الطبعة الرابعة من ديوان «نسمات»
كلمة عن الطبعة الرابعة من ديوان «نسمات» للشاعر المغربي الدكتور أمجد مجدوب رشيد
لئن كان الكلام على الكلام صعبا، كما قال التوحيدي، فإنه من باب أولى سيكون الكلام على سيد الكلام أصعب. وسيد الكلام حسب ياكوبسون هو الشعر. هذا أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أفكِّر في كتابة كلمة عن ديوان "نسمات" للشاعر المغربي الدكتور أمجد مجدوب رشيد.
عرفتُ الدكتور أمجد ناقدا، ودارسا للأعمال السردية، ومبدعا روائيا، ورساما، وزجالا، ومؤلّفا لا يَمَلّ ولا يَكَلّ من الكتابة. يشتغل في الوقت نفسه على مشاريع مختلفة، ومتنوعة، فلا تعوزه الطاقة، ولا تخذله الإرادة للوصول بها جميعها إلى غايتها. وها أنا أكتشف من خلال هذا الديوان وجها إبداعيا آخر تكتمل به حلقة المبدع المتكامل، المتعدد المشارب، والمتنوع الاهتمامات، والمنفتح على كل الآفاق، والمتشبع بفنون شتى.
لن تستطيع هذه الكلمة العجلى أن تحيط بالتجربة الشعرية للشاعر أمجد، مهما حاولَتْ، لكن ذلك لا يُعفيها من ذكر بعض الخصائص التي قد تثير انتباه أي قارئ لهذا الديوان، الذي ينتمي إلى الشعر العمودي، المتعارف عليه منذ الخليل بن أحمد. وجاءت قصائده على بحورٍ بعضها صافٍ (الرجز، والهزج، والرمل، والمتقارب، والمتدارك)، والبعض الآخر مركب (كالطويل، والمديد، والبسيط، والخفيف، والسريع، والمجتث). ومع أن بعض القصائد اتخذت شكلا خارجا عن نمط السكة الحديدية المألوف في الشعر العمودي، فإنها لم تتحرر بتاتًا من أوزان الخليل، بالرغم من التوزيع المختلف الذي اختاره الشاعر، لقناعة جمالية لديه، تُحرِّر البصر من قيود الشطرين المتوازيين، وتمنح كلمات النص وجمَلَه أبعادا بصرية جديدة، وتجعل الوقفة العروضية تنسجم مع الدلالة والمعنى.
عتبة:
من خلال العتبة الأولى للديوان يطالعنا عنوانه "نسمات"، ليحيل على كل ما هو منعش، وناعم، ولطيف. إذ الجذر اللغوي "نَسَمَ" يدل على الريح اللينة الهُبوب (مقاييس اللغة)، ومنه النسيم الذي يعني الريح الطيّبة (لسان العرب). والنسْمة هي الهَبَّة الواحدة من تلك الريح، وجمعها نسمات. ودلالة الجمع في العنوان الكثرة، والتعدد، والهيمنة. نحن إذًا أمام فضاء يعبق بكل ما هو طيِّب، أو يحيل على الطّيب، والطّيبة، وانتعاش الروح بكل ما هو جميل، ولطيف، وطيّب.
تجلّيات صوفية:
وكلما توغّلتَ في الديوان، وارتقيتَ في مدارج مقاماته، احتضنك مناخ صوفي، من خلال اللغة الموظَّفة، والتعابير المستعمَلة، والخيالات والصور التي تصادفها في دروب القصائد، وزوايا الأبيات وتجاويفها، وكأنه يُحلِّق بك في نوع من التسامي الروحي، ويُشركك في رقصة من رقصات أولئك الدراويش، وهم يرتقون بأرواحهم نحو أعلى المقامات في السمو الروحي. وليس ذلك بِدعًا في هذا الديوان، فالشاعر مسكون بمفردات القاموس الصوفي، ومفتون بأجوائه، كما لا يخفى على كل من اطلع على كتاباته الإبداعية، شعرية كانت، أم سردية.
يقول في قصيدة "يقين":
شاهدتُ نور الله في خلـــــــقهِ
في طيره تحــــــلو أغانــــيهِ
في بحْره في نجـــمهِ مُشرقًا
في نسمة الصــــبح تُناديــه ِ
في كل إنسان سعَى نحــــوهُ
الحسنُ والغفران يُدنــــيهِ
يَرقى بنا ذكرٌ سَخـــيُّ السَّنا
يا طيبَ جنْيٍ منـــه نَجْنيهِ
رؤية الكائنات التي تؤثث هذا الكون، هي التي تفضي بالشاعر إلى رؤية نور الخالق. فهو يراه في الطير وأنغامه، وفي النجم وإشراقه، وفي البحر وعظمته، وفي كل إنسان يتوجَّه إلى خالقه بالتوبة والمغفرة. والنتيجة الارتقاء في مدارج معرفة الله، بمزيد من الذكر والتسبيح، يجعلان العارف بالله يدرك سر وجوده، ويجني منه أطايب الجَنى، فتتماهى نفسه بدُعائها مع السماء، ويتأسس بيته على دعائم ذلك الدعاء:
نفسي سماءٌ كلُّها سبَّـــــحتْ
بيتي الدُّعاء من سَـــــــواريهِ
ولا تتحقق الرؤية بالبصر فقط، بل تكتمل بالبصيرة أيضا، وبكل ما يساعد على الوصول إلى ذلك من تدبُّر، وتفكُّر، وخلوة. فتصير الرؤية، متى تحققت، غير محددة بمكان واحد، أو حيّز معيّن، بل تمتد لتصير في كل مكان. يقول في قصيدة "أراه بكل وجوه المكان":
وقلبي بحبِّ كريم العطــايــا
شغوف دَفــوق بذكر المثاني
إذا ما خلوتُ ذكرتُ الحبـــيبَ
بلفظٍ لطيفٍ كهمسِ الحسانِ
أراه بِـــقلبي وحبري وصمـتي
أراه بكـــــل وجــــوه المكــانِ
ومتى تغلغل حبُّ الإله في قلب العبد عَرَف ربَّه، ومتى عرفه أحبَّه لا محالة، كما قال الإمام الغزالي، وإذا تأكدَتْ تلك المَحبَّة سُمِّيتْ عشقا. يقول الشاعر في قصيدة "رحيق الوصل":
إنَّ أكْـــــوانَ الهُدَى جَنَّــــــــةٌ
في فؤادِ العاشــــقِ المُهْتَــدي
حُبُّ رَبٍّ قدْ سَـــــــمَا نـــــورُهُ
روحُ ريحانٍ وشـــــوقٍ ندي
إن الله هو الحب الخالص، ومِنْ حُبِّه يتدفق حب المخلوقات كلِّها، وبذلك يتوجَّه الصوفي بحبه للجميع، فيحب الخير للناس كلِّهم، ولا يستثني من دعائه أحدًا:
ونجِّ عَبيدا أحَبّوا رضاكم
وأنقِذْهمُ من سحيق الهوانِ
الشاعر الإنسان:
يكشف الديوان عمق العلاقات الإنسانية التي نسجها الشاعر مع معارفه، سواء في المحيط القريب منه، أو حتى خارج حدود الوطن. فقد خصَّ كل واحد من هؤلاء ببيت أو أبيات، هي كالعربون على صدق تلك العلاقة، وعلى حرص الشاعر على أن يسموَ بها إلى أرقى درجات الإنسانية، بعيدا عن كل مصلحة آنية، أو منفعة ذاتية. ويبلغ الشاعر في ذلك مستوى رفيعا من الاعتراف بالجميل، خصوصا لأساتذته، الذين كان لهم عليه فضل التعليم، والتأطير، فيُشيد بذلك، ويخصهم أحيانا بقصائد كاملة، ومستقلة. عن أساتذته في المركز التربوي الجهوي بفاس، يقول:
شكرتُ الذين أناروا علوما
بذهني فكانوا الضياء الجليل
وفي هذه القصيدة أثنى عليهم واحدا واحدا، وذكرهم بالاسم، وأشار إلى بعض خصائصهم الشخصية، كالبشاشة، والذكاء، والحكمة، وفصاحة القول، وبلاغة العبارة، وسرعة الانفعال أحيانا.
