الفكر وحاجة البشر إلى الجرأة على كشفه
التفكير بطبيعته جريء لأنه نشيط ومتصدِّ. إنه يمنح المفكر الإقدام على المراجعة والنقد. والمراجعة والنقد يعنيان الصراحة وعدم المواربة على الصعيد الفكري، ويعنيان التصدي و(الخروج من الخنادق) والتشمير عن الساعدين والدخول في غمار الاستنفار والحوار الفكريين. للتفكير القدرة على تناول الظواهر التي يشكل جوهرها مادة له. تتباين هذه القدرة تبعا لقوة التفكير، وتتعين قدرته على التناول تبعا لطبيعة الظاهرة. لا أشك في قدرة التفكير على تناول الأشياء التي يجهلها إطارنا الإدراكي. والظواهر التي لدى التفكير القدرة على تناولها يمكن أن تكون جلية أو خفية أو مسكوتا أو محظورا الكلام عنها.
ينبغي للإنسان أن تكون له الجرأة على الكشف عن أشياء مخفية ومسكوت عنها. تنشأ حالات اجتماعية ونفسية لا يمكن أن ينجز فيها التقدم الاجتماعي والفكري إلا بالكشف عن مثل هذا الأشياء. مثلا، ينبغي للناس أن يدرسوا بتعمق السبب في تخلف وضع المرأة في العالم كله، بما في ذلك العالم العربي، وأن يدرسوا العلاقة بين تدني وضع المرأة وسيطرة الرجال على العالم، والعلاقة بين طول الحكم الأجنبي وزيادة ضعف النفس البشرية، والعلاقة بين الخلفية السياسية والاقتصادية والثقافية والذين يصدرون أحكاما قانونية.
وينأى أناس عادة عن محاولة الكشف عن أشياء خفية أو مسكوت عنها لأنهم يخافون من أن يعرضهم هذا الكشف للانتقاد وللعداء والملاحقة من مختلف الجهات ذات السلطة والتأثير في المجتمع. بيد أن من العار أن ينأى المفكر الناقد بنفسه عن الكشف عن تلك الأشياء إذا اعتقد بأن الكشف عنها من شأنه أن يسهم في تعزيز معرفة أفراد الشعب وفي تحقيقه للتقدم الاجتماعي والفكري الذي ينشده الشعب.
وتختلف المجتمعات بعضها عن بعض في مدى استعداد الناس فيها للكشف عن الأشياء المسكوت عنها. أفراد المجتمعات الأكثر انفتاحا اجتماعيا وفكريا وثقافيا هم أكثر استعدادا للكشف عن تلك الأشياء، ويقل ذلك الاستعداد لدى الأفراد الأقل انفتاحا أو الأكثر انغلاقا.
وعدم الكشف عن الظواهر والأشياء عامل في طمس البنى الفكرية وذلك لأن نشوء البنية الفكرية مرده كل من الظواهر المعروفة والظواهر الخفية. والقمع السياسي والفكري والاستبداد الحكومي والتكوين النفسي والحكم الأجنبي عوامل في تحديد طبيعة البنية الفكرية على الرغم من عدم تناول دور تلك العوامل في نشوء تلك البنية. لتلك العوامل وغيرها أثر ذو شأن في الطمس والإقصاء والقمع والإهمال والتهميش في المجال الفكري. ولو لم توجد تلك العوامل، غير المتناوَلة، لما نشأت تلك البنى الفكرية المعهودة ولنشأت بنى فكرية غير البنى التي نعرفها، ولعل تلك البنى الفكرية المجهولة حلت كليا أو جزئيا محل البنى الفكرية المعهودة أو لعلها غيرتها.
ولعدم الاهتمام بالكشف عن الظواهر والأشياء المجهولة أثر في كيفية الموقف من تلك الظواهر. عدم اطلاع المرء على ظواهر وأشياء مجهولة ينزع به إلى إيلاء الاهتمام الأكبر لما يطلع عليه وإلى التشبث في بعض الحالات بما يطلع عليه. وعدم الاطلاع هذا يميل بالمرء في بعض الحالات إلى التسرع بإصدار تعميمات على ما لم يطلع عليه.
وثمة علاقة بين الجرأة على الإعراب عن الفكر وتوقيت توجيه الانتقاد اللازم أو الواجب. من الظواهر السلبية في كل المجتمعات، ومنها المجتمعات النامية، أن توجيه الانتقاد إلى أفراد أو جهات، خصوصا أصحاب السلطات الحكومية، يجري أحيانا كثيرة متأخرا. يجعل الخوف الناس يعزفون عن توجيه النقد الذي يشعرون أنه ينبغي توجيهه إلا في وقت متأخر، ربما بعد انتهاء عامل الخوف. وقد يتمثل هذا الانتهاء في تغير الظروف التي أوجدت الخوف، من قبيل تولي فئة جديدة لمقاليد السلطة.
والواقع هو أنه في العلاقات الفعلية التي تقوم على القوة والتي تكون فيها الغلبة لطرف من الأطراف تنطوي أفكار من قبيل المساواة والتماثل والمراعاة والتبادل والحوار على قدر قليل أو كبير من الوهم. الواقع هو أن الغالب في هذا العالم الذي نعيش فيه لا يقبل بتطبيق مفاهيم المساواة والمراعاة والتحاور. لقد سيطر هذا الوهم وما يزال يسيطر على كثير من الناس، ومنهم قسم من المثقفين. واحتضن أناس أيضا مضامين التعمية الأيديولوجية التي يقوم الغالبون بها. وعن طريق طمس الغالب لحقيقة الصراع بينه وبين المغلوبين ينجح نجاحا متفاوت الأثر في إيهان عزائمهم وإضعاف ممانعتهم. وتكرار الأقوياء لما تسميه البلدان والشعوب المستضعفة (الكيل بمكيالين) أو (ازدواجية المعايير) دليل قوي على عدم استعداد الطرف الغالب القوي للمساواة والمراعاة والتحاور والإنصاف وإقامة العدالة.