعوة في إخضاع الدين للعقل البشري، مما يعرضه للتغيير المستمر، مما يفقد الأمة أهم مصادر عزتها، فتتحول إلى أمة بلا هوية ولا تاريخ، ولا دين، ذليلة تابعة، وهذا ما يتيح الفرصة لجمعيات التنصير التي تنشط في المجتمعات التي تجهل حقيقة الإسلام، فضلا عن قتل روح الجهاد في النفوس، والعبث بحاضر الأمة ومستقبلها، وإيجاد قطيعة السلف.
وبالنسبة للكاتب، فإن ما يقوي خطورة دعوة التجديد بصيغتها المحرفة: مكانة المنادين بذلك، حيث تتاح لهم كل وسائل الإعلام، ثم مساندة الدول الصليبية لهم أدبيا وماديا، كذلك الضعف الشديد للمجتمعات المسلمة، والمجددون المعاصرون مقلدون، ويستندون على حالة الجهل والتخلف التي تتخبط فيها المجتمعات الإسلامية، وإن اتفق خطابهم ظاهريا ودعاوى الغيورين على الدين وأحوال الأمة، لكن الاختلاف بينهما يتجلى في : الأساس الذين ينطلق منه المجددون المعاصرون، والمشروع التجديدي الذي يطرحونه... فهم يطمحون إلى تحويل الإسلام إلى نسخة من النصرانية المحرفة، ومشروعهم لا يحث على العلم للرقي بهذه الأمة، وإنما السعي إلى إلغاء أو تحوير بعض الأحكام الشرعية التي ينتقدها الغرب.
أما ملامح منهج التجديد العصري، فيمكن حصرها في تقدير العقل، العناية الزائدة عن الحد بالمصالح، تقديم الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الشرعي التفصيلي، تعدد القراءات واختلافها، تاريخية الشريعة، الخروج على مصادر الحجة، اختراع علل الأحكام، التيسير والتخفيف، تقليل شروط الاجتهاد. وهذا الاتجاه لكونه غير منضبط بقواعد صحيحة ينضوي تحته الكثيرون، ورغم ما يشيعون في خطاباتهم من قيم التسامح والحرية والاعتراف بالآخر، يتهمون الغيورين على الدين بالرجعية والظلامية والتزمت.
وفي مبحث تشريحي هام، يقسم الشيخ محمد بن شاكر الشريف مراحل تحريف الدين في تاريخنا الحديث باسم التجديد والإصلاح إلى خمس مراحل:
1- البداية كانت ظهرت مع بشائر القرن الثالث عشر الهجري، مع الاحتكاك المباشر بالحضارة الغربية، فدعوا إلى التقريب بين الأديان، وتفسير الجهاد على أنه دفاع عن الأوطان فقط، وإنكار جهاد الطلب، وتقديم شروح لبعض الأمور الغيبية من منظور العلم التجريبي، وبالتالي إنكار حقيقتها. وأطلق على هذه المرحلة "مدرسة الإصلاح" وشخصيتها الأبرز الشيخ محمد عبده.
2- التغريب : وتبدأ تقريبا من الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري، والتغريب حركة فكرية قامت على اتخاذ الغرب النصراني قدوة في كل المجالات، ويمثله في الجانب الاجتماعي قاسم أمين، حامل لواء تحرير المرأة، وسياسيا الشيخ علي عبد الرزاق، وثقافيا الدكتور طه حسين.
3- العصرانية :ظهرت مع منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وتدعو إلى قراءة جديدة للنصوص الشرعية، وإعادة تفسيرها، وفقا لمنجزات العصر العلمية والفكرية، ممّا يفقدها قدسيتها. ومن الأساليب المتبعة في تمرير خطابهم التحريفي : الادعاء بأن العبرة بالقيمة والمضمون لا بالشكل والقالب (فهم يحاربون ستر المرأة جسدها وعفتها، وكذلك العودة إلى النظام السياسي الإسلامي)، ومن أساليبهم المتبعة : دعوتهم إلى الاجتهاد وترك التقليد، استحداث قواعد جديدة للفهم والاستنباط، الغرض منها وضع فقه تابع لمتغيرات الواقع المعاصر. ثم هناك الدعوة إلى التعددية (الهدف منها إهدار الأحكام الشرعية المتعلقة بعلاقة المسلم بالكافر وإلغاء الفروق بينهما، لذا يروج المجددون في كتاباتهم لفظ "الآخر" بدل الكافر، والجانب الآخر للتعددية هو استدعاء النموذج الديموقراطي الغربي، وتصديره لبلاد المسلمين والتبشير به). وأخيرا، ادعاؤهم بأن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان.
4- العولمة : بعد انهيار المعسكر الشرقي، في نهاية ثمانينات القرن العشرين، وانفردت أمريكا بقيادة العالم، وروجت مصطلح "العولمة"، لصهر كل الشعوب في منظومتها الفكرية والثقافية والأخلاقية. وفي ظل صخب صوت العولمة الهادر، سيبدأ النداء بقوة بالدعوة لتجديد (تحريف) الخطاب الديني، بدعوى أنه لن يعود لأي شعب هوية ذاتية أو استقلال فكري وحضاري وثقافي.
