الأحد ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٨
بقلم جوني منصور

الفكرة والدولة؛ صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات

كتاب داود تلحمي بعنوان: «الفكرة والدولة؛ صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات»

الكتاب مؤلف من مجلدين بأكثر من ألف صفحة، صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت، 2017.

لم يكن من السهل قراءة الكتاب والإحاطة التامة بما يحتويه من محاور وفصول ومواد ومعلومات وتحليلات. إذ إنّ مؤلفه قد تتبع مسيرة القضية الفلسطينية في الفترة الزمنية بين 1967 أي النكسة كما هو متعارف على تسمية هذه السنة، وبين 2006 انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. بمعنى آخر، تغطية لحوالي أربعة عقود من الزمن الاحتلالي للأراضي الفلسطينية.
سأحاول في الوقت المخصص لمداخلتي أن اتطرق إلى فكرة الكتاب، ومنهجيته البحثية ومكانته في صف الكتب السياسية – التحليلية لهذه القضية في الفترة الزمنية التي اشرت إليها.
الفكرة الموجهة للكتاب هي سعي الشعب الفلسطيني بقيادته السياسية والعسكرية ونعني هنا م.ت.ف نحو الاعتراف الدولي بالشعب الفلسطيني وبحقه في تقرير مصيره على أرضه... وصولاً إلى مشروع إقامة دولته المستقلة على أرضه، أو جزء منها.

والسؤال لماذا 1967؟ بإعتقادي أنّ الكتاب يُقدّم لنا إجابات على هذا السؤال من حيث التحول الذي أحدثته حرب حزيران 67 في توجه العالم العربي نحو الصراع مع إسرائيل، وتوجه القيادة الفلسطينية نحو الصراع ذاته وكيفية التعامل معه.

أدركت القيادة الفلسطينية ان العرب غير قادرين على حمل القضية لوحدهم وبالصورة التي قاموا بها بين 48 و 67، لذا سعت م.ت.ف إلى تحقيق اعتراف دولي بحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وهذا اعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، إذ إن إسرائيل سعت ولا تزال إلى تغييب هذا الشعب وعدم الاعتراف به مطلقا، إلا بما يخدم اجندتها السياسية والأمنية.
كان موقف م.ت.ف متماثلا مع موقف عبد الناصر الذي أراد تحرير كل الأرض الفلسطينية. ولهذا عمل عبد الناصر على إعادة بناء جيشه ليخوض حربا أخرى مع إسرائيل في 73.
بعد الـ 67 أصبحت قضية فلسطين غير محصورة بقضية لاجئين فقط، إنما بقضية تقرير المصير، أي بناء دولة.
واجه هذا المشروع الفلسطيني تحديات وصعوبات متنوعة، في أساسها من طرف إسرائيل التي ترفض الى يومنا هذا تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وقرارات أي طرف آخر من الشرعية الدولية بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته.
النضال الذي قاده الشعب الفلسطيني من خلال م.ت.ف بين للعالم اجمع ان له قضية، وان قضيته قضية حق.

فبدأت دول كثيرة تميل إلى جانب تأييد المطالب الفلسطينية، في أمريكا اللاتينية، دول المعسكر الشرقي، عدم الانحياز، وعدد من الدول الأوروبية.

ثلاثة اطراف للصراع:

الطرف الفلسطيني الذي يبحث عن كل السبل لانجاح مشروعه الوطني بالعودة وإقامة دولته على ارض فلسطين الكاملة. وطبعا تغير المطلب ليكون محصورًا بأراضي 67 أي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية... وهذا يعني اعتراف غير مباشر بإسرائيل وحقها في الوجود. وهذا ما تم التعبير عنه في اتفاقيات أوسلو لاحقا.

الطرف الثاني هو إسرائيل التي ترفض فكرة دولة فلسطينية، وان قبلت بالحد الأدنى حكم ذاتي مشروط بقيود كثيرة في مقدمتها الإبقاء على المستوطنات الصهيونية ونزع السلاح وتطويق الضفة من كل الجهات.... وبالحد الأدنى الأدنى تشكيل معازل – بانتوستانات في الضفة الغربية تعتمد على البلديات فقط، مع إدارة السلطة لها ليس على قاعدة دولة إنما سلطة محدودة الصلاحيات.
الطرف الثالث: الشرعية الدولية، الدول العظمى المعنية بالامر: قرارات الشرعية الدولية ان من حق الشعب الفلسطيني إقامة دولته على أراضي 67 وفقا لقرار 242 و 338... وحق العودة وفقا لقرار 194.

