الفينيق
عندما وصل إلى تلك الجزيرة البعيدة وغمره هواؤها المنعش حتى امتلأت رئتاه فرحا، استسلم لرغبة قدميه في الجري على ذلك الشاطئ المزروع دهشة والممتدّ أمامه ككفّ عملاق مهيّأة للانطلاق به بعيدا إلى أبعد ممّا يتصوّر.
بدأ يعدو ويلهث وكأنّه يريد الإفلات من شيء لا مرئي، رذاذ الموج الذي داعبه كان يجدّد نشاطه ليواصل الجري، تعثّر، أحسّ بأنّ جسمه يفقد توازنه، حاول كبح قدميه والسيطرة عليهما، ارتمى بجسده على رمل الشاطئ كأنّه حطّ على كوكب آخر. .
تنفس عميقا محاولا القبض على أنفاسه المتسابقة هروبا من جوفه المستعر. أطبق جفنيه على حلم جميل تحقق وهوالإبحار إلى جزيرة بعيدة، مهجورة، كان يدرك بأنّ في ذلك مغامرة، لكنّها أحسن من المغامرة بالبقاء بين أولئك ال-ب-شر، بل إنهم شرّ. لماذا جاءت تلك الباء لتخدعنا وتقول لنا بأنّهم يحملون بذرة الخير فسقطت ذرة الخير وبقيت الباء وحدها غير كافية للتقليل من حدّة الشرّ والعدوانية في البشر.
لست أدري لماذا طرأت له فكرة وضع رسالة في قنّينة ورميها في البحر ليشرح لمن يلتقطها أنّ هنالك جزيرة بلا بشر أي بلا شرّ، يمكن إعادة اعمارها بأطفال أبرياء لا يعرفون إلا الحبّ والتعاون وصنع الفرح. لكن ماذا لوسقطت في يد شرّير؟ الفكرة أزعجته وفتحت جفنيه لتتراءى له مغارة، خيّل إليه بأنّ إيزيس تقف عند مدخلها تمشّط الحوريات شعرها الأسطوري وتوزّع اللآلئ والفيروز على صبايا جميلات لهنّ أجنحة كالفراشات.
مسح عينيه ونظر ثانية فلم ير سوى مدخل المغارة صامتا متأمّلا وكأنّه بانتظاره منذ زمن بعيد، قام مسرعا اليه وهويصرخ: _ هو، انّه هو. نعم انّه أصلح مكان ليحرق فيه أوجاعه وذكرياته وكلّ ماضيه مع البشر ليبدأ من جديد في هذه الجزيرة المهجورة.
مشى بحذر صوبها، كانت أشعّة الشمس بدأت تتكسّر في مدخلها وترسم مرايا على ظهره، وطأ الأرض برجل مرتجفة أتبعها بالأخرى وأخيرا تحرّر من خوفه. لا مجال للخوف لا يوجد هنا بشر لم تكن خيوط النّور المنبعثة من تلك الشمس كافية لتنير المغارة، لكنّ الهدوء داخلها كان غامرا، الآن فهم لماذا كتب سرفانتيس أوّل رواية له "دون كيشوت" في مغارة كانت سجنا له. سحب ورقة كتبها له سي عبد القادر فيها التعويذة السرّية لإفراغ ذاكرته من أوجاعه وذكرياته مع البشر، قال له بأنّها ستتساقط أوراقا وأخشابا.
اعتدل في وقفته وتلا التعويذة، ارتفع صوته أكثر وهويردّدها، اهتزّ جسمه لصرخته: يا الله. ردّدتها زوايا المغارة وبدأت الأوراق تتساقط من رأسه وهويزمجر كقطار، أوراق زرقاء، سوداء، وردية بمختلف الألوان، ها هي قطع صغير خشبية تتساقط من رأسه، نفذ كلّ ما في جعبة ذلك الرأس، تهاوى جسده تعبا، لكن عليه أن يقاوم، يجب أن يحرق كلّ ما تساقط، قبل أن يفلت منه شيء.
أشعل عود الثقاب وبدأ الحرق، كانت طقطقات الخشب والنّار المهولة تأكلها تحدث ضجيجا يقهر صمت الكهف. . . عجبا لم يسعل، ألا يتصاعد الدخان، أكانت ذكرياته بلا دخّان؟ وما هي الا لحظات حتى تحوّل كلّ شيء الى رماد. . نسي تعبه، ونسي آلام جسده المنهك وراح يصفق ويصرخ فرحا أن أنهى كلّ ماض له مع البشر. لم تطل فرحته كثيرا إذ كانت هنالك مفاجأة بانتظاره، الرماد بدأ يهتز فجأة، لا ريح في المكان لماذا اهتزّ الرماد؟ اهتزّ أكثر، تطاول أمامه، فرد جناحيه. . . يا الله. . انّه هو، طائر الفينيق الذي سمع عنه في الأساطير، ذكرياته فينيق لا تحرقه النّار، خرّ من هول المنظر مغشيا عليه، ليجد نفسه أمام طابور طويل من البشر أمام المخبزة الوحيدة في مدينته فكلّ المخابز في إضراب ككلّ صيف.
تأمّل نظرات البشر إليه وتناهى إلى سمعه: _ ماذا يفعل هذا المجنون هنا؟