وفي قصيدة "كريم الصفات"، يقول مؤبِّنًا أحد الأساتذة الأجلاء:
بكَتْك الضــمائر، يبكيك كونٌ
ويبكيك صرح فـــريد عـــتيد
بذرْتَ المَعَانِي، وفِــــكْراً رشيدا
ومَنْ يَبْـــذُرُ الفــــكْرَ، حَيّاً يعُــودُ
وأشاد بنادي الجراري، في قصيدة "العميد"، مسجِّلا ما له من أفضال على الحركة الأدبية، والإبداعية، وإتاحة فرص اللقاء للمهتمين بالكتابة، وتَطارُح قضايا الفكر، والنقد، والكتابة بينهم. يقول:
ونادي الجراري رياضٌ ومَغنى
فـــفيه فنون وفــــكرٌ رشــيدُ
وفيه تجود القــــرائـــح دُرًّا
فكــــــــل لقاء قصيــــدٌ وعيدُ
ولزملائه في العمل، ولا سيما الذين أحيلوا على المعاش، نصيب من التمجيد، والتنويه بجهودهم، وفضلهم على الناشئة. يقول في قصيدة "أفق جديد"، بمناسبة حفل تكريم الأستاذ عبد النبي مجاب:
وقالوا: تقاعدْتَ! قُـلْ: ذاكَ أُفْقٌ
جديدٌ، أجـــدِّدُ فيهِ رِكابِــي
سأذْكُرُ ما عِشْتُ، دوْماً نُجوماً
أناروا حياتي وكانــوا صِحابـي
وكانوا بساتــينَ وُدٍّ وصـدقٍ
تَــغَنّى بذاكَ أنيـــــــقُ الرَّبابِ
ولم يَغفُل الشاعر في ديوانه عن أصدقائه العرب، الذين تَوطَّدت علاقتهم به في فاس، أو عن طريق الإنترنيت. ومنهم اليمَني ماجد، الذي قال عنه:
تَفيض القوافي بأحلى شجَنْ
تعانقُ صنعاءُ فيها عدَنْ
أيا ماجدًا من بلاد اليمَنْ
حللتَ كِرامًا فأهلا بمَنْ
أقام بأحياءِ فاسٍ نُـهى
وعِلمًا وعِشقًا يُضيءُ الزمَنْ
ومنهم أيضا العراقي بسّام، وقد جمعتهما إحدى المنتديات الأدبية. يقول عنه:
أضاءت شُموسُ الشعر والفن أيامي
وأكرَمَني ربّي بأنوار بَسّام
وغيرهما كثير، يحفل الديوان بمشاعر الحب، والإخاء التي يُكِنُّها الشاعر لهم جميعا.
أَقْفالُ القصائد:
لا بد أن يَلْفِت انتباهَ قارئ الديوان ما تتميز به نهايات بعض القصائد من خصوصيات. وقُفل القصيدة هو الذي يصون حرمتها، ويحفظ سرّها، ويلخّص زبدة القول فيها. قال ابن رشيق في العمدة: «فإذا كان أولُ الشعر مفتاحاً، وجب أن يكون الآخِرُ قُفلاً عليه». والشاعر المُبرَّز هو الذي يستطيع أن يُوَفِّق بين مفتاح قصيدته وقفلها. إن بعض الشعراء تشغلهم مطالع القصائد، وتأخذ من اهتمامهم الحظ الأوفر، وفي المقابل تحظى الخواتم لدى البعض الآخر بالاهتمام الأكبر. وربما صارت خاتمة القصيدة، أحيانا أهمَّ ما فيها، أو هي بيت القصيد لدى الشاعر. إن "خاتمة الكلام أبقى في السمع، وألصق بالنفس؛ لِقُرب العهد بها؛ فإن حسُنتْ حسُن، وإن قبُحتْ قبُح، والأعمال بخواتيمها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" (ابن رشيق). ولعل هذا ما حدا بصاحب "نسمات" إلى إيلاء تلك الخواتم عناية خاصة، لا باعتبارها إيذانا بانتهاء القصيدة فقط، بل لأنها وفق ما حدّده ابن رشيق: "قاعدة القصيدة، وآخر ما يَتبقى منها في الأسماع". ولذلك وجب، حسب رأيه "أن يكون مُحْكَمًا، لا يمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسنُ منه". إن الشاعر عندما يبلغ خاتمة القصيدة، يكون قد استنفد كل ما أمْلَتْه عليه الدفقة الشعورية من معانٍ، وأفكار، وبلغ ذروة القول، وأحسَّ نشوةَ الاكتمال، فلم تَعُد به حاجة إلى إضافة، أو زيادة. والمتلقي، بدوره، يتقبّل الإضاءة الشعرية التي تضمنتْها الخاتمة، فتُشعِرُه بأنه حقق الاكتفاء الوجداني الذي يعطيه القناعةَ بأن العمل قد اكتمل، وبلغ منتهاه.