وأصدرت الأمم المتحدة وهيئاتها مئات القرارات التي تدين وتلزم إسرائيل بمسائل تتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن إسرائيل لم تنفذ أيا منها.

الدول العظمى المعنية بالقضية هي روسيا(الاتحاد السوفييتي، دول أوروبية، الولايات المتحدة).
روسيا والدول الأوروبية تعترف بإسرائيل وتنادي بحق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم على جزء من ارض فلسطين... لكن الدولة الأهم التي عملت ضد مشروع الدولة الفلسطينية هي الولايات المتحدة... ولو اخذنا مثال فقط على ذلك مباردة السادات في 1977 قوضت الكثير من الامال بخصوص القضية الفلسطينية. تراجع دور مصر، وبالتالي تراجع دور الدول العربية المؤثرة، خصوصا بعد انتصار محدود في 73 ولكنه انتصار قوض خرافة إسرائيل التي لا تقهر... واتفاقيات كامب دافيد الاستسلامية والانفراد بمصر كانت كلها مؤشرات الى تفكك العالم العربي. وعرفت إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة على الاستمرار في تفكيك العالم العربي ومنع قيام دولة فلسطينية.
حلم الدولة الذي عبر عنه عرفات في خطابه في الأمم المتحدة في 1974، حلم الدولة الواحدة.. كان مرفوضا بالكلية، ولا يزال مرفوضًا من قبل اسرائيل والولايات المتحدة، لأنّه يُنهي المشروع الصهيوني.
نشاط هنري كيسنجر في المنطقة كان لصالح إسرائيل وضد رغبات الشعب الفلسطيني والدول العربية. ثم مشاريع بيغن وشارون في استئصال المنظمة... واعتقد أنّ هذه هي عقدتهما، وخاصة شارون الذي أراد بكل ثمن أن يصفي المنظمة ويصفي القضية في اجتياحه للبنان وحرب المخيمات، وصبرا وشاتيلا... وإخراج المنظمة من لبنان وغيرها من عمليات القتل والتدمير والتصفيات حتى لمفكرين وادباء وشعراء... أصبح كل الفلسطينيين مستهدفين من إسرائيل، لأنهم استيقظوا بعد 48، واعلنوا أنّ قضيتهم ليست قضية مخيمات فقط، إنّها قضية وطن.
احداث إقليمية ودولية أثّرت على القضية الفلسطينية وساهمت في تعزيز مكانة ودور إسرائيل، منها الحرب الإيرانية – العراقية، والحرب الاهلية في لبنان، والغزو العراقي للكويت، وغيرها..
ولكن استمرت م.ت.ف تعمل من اجل الهدف الاسمى وهو إقامة دولة..
استمرار الولايات المتحدة بالانحياز الى إسرائيل واعتبارها حليفًا استراتيجي مسألة مؤثرة جدًّا في تعامل الولايات المتحدة مع الطرف العربي والفلسطيني.
خطابات الرؤساء الأمريكيين من ريغين الى بوش الاب والابن وكلينتون اتخذت وجهان التصريح بحق إسرائيل في دولة وأمن واعتبار الفلسطينيين حجر عثرة لتبنيهم الإرهاب ومخالفة القوانين والقرارات وعرقلة مسيرة بناء ثقة وسلام...

اللاعب الوحيد بقوة كراعي للسلام في المنطقة هو الولايات المتحدة.. فهي منحازة لإسرائيل، وخطابها ملون ذي وجهين...

بمعنى آخر، أنّه حتى الرئاسة الامريكية لا تريد دولة فلسطينية في المنطقة... بالرغم من تصريحات الرؤساء والمنسقين بوجوب إقامة دولة الى جانب إسرائيل...
لكن، كيف يمكن إقامة مثل هذه االدولة وإسرائيل تبطش بالأرض الفلسطينية سواء في غزة الى الانسحاب الأحادي وفي لقدس والضفة...

جاءت المصيدة الثانية، وهي اتفاقيات أوسلو... لجلب قيادة المنظمة الى فلسطين، باتفاق غزة – اريحا أولاً، ثم تقسيم الضفة الى ثلاثة مناطق، بحيث تبقى واحدة منها تحت سيطرة مباشرة لإسرائيل.. وهكذا تمَّ قضم آخر لاراضي الدولة الفلسطينية المأمولة... واقامة السلطة الفلسطينية وليس أكثر...

