الروائية الفلسطينية نعمة خالد
قريبة هي الدمعة، عندما تتحدث، وقريبة عندما تجتاها مشاعر الفقد، والغربة، روائية تطلق صرختها التي شكلتها صرخات الرواد من الروائيين وملحمة اللجوء الفلسطيني ومراحل لا تجد أمامها إلا الصراخ حين تتذكرها، لتنتقد واقعا سيئا بجدارة ومحذرة مما هو أسوأ، ابنة قرية المغار المحتلة في العام 1948، وابنة مخيم اليرموك للاجئيين الفلسطينيين في سوريا، الروائية المشاكسة دائما نعمة خالد، تحمل في صوتها ارث من مضوا، وفي قلبها خارطة الوطن، وعينيها على جرح أمة لم يندمل بعد.
- دعينا بداية نتحدث عن شخصيات قصصك و رواياتك، ونصفهن بأنهن "بريات" صاخبات بواقع رجولي مفتقد، هل الواقع الرجولي فعلا مفتقد؟
* ليس بهذه الصورة تماما، بالواقع أنا أبحث كما قالت احداهن "النساء يركضن مع الذئاب" أريد أن أدخل إلى تلك المساحة البكر، التي لم تلوثها الحضارة، وهذا لا يعني بالضرورة غياب الرجل، وما بيني وبين الرجل ليس "داحس والغبراء" لكني أشعر أنني من أولئك الأمازونيات، أريد أن أقيم مملكة مليئة بالعواء، الذي يتجاوز الكبت، لذلك شخصياتي النسائية في "البدد" و "ليلة الحناء " وغيرها يبحثن عن المفقود، والغائب، ينبشن ربما بأظافرهن وضفائرهن بأي شيء، بحثا عن هذا الغائب، أقول في " ليلة الحناء" أن احداهن تقف على نافذة الانتظار تمشط ضفيرتها وتنتظر حوافر خيل حبيبها، الذي لم يمت".
- تتحدثين دائما عن الفارس الغائب وسميته بالسندباد في احدى رواياتك، عندما صحا "السندباد" من الحرير والملذات صحا على الفاجعة والخراب؟
* صحيح، وهذه الفاجعة أكلته، أكلت كل أحلامه في كل رحلاته، "عاد السندباد إلى بغداد " كتبتها عندما سقطت بغداد، صحا على طيور الرخ، تقذف من بطنها قذائفا وموت وليس بيضا، وقتلت كل شيء، كنت أتمنى وأنا أكتب هذه القصة، أن حجاجا ياتي، وكنت من القسوة بحيث، كنت أستدعي الحجاج وأنا أكتب، أقول له تعال، تعال إلى حفر الباطن، إلى البصرة والموصل والفرات ودجلة، ليتحول دجلة إلى لون أحمر، ولكن لا تسقط بغداد.
- برأيك وعطفا على ما ذكرت من وصف لشخصياتك، هل وصلنا إلى هذا الحد؟
* ربما في مجموعاتي الأولى كان الشعار السياسي واضحا وفجا، وهي نتاج تجربة سياسية عشتها، بعد ذلك حاولت أن اجعل السياسة خلفية بعيدة، عندما أتحدث عن حالة الفقد للرجل الذي أريد، فهي مرتبطة بحالة التراجع السياسي الفجة والفظيعة، الحالة التي أودت بنا إلى مساحة خاوية.
– وهي الفجيعة التي استيقظ عليها السندباد...
* تماما، وهي التي أصابت المرأة في "غرفة 220" والتي أصابت المرأة في قصة " الانتظار" وأصابت سراب في " البدد" حين تاهت في صحراء سيناء، وهي تريد العودة إلى فلسطين تهريبا.
– عندما يكون البحث عن الرجل المنقذ والمخلصن ألا ينقص ذلك من المرأة؟ فالرجل هو المنقذ والمرأة مجرد متلقي.
* عندما نقول أن شخصياتي نساء صاخبات وقلت أنني كالأمازونيات، المرأة الأمازونية هي المراة القوية، التي تقتل الرجل، لكني لا أريد قتله، أريد أن أمسك يده ونسير سويا، جنبا إلى جنب، يكمل أحدنا الآخر، لكني أحس أحيانا اني مثل نساء " الأجاندة" المرأة الخرافية التي تجلس على الشاطيء، وتنتظر من ياتي ليأخذ بيدها، في لحظة ضعف ونحن بشر، لكن هذا لا يعني أني لا أوقظ العواء في داخلها بنفس اللحظة، في اللحظة عينها التي تنتظر المخلص القادم والذي قد يتحول إلى زبد بحر ويتلاشى، وتتحول هي مرة أخرى إلى ذئبة، امرأة قوية، أنا لا أقول أن الرجل هو المخلص، على الرغم من أني اتهمت في الدراسات النقدية، بأني أحاول أن أعمل على الجانب النسوي، أنا ضد الأدب النسوي، ولا أؤمن بهذه التسمية والتصنيف، الأدب أدب إن كتبه رجل أم امرأة، رشيد بو جدرة عندما كتب "ليليات امرأة آرق" تحدث عن المرأة أكثر مما تستطيع المرأة أن تتحدث عن نفسها، وبصراحة أنا كامرأة اعجز أن أدخل إلى تلك المساحات التي دخلها بو جدرة، وأعتقد أني أستطيع أن أدخل إلى أعماق الرجل بقوة.