ولا شك أن الشاعر أمجد مجدوب رشيد كان واعيًا بهذا المعطى، فأوْلى عددًا من خواتم قصائده عناية خاصة، وأفرغ عليها كثيرا من أشكال الإجادة والتحسين، لِتَرقى إلى مستوى الحكمة، أو المثل، وتُحدِث لدى المتلقي شيئا من الدهشة، تجعل تلك الخاتمة متعلقة بذاكرته، لصيقة بوجدانه. قال في تأبين أحد أساتذته:
بذرْتَ المَعَانِي، وفِــــكْراً رشيدا
ومَنْ يَبْـــذُرُ الفــــكْرَ، حَيّاً يعُــودُ
جاء هذا البيت في خاتمة القصيدة ليُتوِّج عددا من الأبيات فيها إطراء للمرحوم، وتعداد لمناقبه، وتذكير بصفاته الكريمة، وتمجيد لأفضاله العلمية على طلبته. وهذه الصفة بالذات هي التي ستظل خالدة بين الذاكرين له، وهي التي ستجعله على الدوام حيّا بين الباحثين، وطلبة العلم. فأي فضل أكبرُ من هذا؟ وأي تأبين يخفف على النفوس لوعةَ فراقِ المرحوم، أفضل من هذا الذي ورد في خاتمة القصيدة؟ إن تلك الأعمال الصالحة للفقيد، المشهود له بها بين طلبته ومعارفه، ومِنْ ضِمْنِها عِلمُه الذي يُنتفَع به، هي التي تَضْمَنُ له الذِّكْرَ الحسن بينهم، وتجعله خالدا كلما ذُكِر اسمُه، أو انتُفِع بمؤلَّفٍ من مؤلفاته.
في خاتمة أخرى لإحدى القصائد الغزلية يصوِّر لنا الشاعر محبوبته اللعوب، بعد أن تسلمت منه خطابا، فاستقبلتْه بكثير من التعالي واللامبالاة، فهي جالسة بروض بديع تلهو، بل بلغت بها سادِيَّتُها أن أشعلت النار في ذلك الخطاب، ومضت تلهو به، وتستمتع بمنظره. يقول:
كتبتُ إليهِ: حبيـــبي تَلطَّـــــفْ!
فَجاء الـــــرَّسولُ ودقَّ بِبــــــابي
يــَــــقول: حبيبي بــروضٍ بديعٍ
يُغنِّي ويلهو بحَرْقِ الخِـــطابِ!
ردٌّ صادم ومخيب للآمال، وخاتمة تحرق قلوب العاشقين، تماما كما أحرقت المحبوبة اللعوب خطاب عاشقها. صورة مُعبِّرة تحيل على فعل نيرون في الأساطير المعروفة حين أشعل النيران في مدينة روما، وراح يعزف على قيثارته، مستلِذا مشهد النار تلتهم المدينة وسكانها.
ونكتفي بخاتمة أخيرة، لأن المجال لا يتسع لاستعراض الخواتم كلها في الديوان، وردت في قصيدة "حنين"، التي كتبها الشاعر وهو بعيد عن مدينة فاس، يهزّه إليها الشوق العارم، ويمزِّق أضلاعه حنين إلى دروبها، وحواريها المُشبَعة بالعطور، وسحر الليالي، ونسائم الأصباح. وتغدو فاس، بعشق الشاعر لها، عنوانا للجمال الأنثوي، ومعشوقتَه الأثيرة، التي فاقت بحُسنها النساء كلَّهنّ. يقول:
وأنتِ الجـــمال وحُسـن الصبايا
ولكنْ بحسنكِ فُقْتِ النــــــــساءْ
صورةٌ تُلخِّص المدينة الأنثى، التي تستمد خصوصياتها الجمالية من أنوثتها. ألم يقل ابن عربي: "كلُّ مكانٍ لا يُؤَنَّثُ، لا يُعوَّلُ عليه"؟
ختم سريع:
كلمة أردتُها قصيرة ومختصرة، وأبى الديوان إلا أن يجعلها، بالرغم من عجَلتها، بهذا الحجم، إذْ فرض عليها الوقوفَ عند أهم خصوصياته، وملامسةَ بعض ملامحه. فعساها تفتح شهيةَ القراء لمزيد من الكلام على سيد الكلام.