بلا ذخيرة
الانتظار..
أليس بأسوأ الأشياء؟!!
إنه شىء ممل.. قاتل.. ومبعث ذلك أنك لا تدرى متى ينتهى.. حتى لو كان انتظارك لزوجتك التى ذهبت لشراء تلك البلوزة الزرقاء ذات الأزرار الفضية اللامعة التى رأتها قبلاً..
فأنت تعلم مسبقاً أنها لن تذهب مباشرة لشرائها ومن ثمّ العودة سريعاً.. بل أنها ستمعن النظر علّها تجد البلوزة ذاتها فى محل آخر أرخص سعراً.. وأنها ربما تـ..
حسناً لن أطيل عليكم فأنتم تعرفون مسبقاً ما يحدث وأنتم تنتظرون زوجاتكم داخل سياراتكم!!!
إلا أن انتظارى هذه المرّة كان مختلفاً قليلاً.. إذ اهتززت – والسيّارة – هزّة عنيفة عابرة.. يا ويلى.. مَنْ هذا الأخرق الذى صدم سيّارتى.. السيّارة التى أمامى لا يوجد داخلها أحد وكذا التى خلفى.. هل هو وهم إذن ؟!
لا يُعقل هذا..
لقد كان الاصطدام واضحاً.. إن السيارة التى أمامى لم تكن ملتصقة بسيارتى هكذا.. لا بد أن ذلك هو السبب.. لكن كيف..
أخرجت رأسى من الشبّاك فأدركت كل شىء..
إنه ذلك الكائن المرتدى ملابسه السوداء الثقيلة – بالرغم من حرارة الجو الخانقة – بذلك المنديل عديم اللون الممزّق فى أكثر من موضع، قبعته الرسمية المائلة وذلك العرق المنهمر فى غزارة شلاّل ماء قذر برائحته التى زكمت أنفى رغم بُعد المسافة بيننا والحذاء الذى صار متعدّد القِطع والخياطات بذلك الراديو الترانزستور الأسود الضئيل فى يده الغليظة بعروقها النافرة يحرص عليه كما لو كان قطعة من حجر نفيس وفى يده الأخرى بندقية صدئة بالية بلا ذخيرة أو سونكى..
جندى حراسة الجدار الشرقى للكنيسة التى أنا قابع بجوارها داخل سيارتى أحارب الحر وملل الانتظار..
هذا الأحمق حرّك السيارة التى أمامى عنوة ليفسح مكاناً ضيّقاً أمامها لسيّارة أخرى أمامها.. هذا الـ.. الـ..
أوّاه يا قلبى الحزين..
مـا هـذا؟!
جنيّة برزت من بين كتب الأساطير أو أميرة منعّمة ترفل فى خيوط من أنوار الجنّة.. تشع ضوءً و ضياءً تكاد معه أن تضىء حياتى كلّها.. هل هذه هى ما يسمّونها أنثى؟!!
ما كنه ذلك المخلوق الذى يشترى البلوزة الزرقاء إذن؟!!
هذا جسد فائر نافر غائر وفى بعض الأماكن –وحيث يجب– ضامر.. فاحت رائحة عطرها الزكية لتصلح مستقبلات الشم عندى والتى أفسدها المجنّد قبلها مع سبق الاصرار والترصد!!!
ضبطت نفسى متلبسّاً بجريمة الابتسام بثغر فاغر و لسان متدلى..
غضبى ومللى وحنقى صاروا برداً و سلاماً وسعادة..
منحت الحسناء المجنّد إحدى ابتساماتها الساحرة..
عُذراً فتاتى.. ولكنه أنا من صدمته مجاملتك.. ألست أحرى من هذا المعتوه بابتسامتك؟!
يا له من محظوظ.. إذ أنها ابتسمت له هو!!!
على الفور.. اضطرب المجنّد وتلعثم.. سقطت جوهرت السوداء من يده وكادت البندقية تتبعها.. ازداد عرقه وزاغت عيونه ومادت الأرض تحت قدميه.
له كل الحق..
لا أعرف ماذا كنت سأفعل أنا إذا ما صوّبت على الفتاة ابتسامة كتلك.. وقبل أن أفيق من استغراقى.. ويتمالك المجنّد نفسه ويلملم أشلاءه المبعثرة..
غادرتنا الحسناء..
كأنما كانت طيفاً ومضى..
أو حلماً قديماً وانقضى..
وفى تلك اللحظة..
تصاعدت خلفنا قهقهة مجلجلة – أيقظتنى من أحلامى – مصدرها صاحب الكُشك على الجانب الآخر من الطريق الضيّق.. فى آلية حوّلت ناظرى جهته..
كان المجنّد إذ ذاك قد استعاد جوهرته السوداء وعدّل قليلاً من حاله المزرى.. وهذا اللعين – صاحب الكشك – يسخر منه..
للمرّة الأولى أتبيّن تصاعد صوت مقرئ لا أعرفه يتلو سورة لا أذكر اسمها من ذلك الراديو الضئيل فى يد المجنّد.. بينما يرتفع صوت صاحب الكشك المنفـّر محذراً:
– يا دُفعة.. العربيّات دى واقفة فى الممنوع..
ثم أردف:
– كده خطر على الكنيسة.. هتاخد جِزا والقائد جَه..
التفت المجنّد – بعيون تحمل كل التساؤل والاضطراب - جهة زميل له يجلس على كرسى - فى البقعة الظليلة الوحيدة بالمكان - بجانب البوابة الجانبية مرتدياً الملابس المدنية فوق ملابسه العسكرية وفى يده جريدة قديمة يمثل أنه يقرؤها.. فأجابه:
– خد نِمر العربيّات اللى واقفة.. وابعتها للمنطقة..
ثم أردف وهو يقلب صفحات الجريدة بلا قراءة:
– كده تِخلى مسئوليّتك..
للمرّة الأولى أسمع صوت المجنّد المضطرب:
– لو عربية من دول حصل لها حاجة.. صحابها مش ها يسبونى فى حالى..
ثم أردف:
– همّه قالو لى كده.. ها يودّونى فى داهية.. لا.. ستين داهية.. همّه قالو كده.. دول كُبارات البلد.. حد يخش عش الدبابير برجليه؟!!
زميله المُخبر:
– انت حُر..
فشوّح المجنّد بيديه فى الهواء وهتف:
– قادرين ويعملوها.. آه طبعاً.. يعملوها.. فيه واحد قال لى كده.. لو العربية دى اتحرّكت من مكانها.. أنا هابعتك.. ورا الشمس..
ثم أردف فى ذعر:
– فاهم يعنى إيه ورا الشمس؟!.. لا يا عم.. وأنا مالى..
المخبر:
– والجِزا؟!
– إن شاء الله ولا جِزا ولا حاجة.. ده حتّى القائد بتاعنا حتّة سكّرة.. ويعنى همّه الناس الكُبارات دول خطر فى إيه بس.. هَه؟!
– انت حُر..
ثم ما لبث أن قام من مكانه تاركاً الجريدة وقبعته الرسمية التى كانت ترقد على الكرسى خلفه.. فتثاءبت قطة متشردة كانت ترقد تحت الكرسى! على بقعة رطبة بللها تسرب ماء من ثقب فى زجاجة تستند على الجدار علامة على الكسل و التراخى.. اقترب المجنّد من الكرسى الذى صار شاغراً الآن بذهاب المُخبر لدورة المياه.. الرغبة فى الجلوس واضحة فى عينيه..
تنظر له القطة باستغراب..
يتردد وهلة..
يستند بيده التى تحمل الراديو على ظهر الكرسى المتهالك و لا يجلس عليه.. تمتد يده لزجاجة الماء المثقوبة..
الماء يقطر عليه و هو يتجرّع منه ليزيد بلله بللاً..
كان الآن أقرب ما يكون منى.. فلاحظ عيونى الفاحصة المتأملة.. امتدت يده بزجاجة الماء عالماً بمدى حرارة الجو قائلاً:
– اتفضل يا باشا.. اتفضل اشرب..
أخذتنى المفاجأة.. فغمغمت بما يعنى أننى لا أريد الشرب و أننى أشكره..
يا له من مخلوق بائس مسكين..
قررت أن أمنحه بضع لحظات من مُتع الحريّة و التعبير عن الذات..
سألته أول سؤال خطر على بالي:
– منين يا دُفعة ؟!
أجابنى وهو يعيد الزجاجة مكانها فى حرص دون أن يطرف للقطة جفن أو يتحرك لها شارب:
– الشرقية.. كفر (.....)..
– ياااه.. وإيه اللى جابك بورسعيد؟!
فى مرارة أجاب:
– الأوامر يا بيه..
مصمصت شفتاى فى أسى.. كم هو مسكين.. غريب فى بلاد غريبة.. ومهدّد بـ (ورا الشمس) أو (الجِزا)..
صمت ثقيل غلّفنا.. تنحنحت.. صوت المقرئ يعلو و ينخفض من تلقاء نفسه.. أنظر لقرص الشمس الملتهب.. أكاد أقول يا شمس كونى برداً وسلاماً عليه!.. لا يُعقل أن تؤذيه أنت أيضاً ؟!
بعين الخيال..
رأيتنى أرتدى ملابسه الثقيلة.. ثم تلك الحسناء تبتسم لى.. أبادلها الابتسام.. تضحك.. أقهقه.. تقترب منى.. تضع يدها على كتفى فى دلال متسائلة عن اسمى.. فى سعادة غامرة أجيبها.. تـ..
القائد يأتى.. الـ (جِزا).. محاكمة عسكرية..
يتطور الخيال ويصير قاسياً حين ينتهى الأمر بما يشبه المشنقة وهى تنتظرنى..
هززت رأسى فى عنف..
حملقت فيه حتى كدت ألتهمه بعيونى.. حوّلت نظرى جهة البقعة الرطبة حيث لا تزال القطة تواصل التثاؤب.. ارتفعت ببصرى ففاجأنى زميله المُخبر وهو يعّل من وضع بنطاله و حزامه..
يا لها من حرارة خانقة..
فى إصرار.. تابعت:
– بتحب الكورة يا دُفعة..
أجل.. إنه أبسط حوار تديره مع شخص مصرى لا تعرفه.. هل يشجّع الكرة.. أى نادٍ.. ما أحلى المباريات التى شاهدها..
لم يرد..
أردفت معتقداً أنه لم يسمعنى المرة الأولى:
– بتشجّع الكورة يا دُفعة.. هَه.. بتحب الأهلى.. ولاّ الزمالك ؟!
نظر لى نظرة لم أفسّرها..
مزيج من لوم و استغاثة..
على وشك أن أواصل جهادى..
صوت الباب الذى يجاورنى يُفتح..
زوجتى تدخل مسرعة.. ملقيّة بأكياس عدّة على الكنبة الخلفية.. بالطبع البلوزة الزرقاء لا توضع فى عدّة أكياس..
فى فراغ صبر هتفت و العرق ينسال على جبينها ووجنتيها مغيّراً ملامحها التى أعرفها:
– يالاّ.. اطلع بسرعة.. الدنيا حر مووووت..
كدت أصرخ فيها أن تصمت..
ليس من حقها أن..
وإذ انطلقت بالسيارة مسرعاً كما أمرتنى..
إذ حاولت أن أستأنف متابعتى للمجنّد المسكين ربما للمرة الأخيرة..
لوحت له بيدى..
لم يرد..
هممت بالعودة لسؤاله عن سر جفائه المفاجئ..
أجابنى ذلك الثالث..
بتلك الرتبة الأعلى على كتفه!!!