عودة غيمة
منذ عدت إلى هذا العالم وأنا ألتحف رداء الصّمت ربّما لمعرفتي المسبقة بأن لا أحد من هؤلاء البشر يراني، بل لا يهمّه أ ن يراني، فلقد بدا لي على اكتظاظ الشوارع بالمارّة إلا أن لا أحد كان يرى الآخر. البرد هو الإحساس الوحيد الذي قد يصيبك حتى وأنت تلبس معطفا في عزّ الصيف وقد أخذت كلّ احتياطاتك أن تكون في منأى عن لسعات الصقيع. اصطدمت بشيخ يحاول عبور الطريق متكّئا على عصاه، ما زالوا يستعملون العصا في هذا العصر؟
ضحكت من المنظر أيكون الإنسان في هذا القرن الخمسين لا زال بحاجة إلى عصا وفي الضّفة الأخرى يتنقل النّاس بمركبات طائرة ذكّية تساعد حتى الأعمى والمعاق حركيا للوصول إلى المكان الذي يريد، يكفي فقط برمجتها، بل أكثر من ذلك هذه المركبات تتعرّف على صاحبها بمجرّد أن يلمسها و لا يمكن أن تفتح لغيره لأنّها تعمل بنظام البصمات.
ساعدت الشيخ كي يعبر الطريق ، كان أعمى و لو أنّه لم يكن بحاجة على كلّ حال لعينيه كي يراني، فقط كلماته بعثت الكثير من الدفء أذاب صقيع الشارع، كان يدعو لي الله أن يحفظني مبتهجا أنّ الدنيا ما زالت بخير وهو الذي ظنّ أنّ البشر قد تحولوا إلى قطع من حديد لا تحس ولا تتألّم
ولا تشعر بالآخر، سريعة التلف والصّدأ. لم أجبه لأنهّ لن يسمع صوتي، وبعد أن وصلنا تركت الشيخ لحاله لأتأمّل الرصيف فمازال كما كان تمتدّ إليه أذرع أخطبوط المقاهي وقد جلس النّاس يرتشفون القهوة لكن لم تكن لها رائحة كالقهوة التي عرفتها في زماننا حتى لونها تغيّر وأصبح أقرب إلى اللّون الأحمر، أخذت مكاني بينهم أستريح من تعبي وأستأنس بأحاديثهم، لكنّها شوّشت على مجال السمع عندي كلّ الأحاديث كانت عبارة عن نميمة وغيبة وقذف في الأعراض وحتى كان هنالك مجال للتخطيط لإجهاض نجاح أحدهم أو الإيقاع بواحدة كما كانت أحاديثهم منذ قرون لم تتغيّر، رغم أنّ الأحاديث في الضفة الأخرى استبدلت بلغة الإشارة ولا أحد أصبح يهدر طاقته أو وقته في الحديث، هنالك عمل وإنجازات تنتظرهم، أيعقل أنّ الوقت ما زال تعيسا هنا لا أحد يعرف قيمته ويستغلّه؟
نهضت من مكاني وسرت متأمّلة البنايات قد تكون الشيء الوحيد الذي يدلّ على أنّ الزمن تغيّر وكأنّ على العمارة مسؤولية التأريخ لحياة البشر وعكس حضارتهم وعصرنتهم. استوقفتني بناية على شكل كفّ امرأة، لست أدري لماذا حينها استعادت ذاكرتي منظر الحنّاء وحتى رائحتها، تساءلت هل نساء هذا العصر يعرفن الحنّاء ويتزينّ بها؟
ولم أشعر إلا وأنا ألج مدخل البناية اليد وأدخل إحدى القاعات التي كانت مكتظة بنسوة قد تعالى صراخهنّ، يبدو أنّ الإنسان حتى في هذا العصر لم يجد حلا للصراخ؟
جلست في المقعد الخلفي أتأمّل نسوة هذا الزمن وقد علت وجوههنّ ألوان غريبة بين البنفسجي والأزرق الغامق، أتكون هذه هي آخر صيحات الموضة في دور إنتاج المساحيق؟
الآن أصبح حديثهنّ واضحا بعدما تدخلت المشرفة على الاجتماع وهي تطلب منهنّ الصمت والتركيز في المطالب الجديدة لحقوق المرأة.
يااااه، ما زالت المرأة لم تأخذ حقّها؟ انسحبت سريعا بعد أن باغتتني ذبابة وحطّت على أنفي، ربّما وحدها الذبابة رأتني أو أنّ الذباب يرى ما خفي خاصة إذا كان من النّوع الأزرق. فخرجت مسرعة قبل أن أصاب بدوار يسبّبه فيروس جديد في هذا العصر وهو فيروس أنفلونزة الذباب... ولم أكد أتجاوز عتبة المدخل حتى اصطدمت بجموع من النّاس يتظاهرون مطالبين بزيادة الأجور وحلّ مشكل البطالة.
تهاويت أرضا علّ الأرض ترحمني من هول ما أرى فإذا بعيني تقع على شابّ يحمل لافتة يهدّد فيها بالهجرة السرّية إذا لم يجد عملا وقد كتب «بطن الحوت أولى بنا».
لملمت بقايا جسمي لأقف مع مجموعة من النّاس تعرّفت عليهم من حديثهم بأنّهم موظّفون في الإدارة تركوا مكاتبهم، وعطّلوا مصالح النّاس وخرجوا للتوّ كما كان يحدث في زماننا لتناول القهوة وقراءة الجريدة التي أصبحت على شكل صفيحة إلكترونية.
حينها عرفت لماذا يتكئ الشيخ على عصا في حين تطير المراكب الذكية في الضفة الأخرى
أسندت رأسي إلى غيمتي لترتفع بي في السماء فتلاشت صورة الأرض