وبالرغم من تصريحات الإدارة الامريكية بوجوب تجميد الاستيطان إلا أنّه استمر في الفترات التي جرت فيها جولات من المفاوضات...
تقليص مساحات حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية لتكون مقتصرة على المدن الكبرى ومحيطها، مع فواصل استيطانية عرضية تحول دون تشكيل تواصل جغرافي بينها يؤدي الى إقامة شبه دولة.

ولا بد من ذكر أسلوب اتبعته إسرائيل والولايات المتحدة ولا تزال، وهو شيطنة المُعَارِض الذي يخرج عن السرب، أو يرفض أن ينضم الى السرب... فياسر عرفات قائد الثورة واحد مؤسسيها بالرغم من أنّه رضخ لاوسلو، لكنّه لم يوقع على تنازلات تتعلق بشعبه، مثل حق العودة، والقدس وغيرها... حوصر ودمرت المؤسسات الفلبسطينية وتمت تطبيق سياسات القمع والاغتيالات... إلى أن توفى...

وإذا عُدنا إلى الخلف قليلاً، فإنّه بالرغم من كل محاولات إسرائيل لتصفية المنظمة والقيادة والقضية خارج فلسطين، إلاّ أنّ القضية انتقلت الى فلسطين مع اندلاع الانتفاضة الأولى في 1987.. عندها واجهتها إسرائيل بشراسة وقوة مفرطة ووحشية لم يشهد مثلها التاريخ... شنّت حربًا على الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، والأخيرة أكثر- حصار دموي...
في اعقاب كل عملية شيطنة يقع هجوم أو عدوان أو غزو على منطقة معينة في الضفة وغزة ولبنان...
إرادة إسرائيل بمنع أي محاولة لاقامة دولة فلسطينية، وتمثَّلَ ذلك خلال حكومات غولدا مئير ورابين الأولى والثانية وبيغين وشمير ونتنياهو وبراك وشارون... الأخير كان المتوحش الأكبر والدموي الأكبر ... أراد تصفية الشعب الفلسطيني... انسحاب احادي الجانب من غزة فدُعي رجل السلام، ولكنه فرض حصارًا الى اليوم... وبناء الجدار العازل ليفصل بين إسرائيل والمناطق التي فيها فلسطينيين...

وبهذه السياسة لم ولن تقوم دولة فلسطينية، إنّما بانتوستانات مشكلة نظام ابارتهايد عنصري على غرار جنوب افريقيا.

وباعتقادي وضع دراسة مستفيضة بهذا الشكل لمشروع الدولة الفلسطينية مع الإحاطة بجوانب متشعبة للصراع مسألة ليست سهلة بالمرّة... فيها قدرة على المتابعة، على التفكيك للحدث ومجمل الاحداث، على طرح موقف وان كان في أحيان كثيرة خفيًّا ولكنّه واضح أنّ موقف المؤلف غير مناصر بالمرة للانهيار الفلسطيني الى هذا الدرك... وأنّه يميل الى صفوف معارضي فتح الذين رأوا في أوسلو تصفية للقضية.

وبودي الإشارة إلى أنّ المؤلف اطلع على تشكيلة كبيرة من المصادر التاريخية والسياسية والفكرية والإعلامية كروافد زودّته بما احتاج إليه من مواد خام لوضع مؤلفه هذا.
أود أن أشير، على أن قراءة الكتاب بمجلديه ليست رحلة نقاهة، إنما هي عملية دراسة وتعمق للمهتمين بالموضوع وحيثياته ودلالاته.

بالمحصلة الأخيرة، فإنّ الدكتور داود تلحمي نقل لنا محاولات الفلسطينيين الدؤوبة دون يأس لتأسيس دولة لهم بالرغم من تراجع العرب وانحياز الولايات المتحدة، وبالرغم من ترسانة السلاح في إسرائيل، إلا أنّ إصرار الفلسطيني على حقه هو شوكة في حلق المشروع الصهيوني الاستيطاني الاقتلاعي... وستبقى فكرة "الدولة" ترافق الفلسطيني أينما حل وأينما توجه...

د. جوني منصور
(قُدّمت المداخلة في أمسية إطلاق الكتاب في نادي حيفا الثقافي يوم 13.09.18 )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى