الخميس ٣١ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم
السبعوراه
طحن الأسد بأضراسه القوية آخر قطعة لحم من الهبرة الكبيرة التى ألقاهاله مدربه وصديقه.. تثاءب وتمطى بجسـده العملاق ثم اسـتكان وأخلدللراحة وهو يرقب البانوراما البادية من بين قضبان قفصه.. كانت الريحتلهو وتتلاعب بكل ماخف وزنه من أغصان وأوراق وريشات طير، وكانالحفيف يتناهى إلى مسامعه من صفوف الأشجار القريبة.. طارت ورقةصحف عاليا والتفت مع الهواء فى دائرة كاملة كأنها طائرة ورقية ترقص رقصة الدراويش فى حلبة الجو الرحيبة.. انقضت الورقة لأسفل فجأةكالصقر واجتازت قضبان القفص إلى داخله وسقطت أمام الأسد القابعكأبى الهول.. نظر الأسد إلى الورقة الكبيرة بعينين زائغتين فى لا مبالاة..تثاءب مرة أخرى وجال ببصره فيما حوله، ثم تسمرت عيناه على الورقة.. لوهلة بدا أنها نظرة غير ذات معنى كأنها استراحة للعينين، لكن بريقاما دب فيهما أوحى بثمة تحول فى اهتمامات الغضنفر.. مد قائمته اليمنى وجذب الورقة وضبط وضعها أمام عينيه.. تزايد اهتمامه بالورقةواعتدل قليلا ليقرأ باهتمام وتمعن.. شىء ما فيما قرأ أثــار بعض كوامن نفـســه فنهض وراح يدور فى القفص رائحا غاديا وذيله يترعص فىالهواء فى مشهد يشى بشىء من السعادة أو على الأقل بشىء من راحةالنفس.. وأخيرا هدأ ورقد على أرض القفص مرة أخرى وحدق بعيدافى شىء لا تراه عيناه، وبدت على ثغره الضخم ابتسامة عريضة تنم عن الرضا والارتياح..* * * * *انفتح باب خلفى ودلف إلى داخل القفص شاب وسيم وقوى البنية علىنحو غير مألوف.. امتدت يد الشاب إلى رأس الأسد وداعب شعر لبدته وهو يقول : كيف حالك ياأسامة ؟ عندى لك خبر سار !أفاق الأسد من أحلام يقظة كان غارقا فيها ونهض واستدار ليواجهالمدرب.. ونظر إليه مبتسما وقال : ماذا عندك ياحلو؟قال المدرب فى سرور واضح : خبر سار حقا.. بجد بجد.. غدا سياتىفريق من التليفزيون الفرنسى ليصور البرنامج.. إنها فرصة عظيمة لنا.. لابد أن نؤدى نمرتنا على أروع ماتكون.. إننى أعتمد عليك ياسبعالبرمبة.. استرح اليوم لنتدرب صباحا ونبدع فى العرض مساء..قال الأسد فى ظرف ودلال : ماشى ياحلو لكن لى عندك طلبا..قال المدرب : كل طلباتك مجابة ياعزيزى.. لك أفضل قطع اللحوم وأكثرها طزاجة أيها الحبيب.. وبالمقادير التى تشتهيها كمان..قال الأسد فى لوم ودلال : إيـيـيـيـه ؟ !!!.. هذا أمر مفروغ منه.. يعنىتحصيل حاصل ياسيد حلو.. وهناك أمر آخر لابد أن تعد بتحقيقه لكىأقدم أروع عروضى.. أنظر إلى هذه الورقة لتدرك ما أعنى.. خذ..ودفع بالورقة فتناولها المدرب ومضى يقرأ : مؤتمر عام للأسود يُعقد فى مصر.. يعقد فى العشرين من نوفمبر بقاعة الملك خوفو بالجيزة مؤتمر عام لأسود مصر والعالم العربى، للتعارف وتوثيق العلاقات وإلقاءالكلمات عن أحوال الأسود وتجاربها العتيدة فى الحياة.. الدعوة عامةلكل الأسود , ولا يسمح بدخول غير الأسود..