الأربعاء ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٤
بقلم المصطفى السهلي

معالي وزير التنمية

عادت به الذاكرة إلى سنوات خلت، حين كان يَغُذُّ السيرَ، في ذلك اليوم المطير، من قريته المعلقة في الجبل، نحو الطريق الرئيس الرابط بين مدينة النحاس ومدينة النعاس. بدأ يومَها في إنشاء مشروعه الصغير في المَعبَر الذي تمُرُّ منه حافلةٌ متهالكة تربط بالكاد بين المدينتين، وبعضُ السيارات، وقليلٌ من السياح الذين تثيرهم قمة الجبل، خصوصا حين تكسوها الثلوج، فيجدون فيها مجالا لممارسة رياضاتهم الشتوية المفضلة، ولا سيما رياضة التزحلق على الثلج. مشروعه البسيط يقوم على إعداد الشاي، وتوفير بعض الحطب للتدفئة، وتزويد المسافرين والعابرين لممر القمة بما يحتاجونه من خبز، وحساء ساخن، وقليل من المكسَّرات. هو أول من فكر في مشروع كهذا، قبل أن يظهر منافسون له في هذا المكان الذي يشهد أحيانا انقطاع الطريق، بسبب تراكم الثلوج، فيُضْطَرُّ العابرون إلى الانتظار هنا، حتى تحضر الكاسحة الكَسلى، بعد أن تنفُضَ عنها خمول سنة كاملة، أو ربما سنوات توالى فيها الجفاف. تذكّر أن الشاهد الوحيد على انطلاق مشروعه الناشئ هو جرو صغير وجَدَه في ذلك اليوم المطير وحيدا تائها وسط الطريق، يئنُّ من الجوع والبرد والوحدة. مَن تخلى عنه هنا في هذه الظروف القاسية؟ التَفَتَ يبحث عن كائن في المدى القريب، فلم تقع عيناه على أحد. حمله برفق، ووضعه على صدره، تحت جلبابه الصوفي وهو ما يزال يئن، ثم سرعان ما خفَتَ أنينُه حين شعر ببعض الدفء يسري في عروقه تحت الجلباب السميك. حين وصل إلى الفضاء الذي اتخذه مَقرًّا لمشروعه، وضع الجرو في الركن القريب من المدفأة التي بدأ بإيقاد حطبها، ثم رفس كِسرة خبز في إناء مملوء بالماء، فأتى عليه الجرو في طرفة عين، كما لو حُرِم من الطعام منذ ولادته، ثم التفَّ حول نفسه، وغرق في سبات عميق.

منذ ذلك اليوم صار رفيقَ دربِه، وأنيسَه الدائم. يرافقه صباحا من القرية، ويظل إلى جانبه في المقصف طول النهار، ثم يعود معه في المساء إلى القرية. لا يكاد يُرى في مكان، إلا والكلب معه. وكما كان الجرو شاهدا على انطلاق المشروع، أصبح بعدما كبر، وكبر معه المشروع، شاهدا على نجاحه، بالرغم من منافسة الأغيار له. زوار المقصف، والوافدون عليه عبْر الطريق الجبلي الوعر، طولَ فصول السنة، يعرفون أن الكلب شريكٌ لصاحب المحل، وجزءٌ لا يتجزّأ من مكوناته. ولأن المقصف يغشاه كل من هبّ ودبَّ من المسافرين، وسكان القرى المجاورة، لم يعد الكلب يَهِرُّ، فما سُمِع له نباح قط على أحد، بل يقضي يومه باسطا ذراعيه بالوصيد في الأيام الدافئة، أو على مقربة من المدفأة بالداخل في الأيام الباردة. أصبح مثل قطعة أثاث داخل ذلك الفضاء. لا يلتفت إليه أحد، سوى الأجانب من مرتادي ذلك المكان. كان بعضهم يمسح على رأسه، أو ظهره، فيحس بمتعة كبيرة، ويأخذ في تحريك ذيله امتنانا ومودة. يقوم من مكانه، أحيانا، ويسير خلف الذين يبالغون في الاهتمام به، يتودّد إليهم، ويُشيِّعهم حتى يغادروا المكان، ثم يعود إلى مضجعه، ويمد ذراعيه أمامه، ويضع عليهما رأسه.

