المدينة والغرباء
كانت مدينة كبيرة جميلة، أهلها أناس طيبون، دستورها المودة والرحمة وقوانينها قائمة على العدل والمساواة، القوي فيها يساند الضعيف والغني يحن على الفقير، كانت مثالا حيا للمدينة الفاضلة بكل معانيها.
في قلب هذه المدينة تسكن حديقة غناء، رائعة الجمال، دائمة الخضرة، تعيش فيها العصافير التي تطرب أهل المدينة بتغريدها وتنتشر بين أشجارها المثمرة الباسقة شجيرات الورد المختلف ألوانه فتضفي على الحديقة مسحة أخرى من الجمال الأخآذ. إذا أردت أن تفي هذه الحديقة حقها فلا عليك إلا أن تقول أنها جنة الفردوس على هذه الأرض.
ولشدة جمالها وتولع أهل المدينة بها فقد سكنها بعضهم وأقاموا في أرجائها البيوت البسيطة المبنية بطريقة تحتضن الأشجار وتقبل وجه الشمس طوال اليوم، وتغازل القمر من نوافذها طوال الليل.
يتوسط الحديقة بيت قديم، قدم المدينة بل قدم الأرض بأكملها ويقال أنه كان لرجل صالح كان يتعبد الله فيه، فكان اهل المدينة يزورون هذا البيت لعل النفحات الإيمانية التي تسكن البيت تباركهم، فكانوا يقيمون الصلوات والتقربات إلى الله. ولكن الحياة لا تعطي كل ما نريد والسعادة لا تدوم.
وفي صبيحة يوم أسود استيقظ أهل المدينة والحديقة على أناس غرباء يدعون أن هذه الحديقة لهم وقد ورثوها عن أجدادهم، فأخذوا يقتلعون الأشجار ويحرقون ويهدمون البيوت على رؤوس أصحابها، وانتهى ذلك اليوم الأسود إذ بالغرباء قد أخذوا نصف الحديقة بغير حق، فهم ليسوا من المدينة أصلاً فكيف ورثوا الحديقة.
واجتمع أهل المدينة تلك الليلة يتداولون الأمر بينهم.
قال أحدهم: لا بأس يا أخوتي ما زالت المدينة كبيرة ويستطيع إخوتنا المطرودون السكن فيها أو السكن في النصف المتبقي من الحديقة.
وقال آخر: ما دام البيت المقدس لم يمس فليس هناك مشكلة، المهم أنه لم يمس.
وقال آخر: أقترح أن تذهب جماعة منا للتفاوض مع الغرباء ونطرح عليهم السلام لعلهم يرحلوا...! فنحن لا نريد سفك الدماء.
وانقضت تلك الليلة وفي صباح اليوم التالي استيقظ أهل المدينة وإذ بالغرباء قد شيدوا بيوتاً إسمنتية جديدة على معظم نصف الحديقة.
فقال أحدهم: ألم أخبركم أن نعرض عليهم السلام، لكن لا بأس فهناك مازال مجال للتفاوض.
وبالفعل ذهبت جماعة تفاوض الغرباء، فرحب الغرباء بهم أشد ترحيب وساندوا فكرة التفاوض لإحلال السلام في الحديقة وإرجاع الحديقة إلى أهلها. وعادوا إلى أهل المدينة مستبشرين حاملين لهم هذه الأخبار الرائعة...؟!
وفي صبيحة البوم التالي استيقظ أهل المدينة وإذ بالغرباء قد أخذوا الحديقة بأكملها وبدأوا بتشييد أبنيتهم الإسمنتية القبيحة.
فقال أحدهم: إنهم مخادعون، إنهم كاذبون.
فرد الآخر: اسكت أرجوك، فنحن طلاب سلام ولسنا طلاب حرب، دعونا نفاوضهم لعلهم يرجعون نصف الحديقة المغتصب بالأمس.
فذهبوا للتفاوض مرة أخرى وعادوا مستبشرين وناموا، وأفاقوا في اليوم الذي يليه وإذ بالغرباء قد شيدوا سوراً في الحديقة لم يسمع به من قبل، فقد بنوا أسوارا حول بيوت أهل الحديقة وكأنهم قد بنوا سجوناً بل هي سجون بالفعل.
فذهبوا للتفاوض مرة أخرى، فأهل المدينة أهل سلام لا حرب، وعادوا مستبشرين بحل قريب.
ودارت الأيام وانقضت السنون والغرباء كل يوم يأخذون شيئاً جديداً في الحديقة وخارجها، وأهل المدينة دعاة السلام يتفاوضون...؟!
هل سمعت بالسرطان، إنه مرض إذا أصاب عضوا في الجسد، فالحل الأنجح لعلاجه هو بتر العضو لكي لا ينتشر في سائر الجسد فيقتله. وهؤلاء الغرباء كالسرطان الذي لا تنفع معه أدوية السلام بل سيف البتر.
اعتمد القاص على الرمز ليكني عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وهو طرح جميل لقضية عويصة مؤلمة.