ابتسم الحلو ابتسامة عريضة وراح ينقل بصره لبعض الوقت بين الورقة والأسد وأخيرا قال: غالى والطلب رخيص... بس الأول ورينى الهمة !قال الأسد : ثقتك فى رجل.. فى أسد.. فى ملك الغابة وملك السيرك !* * * * *إزاء العرض الباهر على نحو يفوق المألوف والدوى الإعلامى غير المسبوقلنمرة الأسد لم يكن أمام المدرب إلا أن يفى بوعده لصديقه أسامة ويسمح لهبحضور مؤتمر الأسود.. وفى اليوم المحدد صحا أسامة مبكرا وبدا منشرحالصدر ومنتشيا كل الإنتشاء.. كانت تراوده مشاعر عظيمة ويسيطر عليهشعور خفى بأنه سيلتقى ـ حتما ولابد ـ ببعض أقاربه الذين انفصل عنهم منذاقتنصه صياد أوربى وهو بعد شبل صغير يلعب فى أحراش جبال كينيا..وجمح به الخيال فتصور أن أمه ماتزال على قيد الحياة وأنه سيلاقيها فىالمؤتمر.. قفز فى صندوق السيارة وانطلق به المدرب وهو مايزال غارقافى تأملاته وأحلامه، وبعد الرحلة غير الطويلة لم ينتبه إلى توقف السيارةإلا عندما فتح المدرب باب الصندوق وأطل عليه قائلا : هاااا.. لقد وصلنا..أما زلت ترغب فى حضور المؤتمر ؟أجابه الأسد فى حدة : بالطبع نعم !.. وهل كان الأمر مجرد هزار ؟قال المدرب مبتسما : أنت وماتريد.. ها أنا أفى بوعدى، فلا تلمنى على أىأمر.. إنها المرة الأولى التى تتعامل فيها مع غيرى، فلتكن حكيما وتتحملتبعات ذلك !.. هاهى قاعة المؤتمر هناك خلف تلك البوابة الكبيرة.. وأنافى انتظارك هنا حتى تفرغ من المؤتمر..قال الأسد وهو يحدق فى مدربه : لست أعلم ماترمى إليه بهذه الكلمات..لكن دعنى أؤكد لك أننى لا أقدر على فراقك.. ولم أعد مؤهلا للحياة فى غيرذلك السيرك الذى هو بيتى وملاذى الوحيد.. إنه فقط الحنين إلى الماضىيدفعنى إلى ملاقاة بنى جنسى والتواصل مع ذكريات طفولتى..قال ذلك وقفز فى خفة ورشاقة إلى الأرض ومضى يسير مختالا إلى البوابةبينما المدرب يتابعه بنظرات يحار المرء فى تفسير معناها...* * * * *هدأ وقع خطى الأسد وتعالت خيلاؤه وهو يقترب من البوابة الحديدية..وتوقف أمام الشاب الأنيق المنتصب خلفها وقال : افتح ياهذا.. لقد جئتلحضور المؤتمر..خاطبه الشاب وهو لا يكاد ينظر إليه وقال بنبرة فيها الكثير من التعالى :نعم !.. أفندم !.. ومن تكون حضرة جنابك ؟قال الأسد مستغربا : من أكووون ؟.. ألا ترى ؟.. أنا الأسد !قال الشاب فى ضيق : حسنا.. وأين مستنداتك ؟قال الأسد فى استغراب واضح : مستنداتى ؟.. أية مستندات تقصد ؟انحنى الشاب نحو البوابة المغلقة وقال بحدة : المستندات التى تثبت أنكأسد.. شهادة رسمية معتمدة تؤكد أنك أسد لنسمح لك بالدخول !..هل الأمر واضح أم ترغب فى مذكرة تفسيرية ؟..قال الأسد بلهجة تنم عن مزيج من الغضب والذهول : أية شهادة يافتىها أنا أمامك أسد بشحمه ولحمه، فماذا تريد أكثر من ذلك ؟.. هل تمزح ؟قال الشاب صارخا : ياعم أنا لا أمزح ولا أغازل.. أنا لا أعرفك ولم أراكمن قبل، وأنت تقول لى أنك أسد وترغب فى حضور مؤتمر الأسود..فأين مستنداتك.. كل أسد يجتاز هذه البوابة ليحضر المؤتمر لابد أن يحملحول عنقه طوقا مثبتا به بطاقة معدنية مدموغة تحمل شهادة صحيحةمعتمدة من الجهات الرسمية بأنه أسد.. فهل فهمت ؟ هل وعيت ؟ أم جئتللمناكفة وإضاعة وقتنا الثمين ؟..تضاعف ذهول الأسد وقال بصوت مجلجل : وماذا ترانى ؟.. هل ترى أمامككلب أم قط صغير ؟.. يا أخى ألا ترى ضخامة حجمى ؟ ألا ترى عضلاتىالعظيمة ؟ ألا ترى أنيابى الحادة الكبيرة ؟.. ألا ترى هذه اللبدة الكثيفة التىنتميز بها نحن معشر الأسود ولا يتميز بها غيرنا ؟طوح الشاب يديه فى الهواء من فرط الغضب وقال بصوت مدو : ياعم الحاجعضلات إيه وهباب إيه ؟.. طيب ماكل الحيوانات لها عضلات وكل حيواناتالغابة لها أنياب !.. والجاموسة فى منتهى الضخامة والخرتيت أضخم والفيلأضخم واضخم.. وكمان بعض أنواع القرود لها لبدة !.. أنا إيش عرفنى ؟أنا ياعم موظف رسمى وأتعامل مع أوراق رسمية.. معاك شهادة تثبت إنكأسد تدخل.. مامعاكش آسف لا أستطيع إدخالك ولو كنت عمى !.. فضهاسيرة يأخى وحل عنى !!!فى تلك اللحظة تقاطر بقية حراس البوابة إلى حيث زميلهم،وتدخل كل منهمبكلمة : ياأخى ماقالك ما يقدرش يدخلك.. إنت فاكرها مسألة سهلة.. فاكرالعملية سايبة كده وأى واحد ممكن يسمح بدخول حيوان مجهول الهوية ؟..فاكر إنك بمجرد ماتقول أنا أسد تبقى أسد من غير هوية ولا أوراق رسمية ؟فاكر إن أى واحد لا تعب ولا سهر الليالى ولا كلف خاطره فى تحصيل شهادةتثبت هويته يقدر ينتحل شخصية أسد ؟.. هل سيادتك قدمت أطروحة تؤكدباسانيد علمية ومراجع معترف بها إنك أسد ؟.. هل سيادتك ناقشت الأطروحةوثبت بالدليل القاطع أمام لجنة المناقشة أنك أسد وينطبق عليك الاسم العلمىاللاتينى بانثيرا ليـو.. ولا بس واخد المسألة فهلوة وعافية وعاوز بأى طريقةتبقى أسد وخلاص؟..أصيب الغضنفر بالذهول ولم يحر جوابا أمام هذا المنطق الغريب.. سكت برهةوالغضب يشتعل بين جوانحه، ثم تمالك نفسه وقال : فين السيد مدير القاعةأو رئيس المؤتمر ؟ أريد التحدث إلى أحدهما...جاءه الرد عاجلا فى برود : مدير القاعة لم يحضر بعد ؟ وحين يحضر ستراهلأن سيارته ستدخل من هذه البوابة.. خدمة أخرى؟.. مزيد من الإستفسار ؟قال الأسد فى رضوخ : لا شكرا.. سأنتظر هنا حتى يحضر..قال أحدهم فى صفاقة : ماشى بس من فضلك ابتعد عن البوابة لأن الأسودالمحترمين سوف يصلون خلال دقائق ويدخلون من هنا..* * * * *انثنى الغضنفر مبتعدا، لكنه لم يكد يقطع بضع خطوات حتى شاهد عربة ﭭانسوداء تقف غير بعيد ويهبط منها حمار ويسير الهوينا متجها نحو البوابة.. حدق حارس البوابة الأنيق بتمعن فى الطوق المعلق برقبة الحمار وقال فىترحاب شديد : أهلا وسهلا.. تفضل سيدى الأسد..وأدار الشاب المفتاح فانفتحت البوابة ودلف الحمار قبل أن يسارع الشاب بغلقها.انتفض أسامة وقال يحدث نفسه بصوت خفيض والدهشة تعقد لسانه : ماذا ؟!!!وعاد إلى البوابة مسرعا يسأل فى لهفة : ما هذا ؟ من ذلك الذى دخل ؟أجابه الشاب ساخرا : من ذلك ؟ وماشأنك أنت لتسال ؟.. ومع ذلك دعنى أجيبك..ألم تر طوق عنقه ؟ ألا تعرف ماهو مدون على البطاقة المعدنية ؟ حسنا.. دعنىأخبرك : مدون عليها أنه أسد.. أسد حقيقى بأوراق رسمية، مش أسد عيرة..إنفجر سيد الغاب وقال فى هدير جبار : أسد إيه ونيلة إيه دا حمار.. من أنتم ؟بهائم ؟ ألا تميزون بين الأسد والحمار، أم أنها مباراة فى الاستعباط..هب رجال البوابة إلى جوار زميلهم الأنيق مرة أخرى وانطلقوا فى فاصل كورالىمن الردح الأوبرالى : استعباط إيه وسفالة إيه ؟.. احفظ أدبك ياسيد.. إحنا ناسنلتزم بالقانون ونتعامل معك ومع غيرك بالأوراق الرسمية.. وسيادة الأسد معهما يثبت أنه أسد لذلك سمحنا له بالدخول.. فلا تتطاول على جنابه وتزعم أنهحمار.. خصوصا وأننا بدأنا نشك فى أنك أنت اللى حمار لأنك لا تريد أن تفهم !!..استشاط الأسد غضبا إثر هذه الكلمات وأطلق زئيرا مرعدا ارتجت له الأرض واهتزتقضبان البوابة.. ولم يكن الحمار قد بلغ نهاية الممشى المؤدى إلى مبنى القاعةفتوقف وأصابه الشلل برهة حين سمع الزئير المجلجل.. ثم انبثقت داخله حواسهالبرية وثارت فى عروقه غريزة البقاء فانطلق لا يلوى على شىء واختفى داخلالمبنى.. وكان لمشهد هروب الحمار وقعا طيبا على الأسد فهدأ قليلا والتفت إلىحارس البوابة قائلا : أرأيت أيها الشاب.. أهذا أسد.. أهناك أسد يفزعه زئيرالأسود ؟.. أما زلت مصرا أنه أسد ؟..فرد الشاب فى وقاحة : لقد سارع بالدخول إلى القاعة لأنه لا وقت لديه يضيعه..أما كونه أسد فهو أسد كابرا عن كابر وبشهادة معترف بها.. وأما كون الصراخالذى أطلقته زئيرا، فهذا مالم نسمع به من قبل، لأن الزئير لا يكون إلا للأسود وأنتلست بأسد.. لا تؤاخذنى أنتاااااااا.. لكن لا داع..غلبت حاسة الكوميديا على الأسد فأفلتت منه ضحكة ونظر إلى الشاب الأنيق بعينينبهما بريق من نوع غريب، ثم تحول ليبتعد عن البوابة دون أن ينبس ببنت شفة...* * * * *اتخذ أسامة موقعا له فى ظل شجرة كبيرة واستدار قليلا ليتفادى سقوط أشعةالشمس على عينيه، وأوشك على الرقود طلبا لراحة الأعصاب لولا أن حركة غيرعادية ردت عليه تحفزه وانتباهه.. نظر إلى البوابة فشاهد سيارة فخمة تتقدمنحوها وتتوقف على بعد سنتيمترات فقط منها.. نزلت من مقعد القيادة فتـاةترتدى ملابس زاهية الألوان تحتبس بداخلها تضاريس جسدها الفينان.. اندفعتالأنثى نحو الباب الخلفى للسيارة وشعرها المصبوغ باللون الذهبى يتطاير كألسنةاللهب فى الهواء.. فتحت الباب وهى تقول : ياللا ياحبيبى.. أوعى تكونيا ميكى نسيت الطوق والبطاقة ؟لكنها ردت على نفسها وميكى يترجل من السيارة : لأ الحمد لله أهم.. ياللا خُشعلى البوابة وورى لأونكل مستنداتك..انتفض الأسد أسامة بشدة وهز رأسه بعنف لعله يفيق من ثمة كابوس يعانيه..لكن المشهد الماثل أمامه لم يتغير , إنها الحقيقة وقسوة الواقع ولا شىء غير ذلكتقدم نحو البوابة بينما كان ميكى يعبرها بجسده الهزيل وخطاه الناعمة وينطلق نحومبنى القاعة.. خاطب أسامة الحارس فى نبرات تشى بالذهول والاستنكار قائلا :ــ ماذا ؟ كلب ؟.. كلب مدلل ؟.. أهذا فى عرفكم أسد أيضا ؟أجابه الحارس بعينين جاحظتين من فرط التحدى والتبجح : نعم أسد.. شبل.. يعنىأسد شاب.. ونحن نشجع الشباب ونرحب به.. ألديك اعتراض ياجناب الحاقد ؟قال أسامة فى هدوء غير متوقع ولكن بلهجة تنم عن الاستنكار الشديد : أتضحكونعلى أنفسكم، أم علينا ؟.. هل بكم مسا من الجنون ؟.. أكونشى غلطت وجيتالعباسية ؟.. السراية الصفرا يعنى أو العصفورية بأى لهجة تشاء ؟..احتد الشاب وقال فى غضب عارم : شوفوا قلة الأدب والسفالة !.. إنت حكايتك إيهفى يومك الأغبر اللى مش فايت ؟ !!!.. ياعم قلنا لك إن المسالة مسألة شهاداتومستندات.. الأوراق الرسمية يا حبيبى لا تكذب ولها موثوقية عالية !.. أنت لاتفهم ذلك لأنك همجى متخلف غير مؤهل لقيم ومعايير الحضارة.. وهذا الذى دخللتوه ليس كلبا بل هوأسد شاب زاخر بالقوة والفتوة.. الشهادة المثبتة فى طوقالرقبة تقول هذا ونحن لا نعرف غير المستندات ولا نعترف بشىء غيرها.. أماالآراء الخاصة القائمة على السمع والمشاهدة فهى مجرد أحكام شخصية تخضعللأهواء وتختلف من شخص لآخر ولا تستند للطريقة العلمية.. افهم بقى وحل عنايرحم والديك..قال ذلك وأشاح بوجهه وتحول عن البوابة ليتناول زجاجة المشروب الغازى منزميله ويصبها فى جوفه دفعة واحدة، بينما الأسد أسامة ينسحب فى هدوء مصطنعليقبع مرة أخرى تحت ظل الشجرة الآخذ فى التقلص بسرعة كبيرة..* * * * *بدا أسامة لمن يراه رابضا فى هدوء وسكينة , لكنه فى حقيقة الأمر كانت تضطرمفى نفسه مشاعر غريبة وتعتمل فى عقله أفكار شتى.. وراح يسأل نفسه عنالفرق بين هؤلاء البشر الذين ينكرونه وجمهور السيرك الذى يصفق له ويعبر عنأشد الإعجاب، هل هم من طينة واحدة؟ هل لهم نفس العقول؟.. هل؟هل؟وألف هل؟وتمادت به الأفكار ودوامة المشاعر أكثر وأكثر ونسى نفسه تماما ولم ينتبه إلىتحول الظل عنه تاركا إياه لأشعة الشمس الحارقة تلفح جسده الهرقلى الجبار..لكنه انتبه فجأة إلى صوت دراجة نارية قادمة من بعيد.. انتشل نفسه من دوامةالأفكار وراح يتابع الدراجة النارية وهى تقترب وكانت من ذلك النوع القديمالمزود بعربة جانبية.. حاول أن يتعرف على ماهية شاغل العربة لكنه لم يستطعحتى أوقفها السائق بمحاذاة البوابة وترجل شاغلهـا فإذا به تيس.. تيس أبيضبلحية طويلة وعلى رأسه قبعة وعلى عينيه نظارة شمسية سوداء.. نهضأسامة على الفور وهو يقول لنفسه : يا للكوميديا السوداء ؟..دلف التيس من البوابة وأعاد الحارس إغلاقها بسرعة وعينه على الأسد الذىنهض من مربضه وراح يتقدم نحوه. بلغ الأسد البوابة ورفع برثنه ولطمهابحركة مفاجئة لطمة قوية جعلتها ترتج بشدة ففزع الحارس وقال فى انزعاجواضح : ماذا تفعل ياااا.. ؟ ماذا تقصد يا هذا؟.. ألن تكف عن تطفلك السمج؟!!أجاب الأسد فى صوت عميق يحمل رنة الأسى : أهذا الحزين الذى دخل أسد أيضا؟