تجارب المبدعين ومحاولات الهامشيين
يكثر لدى المثقفين النقد اللاذع لبعض ما يمارسه المجتمع، ووصمه بالتخلف والرجعية والتحجر. ويندر أن تجد من هؤلاء مدحاً أوثناء على مجتمعه أورفعاً لمعنوياته. حيث يعتقد بعض المثقفين وكذلك بعض أطياف المجتمع بأن المثقف إنسان دائماً يجنح نحوالرفض والتمرد.
فيما يغرق آخرون من المثقفين في المصطلحات والتفنن بها وتركيب الجمل الرنانة الغامضة، حيث يعتقد كثير من الناس أن الثقافة هي هذا النمط من الحديث، فيفرط فيه ليخفي سوءته وضحالته الفكرية.
ويجنح بعضهم إلى التنظير للمجتمع وأعماله والعاملين ( ينبغي كذا، ولا ينبغي كذا، يجب هذا، ولا يجب ذاك ) فيما يقل أويندر مشاركة هؤلاء في الأعمال الميدانية الاجتماعية.
وهذه اللغة في تناول المثقف للحوار أوالتخاطب مع القارىء، يطلق عليها لغة "النخبة"، وهي مصطلح يطلقه عادة المثقف الافتراضي كنوع من الترفع على القارىء، الذي هومن وجهة نظره لا يزال يراوح في اعتماده على لغة خطابية استنفدت وتجاوزها الزمن. وتُشكل هذه المرحلة التي يكتب فيها هذا المثقف النخبوي ويترفع على الآخرين في مصطلحه وإدارته لمفاهيمه وتداوله لقضاياه الأزمة الحقيقية التي تتيح لمثل هؤلاء الهامشيين من فرض محاولاتهم بين تجارب المبدعين.
الحقيقة أن الأزمة هذه تتفاقم أكثر فأكثر مع بروز التدجيل والتنظير في تناول الأدب والفكر، الذي جعل غالبية من الناس عندنا، نخبويين، على حسب فهم كل واحد منهم لهذا المصطلح الافتراضي، بحيث لم تعد هناك حدود تفصل أوتفرق بين تجارب المبدعين ومحاولات الهامشيين، الذين يحاولون إثارة الانتباه بإلغاء رموز رجالات الفكر والأدب "الحقيقيون"، دون وجود مبررات موضوعية سوى الرغبة بالتشهير وتسجيل المواقف العشوائية، التي لا تقتل في النهاية سوى أصحابها.
ومثقف النخبة هذا، عادة ما يمثل آمال النخب التي يطربها وتطرب له، بعيد من المثقفين الحقيقيين الذين يتناولون أمال الأمة وتطلعاتها. فمثقف النخبة يحب الأضواء، ولا ينشط إلا بمقابل مثله مثل مثقف السلطة الذي يمثل السلطة فهومنظّرها، ومرشدها، يبرر لأخطائها، ويبحث عن مخرج لمأزقها، بعيد عن ضمير الأمة ونبضها، وهذه النموذج يبقى بريقه ما بقيت السلطة، وينتهي بانتهائها.
أما المثقف المبدع فهومثقف الأمة، يمثل الأمة فهوقلبها النابض، وضميرها الحي، وعقلها المفكر،، يعمل لرقيها ونهضتها، فهوكالشمعة التي تحترق لتبدد ظلمة الجهل والظلم والاستبداد، يمثل أمال الأمة وتطلعاتها، ويرعى ويحفظ في الأمة قيمها ومبادئها، يتصدى لهجمات الأعادي الفكرية التي تستهدف هوية وثقافة الأمة، منافحا، ومدافعا، عن خصوصية الأمة وهويتها. فالمثقف المبدع هوالذي يلتفت إلى مجتمعه وقضاياه وآلامه ويحمل خطابه الثقافي هوية المجتمع الذي ينطلق منه ويعالجه.