عجوزان من هؤلاء الأجانب أُعجِبا بهذا الفضاء على بساطته، وتأثرا بكرم صاحبه، وطريقة تعامله مع زبائنه، وتعفُّفه عن أخذ المقابل من الذين يبدو عليهم العِوَز والفاقة. واندهشوا للثمن الرمزي الذي دفعوه مقابل وجبة غداء بدت لهم فاخرة، في هذه المنطقة المقطوعة عن العالم. وهما يغادران المكان، بعد لحظةِ مداعبةٍ للكلب المستلقي على الأرض، لاحظا كيف تَحامَل على نفسه بمشقة، محاولا تشييعهما. سألا صاحبه عن سبب العرَج الذي يشكو منه الكلب في قائمتيه الأماميتين. تنهّد بعمق وقد تذكَّر ذلك اليوم الأسود، حين رأى العربة المتهالكة التي تجوب القرى الجبلية القريبة، تسير نحو مدخل المقصف، دون أن يتمكن سائقها من كبحها، فداست في طريقها الكلب المضطجع في مكانه المعتاد. هرول في اتجاهه صارخا، وأخرجه، بعد لأْيٍ، من تحت السيارة التي ارتطمت بحائط المقصف بقوة. حمله بين يديه، وسمعه يئنُّ أنينًا عاد به إلى ذلك اليوم المطير الذي عثر عليه مُتخَلًّى عنه في الخلاء. تكسّرتْ قائمتاه، وسال منهما دم غزير. ولأول مرة شعر بالدموع تنهمر من عينين حسب، لزمن طويل، أنهما تحجَّرتا بفعل الطقس البارد في هذه المنطقة. أسرع به قريبا من المدفأة، فنظف مكان النزف، وأحضر قطعتين من الخشب، صنع منهما جبيرتين وضعهما على الكَسرين، وربطهما بقطعة قماش. تأثر العجوزان بالغ التأثر وهما يسمعان قصة ذلك الحادث، واقترحا على صاحب المقصف أن يأخذا معهما الكلب ليقوما بعلاجه، على أن يُرجعاه إليه في زيارتهما القادمة، السنة المقبلة. صمت طويلا، وبدا عليه تردد وحيرة. من يضمن له أن يعودا كما وعَدا؟ وهل يعيش الكلب حتى يصل ذلك البلد البعيد؟ وهل يَلقى فعلا العناية اللازمة من عجوزين بلَغا من العمر عتيا؟ وعندما بدا له إصرارهما على أخذه، ولاحظ تعلق الكلب بهما، قبِلَ على مضَض. حمل الكلب بين يديه، وهو يعانقه بحرارة، ووضعه داخل السيارة، ثم وقف ينظر إليها، وهي تشق طريقها نحو المجهول. كتَمَ دمعتين تسللتا من عينيه، وعاد حسيرا إلى عمله.

لم تبرح صورةُ الكلب مخيلتَه لحظة. تتداعى صورُه وذكرياتُه معه، منذ أن كان جروا صغيرا، ينط بين الزوار، ويتسلَّل بين الأواني وتحت الكراسي والطاولات، إلى أن شبَّ وكبر، فقلَّتْ حركته. وبلغ به الأسى مبلغه حين تذكَّر يوم إصابته في ذلك الحادث المشؤوم. غالَبَهُ نَدَمٌ شديد على أن طاوعته نفسُه لتسليمه لِذَيْنِكَ العجوزين الأجنبيين. فها هي أكثر من سنة تمُرُّ، ولم يعودا كما وعَداه. جالِسًا خارج محله الفارغ من رواده، مدَّ رجليه النحيفتين بحثا عن أشعة شمس تُطِلُّ، على استحياء، من وراء غيمة حبلى بخير وفير. لم يُصَدِّقْ عينيه وهو يرى سيارة تقف غير بعيد عنه، وما إن فُتِح بابها الخلفي، حتى ركضَ نحوه كلب عَرَف أنه هو، بالرغم من تغيُّر شكله. بدا له أكبر مما كان، نظيفًا، سليمًا، مُعافى. انقضَّ عليه الكلب يُعانقه، ويتشمَّم رائحتَه، ويلحس جانبا من وجهه. نسي في غمرة هذه الفرحة أن يُحَيِّيَ العجوزين. اعتذر إليهما وهو يحاول التخلص من صديقه المتشبِّث به. أصَرَّ، عرفانًا منه بالجميل، على أن يستقبلهما في بيته. أغلق المحل، وركب مع الكلب في المقعدين الخلفيين للسيارة، ورافق ضيفيه إلى القرية. المسالك وعرة، والطريق شاق غير معبَّد، وكثير من الأشجار غير مُثمِرة. تفاجأ الضيفان بخلو المنطقة من أي دليل على آثار التنمية في هذه القرية. قرَّ عزمهما بعد هذه الزيارة، وما أحيطا به من كرم بالرغم من قصر ذات اليد لدى السكان، على أن يُقَدِّما خدمة لهذه القرية وأهلها.

تفاجأ الجميع بعد مدة بشق طريق مُعبَّد يمتدُّ من القرية إلى الطريق الرئيس، وبمنشآت اجتماعية تُقام قريبًا منها، وبألواح الطاقة الشمسية تُزرع في كل مكان، خصوصا فوق المقصف، الذي أُعيدَ تجديدُه بالكامل، وتجهيزُه بآليات حديثة، وسط دهشة الجميع. عادت الحياة اليومية إلى سابق عهدها، وعاد الكلب يستلقي في مكانه المفضّل. لم يعرفه الكثيرون، فكانوا يتساءلون عنه بفضول كبير، ويكتفي صاحبه بالقول: "إنه معالي وزير التنمية".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى