السور العالي
لازلت أتذكر سور مدرستي الإبتدائية العالي.. ذلك السور الشاهق والمرتفع والذي كان يشكل لي عقدة الصغر .. ويشعرني بقصر قامتي وقلة حيلتي كلما مررت من أمامه .. او حاذيته في أية مناسبة.
كنت أجلس لفترات طويلة .. أحدق فيه واتساءل عن طريقة تسلقه وهل هناك مجال للإنتصار على علوه الشاهق وارتفاعه الساحق؟؟ لم أييأس .. ولم أقنط من المحاولة فقد كنت احاول يوميا أن أتسلقه ولو لمرة واحدة حتى أكسر عناده .. وأروض كبريائه.. ولكنه للأسف .. كان أقوى مني .. كان شامخاً صامداً يطال عنان السماء .. لا تهزه رياح .. ولا تنال من عضده امطار ولا عوامل تعرية. كان دائما هناك.. يحيط بمبنى المدرسة الصغير ويحضنه بكل إحكام.. لا يسمح له بالتحرك من مكانه ويمنع عنه نظرات المتطفلين .. ومحاولات العابثين.
لو استعنت "بصديق" كان بإمكاني الإنتصار عليه وترويضه .. ولكنني كنت "عنيدا" مثل تراب هذه الأرض الطيبة .. لا أريد أن "أكسر" نفسي لأحد ولو كان صديقا لي "يفوقني" طولاً وامكانات جسدية. لم أجرؤ حتى التفكير باستخدام "وسائل مساعدة" اخرى تقلل من شأن انتصاري على ذلك العلم ولم أرد أن أفقد أي جزء من "حلاوة" الإنتصار .. لم اشأ أن يكدر أفراحي ولياليّ الملاح مساعدة خارجية مهما كانت.
كنت أريد أن أتفوق على "طبيعتي" واتمرد على طفولتي .. وأتحدى قصر قامتي .. فلذلك استمرت تلك المحاولات "الفاشلة" بضع سنين حتى غادرت تلك المدرسة وانتقلت إلى غيرها دون أن أحقق غايتي وأجد حلا لضعف حيلتي.. فبضع السنتمترات التي اكتسبتها لم تكن كافية لأتمكن من إعتلاء صهوته وتحقيق الإنتصار.
مرارة الهزيمة لم تفارقني طيلة سنوات دراستي .. ومشاغل الحياة وتقلبات أحوالها لم تستطع أن تمحو من أعماقي تلك المشاعر القاسية.. وكبرياء طفولتي لم يحطمه سوى ذلك السور العنيد الذي نعتّه بكل الصفات المشينة وأطلقت عليه كل الألقاب السيئة .. ووضعت فيه كل عيوب الدنيا .. ولكنه .. لا زال هناك صامدا قائما لا يلين.
ومرت السنون .. وتغيرت الأحوال .. وأخذتني الحياة في مناكبها .. وأكلت من رزقه في بلاد متعددة من هذه الكرة الأرضية .. ويشاء الله أن يجمعني بذلك السور مرة أخرى وانا قد تجاوزت منتصف العمر .. ويالهول المفاجأة .. ماهذا؟؟ أيعقل أن يكون ذلك العملاق بمثل هذا الإرتفاع؟؟ يا ألله كم كنت قصيراً لافشل في إعتلاءه وإعلان انتصاري.. لا يتجاوز ارتفاع السور أكثر من متر ونصف فقط !!!
وبدون تردد قمت بالقفز فوقه .. ووثبت دون أن أشعر .. وثبة أسد وجد غريمه وقد أنهكه المرض وتقدم السن .. وصرخت بصوت مرتفع ها قد إنتصرت عليك أيها اللعين وأطلقت العنان لضحكة كسرت لحظات الصمت التي خيمت على المكان .. ولكنني سرعان ما توقفت عندما لاحظت نظرات الإستغراب والإستهجان على أطفالي الذين كانوا برفقتي وحارس المدرسة الذي رمقني بنظرة اعادت لي صوابي وذكرتني بحقيقة عمري الآني.
مشاركة منتدى
13 آذار (مارس) 2006, 07:34, بقلم عمار غيث
مقالة جميلة ومعبرة
اسلوب سلس وممتع
كل التهاني لك