فمن هنا تكمن معاناة المثقف والمفكر في مجتمعاتنا، التسلط العام والشامل في تلك المجتمعات، فأصبح من الاعتيادي جدا أن تجد مثقفين مكبلين فكرا، وكما قالوا "الإنسان إبن بيئته"، لذلك أفرزت تلك البيئة نماذج من مثل هؤلاء، منهم مثقف السلطة، ومثقفة النخبة. ولكن فقد في مجتمعاتنا مثقف الأمة، الذي تتجسد في فكره وثقافته، آمال وطموحات الأمة، وهذه النوعية لا تنشأ إلا في أجواء تنعم بالحرية والشفافية. وهذا النوع من المثقف يندر وجوده في مجتمعاتنا، فمثقف الأمة هذا يمثل بوصلة الاستشعار في الأمة، وعنوان تعريفها وسط الأمم،، وهوذاك الذي يعيش من أجل ( فكرة ) يسعى لنشرها وبسطها، ويظل يقاوم من أجلها، وقد يموت لتحيا تلك الفكرة. إذن المثقف المبدع هوروح الأمة، وسر نهضتها، وقائد مسيرتها، فالأمة بدون ذلك المفكر والمثقف، كالقطيع بدون راع... المثقف المبدع يظل هوالمفكر الذي يؤثر في وجهة الأمة وتطورها وقوة نهضتها.
والحقيقة التي أردت أن أصل إليها في هذا المقام هوأن ما تعج به الساحة العربية من أسماء تبرز على صفحات الجرائد، ومواقع الانترنت المختلفة، هنا وهناك، هم أشباه لذلك المثقف الذي أشرت إليه، فهم يتأثرون بما حولهم أكثر مما يؤثرون، ويغيرون خط سيرهم ونهج تحليلهم ألف مرة، ولا تجد لهم أثرا في نهضة الأمة ومجريات الأحداث، أشبه بالراقصة التي تميل إلى التصفيق الآتي من هذه الجهة أكثر من الجهة الأخرى!. خسروا ثقافة أمتهم الأصلية، وفقدتهم أمتهم. وهم اليوم وإن حملوا أسماء عربية، وإن تكلموا وانتموا إلى وطننا العربي، إلا أنهم لا يمثلون ثقافتها وفكرها الأصيل، بل وجد منهم من يطعن الأمة. فترى المجتمعات تعج بمثل هؤلاء أشباه المثقفين، والغوغائيين، الذين قادوا الأمة إلى التبعية والتغريب، وطمس الهوية والخصوصية في الأمة.
خلاصة القول – وحتى لا يتم فهمنا خطأً- أن الناس متساوون في تكوين الثقافة، كل من خلال موقعه وتفاعله ودوره في الحياة الإنسانية، دون النظر إلى الفوارق الأخرى المكتسبة، هذا من جانب. أما من جانب آخر عندما نتحدث عن المثقف المبدع في ذلك المجتمع، في نظري ان الوضع يختلف، حيث لا بدّ لك أن تأخذ بالاعتبار الفوارق المعرفية والفكرية والعقلية والسلوكية لتحديد المثقف الذي نقصده في هذا الطرح. فالناس سواسية أوقل شركاء في تكوين الثقافة، ولكن هذا لا يعني أنهم جميعا مثقفون مبدعون، لأن المثقف الحقيقي (المبدع) هوالذي يتفاعل مع المخزون المعرفي والتراكمي التي قامت عليه ثقافة المجتمع، وينقله من دائرة الخمول والجمود إلى دائرة الحراك والنشاط والتفعيل. فهذا المثقف الذي نقصده دوره يتجاوز المساهمة في تكوين ثقافة المجتمع المسيطرة، فهويمثل بوصلة الاستشعار للأمة وعنوان تعريفها وسط الأمم، وسر نهضتها، وخط دفاعها الأول، وقائد مسيرتها وميزان توجيهها. وهذه الأدوار لا يمكن أن يقوم بها عوام الناس في المجتمع كما يحلولبعضهم أن يجمع اكبر عدد من الأسماء على صفحات جرائده، أومواقعه الإلكترونية، هذا صاحبي وهذه حبيبتي، وذاك جاري، وتلك معجبة، وأحدهم نديمي، والآخر... الخ من صفات التقرب والتحبب لنشر محاولات الهامشيين. ولعل سوء الحال هذا الذي ينتشر في مجتمعاتنا اليوم يعود إلى غياب المثقف النوعي الذي يحمي الأمة في فكرها وقيمها وأخلاقها وسلوكها، فإذا غيبنا القط تركنا للفئران مجالاً واسعاً للركض واللهوفي بيوتنا، مما سيسمم مأكولاتنا وأوانينا، وينغص علينا عيشنا.
فهل من يشاركنا هذا الطرح الحيوي الذي يربط المثقف بهوية المجتمع، وبمسؤوليته التاريخية ودوره في الإصلاح، والتغيير الناضج لواقع الأمة!؟.