أما أخطر الوسائل المتبعة لتجديد الخطاب الديني في ظل العولمة، فهي تحوير المناهج التعليمية وعلمنتها، تزييف التاريخ، وحذف بعض الآيات والمواضيع نهائيا من المقررات المدرسية، ومساهمة بعض الأمريكيين في تعديل المناهج، بالإضافة إلى التضييق على المدارس والمعاهد الدينية، واستخدام القروض والمنح في الترغيب والترهيب. فالمطلوب من المناهج التعليمية، حسب المفهوم العولمي، أن تخدم مفهوم السلام العالمي، وألا تقدم الإسلام كدين متميز عن باقي الأديان المحرفة. كما يتم استخدام وسائل الإعلام وخطبة الجمعة، ولأن هذه الأخيرة أقوى تأثيرا من كل وسائل الإعلام، تحدد نوعية الخطب، وتنتهج سياسة "تجفيف المنابع"؛ منابع التدين عند الناس، فتفصل الدين عن الحياة، وتركز على الشعائر التعبدية و الأخلاق والسلوكيات الحسنة والعلم الدنيوي، ويمنع الخطباء للتعرض لكفر اليهود والنصارى، وكشف تحريفات كتبهم المنزلة. كما تجرى دورات تدريبية مكثفة للخطباء لتعريفهم بمتطلبات تجديد/تحريف الخطاب الديني، وبعضها يتم في الولايات المتحدة الأمريكية. ويتم إغراق الناس بالنتاج الفني، الذي يحرض على الوقوع في الرذيلة والتفسخ الأخلاقي، ويساعد على ذلك الوضع الاقتصادي المتردي وتأخر سن الزواج.
5- فرض التجديد (التحريف) بالقوة : في هذه المرحلة الأخيرة، لجأت أمريكا وحلفاؤها الصليبيين إلى توفير الدعم السخي للمتعاونين معهم من المسلمين، فتتغاضى عما ترتكبه حكومات البلدان الموالية لها في حق شعوبها.
وقد لجأ الصليبيون إلى فرض التغيير بالقوة، بالتهديد تارة وباستخدامها تارة أخرى.. للحيلولة دون نشوء جيل جديد يتمسك بفهم السلف الصالح للدين. تدفعهم عدة عوامل إلى منها: انهيار توازن القوى وانفراد أمريكا بالقوة، طول الطريق وبطؤه، والتي قد تمتد عقودا أو قرونا، والخوف أثناءها من استعادة الأمة الإسلامية عافيتها، ثم هناك وجود معوقات حقيقية منها طبيعة الإسلام العصية على التحريف، ووجود فئة قيض لها الله عز وجل حفظ الدين. كذلك ضعف الأمة العربية والإسلامية، الاستعجال الشديد لإحداث التغيير، واستغلال أحداث الحادي عشر سبتمبر للإعلان عن حقدهم على المسلمين، والترويج لمصطلح "الإرهاب" وإلصاقه بالإسلام والمسلمين. وشنت الحرب الشرسة على الإسلام، وحورب في المدارس والمساجد، بالاستعانة بالأئمة المضللين، لأنه دين يفرخ الإرهابيين، حسب المفهوم الأمريكي.
وتتمثل دوافعهم في إزالة العوائق أمام الخطط الاستعمارية، الاستعداد والتجهيز للمعركة الفاصلة، إيقاف مقاومة العولمة، والاستمرار في الانفراد بقيادة العالم، مع نهب ثروات البلدان وسرقة خيراتها. والهدف الرئيس إفقاد الإسلام خاصية ثبات الأحكام الشرعية، التمكين للحداثة والعلمانية، وضمان عدم عودة الإسلام إلى موقع الريادة، وتمكين الجمعيات والمؤسسات التبشيرية من العمل في بلاد المسلمين، مع فرض هيمنة الثقافة الأمريكية؛ وهذا ما يؤكده انطلاق هذه الدعوة بقوة مع إعلان أمريكا الحرب على بعض البلاد الإسلامية، مما يدل على وجود علاقة بين الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني والحرب الأمريكية الصليبية على الإسلام والمسلمين، والدعوى بأن تجديد الخطاب الديني علاج للتطرف والإرهاب، ويهدف المشروع الأمريكي لتطوير الخطاب الديني إلى عزل الإسلام عن الحياة وتكريس العلمانية في بلاد المسلمين، وربط ذلك التجاوب بالمعونات الأمريكية.
مستقبل دعوة التجديد:
في خاتمة كتابه، يتفاءل الكاتب بأن هذه الدعوى ستطوى كغيرها من الدعوات الباطلة لما حوته من فساد ذاتي، ويرى أن خطرها يستفحل إذا ما التزمت بها الدول، وحاولت فرضها بالقوة، ومنعت أهل العلم من بيان فسادها، وتركت تلك الدعوة تعرض نفسها في سوق الفكر والثقافة، ويحدد دور المسلمين في مواجهة التجديد التحريفي، كل حسب وضعه ومكانته، ويدعو أصحاب القرار السياسي إلى الصمود والمقاومة، والحرص على تلاحم الشعوب.
...............................................................
*" تجديد الخطاب الديني"، الشيخ محمد بن شاكر الشريف، سلسلة كتاب البيان، ط.1 : 1425 هـ/ 2004م.