قال الشاب وهو يتحاشى النظر إلى عينى الأسد الحمراوين اللتين يتطاير منهماالشرر : نعم أسد، طالما كان يحمل مؤهلات الأسد ومستندات هويته..قال أسامة والدماء تفور فى عروقه : إنت عبيط ولا بتستعبط ؟.. الذى دخل هذاتيس ابن تيس.. ما بقاش غير المعيز كمان تعتبروها أسود.. ماذا تريدون؟ إهانةجنسنا والسخرية منا ؟.. أما زمن عجيب حقا !!!قال الحارس ساخطا : كفاية بقى.. تيس إيه وقلة أدب إيه ؟.. ده أسد غصب عنكوعن اللى جابوك.. وبقولك إيه بقى.. يا تحِل عنا ياتاكل بالجزمة.. ما شأنك أنتبمن يدخل ومن يخرج، أنت لا أسد ولا حصلت قرد حتى !!!..وكأنما كانت تلك الكلمات القشة التى قصمت ظهر الأسد وفجرت بركان الغضب الكامنبين جوانحه ففغر فاه وقال بصوت مرعد : أنا ياابن الكلب ؟.. سأريك إذن إن كنتأسدا أم شيئا آخر..وارتد للخلف فجأة بضعة أمتار ثم اندفع إلى الأمام بسرعة ووثب وثبة عملاقة اجتازبها البوابة.. فوجىء الحارس بالأمر وأصابه فزع هائل فسحب مسدسه وسدده نحوالأسد المقتحم.. فى لمح البصر استدار الأسد وانحرف جانبا ليتفادى الخطر.. ضغطالحارس الزناد فمرت الرصاصة بين شعر لبدة الأسد وأصابته بجرح سطحى.. واصلالأسد اندفاعته نحو الحارس ولطمه ببرثنه لطمة جبارة جعلت رأسه يتحطم على حديدالبوابة وأطاحت بالمسدس إلى الخارج.. قفز الحراس الآخرون من مقاعدهم القريبةوسارعوا بالإختفاء داخل الغرفة الملحقة بالبوابة، بينما استدار الأسد ليلحق بالتيسالذى كان فى تلك اللحظات يصعد درج مبنى القاعة ويوشك على الدخول إليها..أطلق الأسد زئيرا عظيما فتجمد التيس فى موضعه على الدرج.. اندفع ولحق بهوتناول عنقه بين فكيه وطوح به فى الهواء فطار كالكرة وسقط أسفل السلم جثةهامدة.. اقتحم الأسد الباب ودخل إلى القاعة وزئيره يصم الآذان ودارت مجزرةعظيمة استهلها بقتل الحمار والكلب ثم انثنى إلى سائر الحيوانات التى وفدت قبلوصوله والتى لم يكن من بينها أسد أوشبل أوحتى قط صغير واحد !!.. واختلطصوت الزئير العظيم بصوت صراخ الحيوانات المستغيثة دون أن يجيبها مجيب !!* * * * *فى مساء ذلك اليوم أطلت مذيعة نشرة التاسعة بوجه ممتقع وقالت بنبرات تشىبمزيج غريب من الإنزعاج والاستغراب الشديدين : جاءنا مايلى.. قام قبل ظهراليوم حيوان برى غريب الهوية يُعتقد أنه مصاب بداء الكَلِبْ بالهجوم على مؤتمرالأسود المنعقد بقاعة الملك خوفو، وقام يدفعه حقد عظيم بقتل جميع الأسودالمشاركة فى المؤتمر وقتل حارس البوابة. ويعتقد أن المجرم استعان فىتنفيذ المجزرة بسلاح نارى، فقد أكد لنا مراسلنا أن سكان المنطقة سمعوا دوىطلقات نارية تتردد فى نطاق مبنى القاعة، ويؤكد هذه الرواية ما ذهب إليهالخبراء الأمنيون من أن المجرم لم يكن بمقدوره مواجهة أسد واحد من الشهداءبغير الإستعانة بسلاح نارى. هذا وتؤكد السلطات المختصة حرصها على مطاردةذلك الحيوان المسعور الذى اختفى من المنطقة عقب تنفيذ المجزرة الرهيبة.