القراءة: النص بين الكاتب والقارئ
بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن من الحصول على فاعليتها إلا بتفاعل القارئ، فالتفاعل الذي يكون من هذا الأخير حيال النص هو الأساس الذي يبنى عليه وجود النص إياه ويبين مدى تحققه، فعملية القراءة إذن حاسمة في إعادة خلق النص وجعله يتمتع بحياة ملموسة، وإذا لم يتوفر القارئ على قراءة فاعلة وناجعة، أي يتوفر على ميكانيزمات القراءة التي تحاور النص على مجموعة من المستويات فيه فإن النص يبقى هامدا بلا حركة كأنه ميت لا حياة تسري في أعضائه.
الكاتب ليس بمقدوره أن يقرأ نصه بمعنى يعيد صياغته و بناءه من جديد، فهو ليس كالخياط الذي يخيط الثوب لنفسه ويجعله على مقاسه، فالنص إذا انتهى الكاتب من صياغته وأغلقه فإنه على الفور يصير غريبا عنه، ويصير في ملكية القارئ، ولا يحق للكاتب منازعة القارئ في هذه الملكية، وإلا كان عليه أن يحتفظ بنصه لنفسه ولا ينشره في الملإ.
إن الكاتب عندما يجلس إلى الورقة فهو يريد أن يفرغ فيها رؤيته للكون وللأشياء المحيطة به والتي تمسه شخصيا من قريب أو من بعيد، كما أنه في الآن ذاته يسعى لأن يمارس إرادته بما لها و بما عليها في تلك الرؤية، علاوة على هذا هو يعلم مسبقا أن ما يدونه على الورقة هو في الحقيقة يدونه ليطلع عليه القارئ، وما دام الأمر كذلك فإن القارئ أيضا له رؤية وله إرادة، ومن حقه أن يرى النص بالصورة التي تمليها عليه قناعته، ولا يناكفه الكاتب في ذلك إلا إذا تعلق الأمر بتوضيح أو قناعة جديدة وما إلى ذلك.
ثم إن النص هو وليد الذات،فذات الكاتب تبني إقامتها فيه، ولكن يحدث أحيانا أن يتخذ النص صفة الموضوعية له، ويصبح صاحبه يراه كأنه لا ينتمي إليه، ومنشأ هذه الحالة على الأرجح هو أن الكاتب ونصه تباعد بينهما العهد فصار تفكير الكاتب غريبا عما صدر عنه في ذلك النص إلى أن أصبحت ملامح هذا غير واضحة تماما.
نحن حين نكتب لا نكتب لأنفسنا، ولو حصل أن صرنا نكتب لأنفسنا فربما على المدى طال أو قصر سنصاب بالإحباط وربما تركنا الكتابة إلى غير رجعة.
أنا هنا لا أحتاج إلى توضيح أن الكتابة تتضمن في العمق القراءة، وبناء عليه فكل كاتب لا بد له من قارئ، ولا بد لهذا الأخير من الأول، فوجود أحدهما يتوقف عليه وجود الآخر، والتعاون بينهما هو عامل حاسم في إخراج النص إلى الوجود وجودا كاملا غير منقوص، إذ لا يمكن الحديث عن وجود نص ما في غياب هذا التعاون.
والقارئ لا بد له أن يعي بأنه ـ وقد وضع النص أمامه ـ يريد أن يكتشف النص وبالتالي يساهم في إعادة صياغته أو لنقلْ في إعادة خلقه من جديد، فالاكتشاف هنا هو فاعلية إيجابية تتمتع بها القراءة التي يقوم بها القارئ الكفء الذي يتسلح بالأدوات اللازمة لها. إنها القراءة التي يمكننا أن نسميها بالقراءة الناقدة، وهي تلك القراءة التي لا تقف عند حدود المعنى الحرفي لألفاظ النص ولا تقف كذلك عند حدود الإعجاب به، فممارسة مثل هذه من القراءة لا تصل بها البتة إلى لب النص ولا إلى حقيقته.
أعتقد أن الشعور بروعة النص (قصيدة، قصة، رواية، مقال...الخ) لا يدوم كما لو أننا قمنا بالبحث عن علة الروعة فيه وأسباب تألقه، فإذا حالفنا التوفيق في البحث فسيكون لشعورنا ذاك آنذاك أساس متين يقوم عليه، وبقاؤه يطول أكبر مدة ممكنة ولا يكون شعورا عابرا لا يستند لما يدعمه.