- قلت مرة أننا اذا وصلنا إلى ثقافة الموت فإن الثقافة ستموت، هل هذا تشاءم أم تحذير؟
* بطبعي لست متشائمة، هو بمثابة تحذير، أكثر منه رؤيةن فعندما أذهب إلى مؤتمر وأجد أن ثمة غياب للمشهد الثقافي الفلسطيني، وعندما اتحدث عن الرواية الفلسطينية أفاجأ ان طلاب الجامعات لا يعرفون عنها شيئا، وهذا حدث معي كثيرا، عنما أتحدث عن رواية تتناول حالة البؤس، وهي حالة شبيهة بالموت، عندما أرصد المشهد الثقافي اجمالا، أجد أن الكثيرين يتحدثون عن الموت، الفنان زيناتي قدسية في مسرحية " الزبال" و" القيامة" كان يتحدث عن ثقافة الموت، كان يصرخ بالأموات مثلا، ربما لأنهم يسمعون أكثر من الأحياء، وربما هم قادرون على الفعل أكثر من الأحياء، وأنا احذر من ثقافة الموت، لأنها ستوصلنا إلى الموت فعلا، وحتى هذه اللحظة انا ادق جرس الانذار، وأقول انتبهوا اننا نموت رويدا رويدا.
- هذه مناسبة لنسألك عن اطلالك على المشهد الثقافي الفلسطيني؟
* لا أستطيع أن أتحدث عن مشهد متكامل، بل مشاهد فردية، ومشروع لأفراد، كابراهيم نصرالله في " الملهاة الفلسطينية" مشروع سحر خليفة وليلى الأطرش، حسن حميد، وغيرهم، لست مطلة على مشاريع في الداخل الفلسطيني، باستثناء ما كتبه عزت الغزاوي رحمه الله، كل ما قراته من أدب في المشهد الفلسطيني – وأنا لا أدعي أني قرأت كل شيء- أقول أن ليس هناك مشروع ثقافي فلسطيني متكامل، زياد خداش عندما يتحدث في مجموعته القصصية " موعد بذيء مع العاصفة" يتحدث عن حالة عهر، شعرت بوجع وأنا في الشتات وقلت، قد يكون هذا مبالغا أو كاذبا، لكني عندما اتيت إلى هنان لمست جزءا مما كتب، رغم أني كتبت عنه قبل أن آتي إلى هنا، عندما قرات اميل حبيبي مرة أخرى، وكان عندي محاضرة عن أعماله، قلت أن ثمة عمالقة أسسوا لنا، جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، اميل حبيبي، العديد من الروائيين أسسوا لنا، ولكن هل وصلنا إلى مصافهم؟
- ظهور هذا الجيل توازى مع مشروع وطني وسياسي نهض بنا جميعا، أتعتقدي أن غياب المشروع الوطني أدى إلى انحدار الثقافة – اذا اتفقنا على مصطلح انحدار-؟
* عندما نعيش حالة سقوط الحالة الثقافية المواكبة للسقوط تكون ساقطة، والعكس بحالة النهوض، غسان كنفاني عندما كتب رواياته، "عائد إلى حيفا" و "ماذا تبقى لكم" و"رجال في الشمس" كان في حالة نهوض قومي وثوري، لذا كل ما كتب غسان كنفاني كان مشروعا ينهض بالمشهد الثقافي والسياسي، وما كتبه اميل حبيبي من " المتشائل" " واخطية" و " سرايا بنت الغول" كانت في نقد الذات الفلسطينية، ولكن كانت برؤية لمحاولة استمرارية هذا النهوض، وعودة قراءة النكبة من جديد، وما هي الأخطاء التي ارتكبناها حتى حدثت النكبة؟ رغم انه كتب متأخرا إلا أنه يحاول أن يجعلنا نعيد قراءة المرحلة، وأخطائها، ويطرح اسئلة كبيرة عبر مسيرته الأدبية وعبر تسلسل حكائي يأخذك إلى مساحات واسعة ومتعددة في المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، في الحالة الفلسطينية، ويسأل أسئلة موجعة، عن سبب النكبة كما فعل غسان كنفاني، حين تحدث في روايته " رجال في الشمس" الصرخة التي أنهى فيها روايته هي صرخة موجعة، " لماذا لم تطرقوا جدار الخزان؟" هل كان يقصد العمال الذين ذهبوا للعمل بالكويت؟ لا هو بقصد شعبنا قبل النكبة، لماذا لم تطرق جدار الخزان قبل أن تخرج من أرضك، سؤال موجع، اذا بحثنا عن دلالات هذه الصرخة، كل الذين ذكرتهم واضيف أيضا القاصة سميرة عزام، أسسوا لنا مشهدا ثقافيا في حالة نهوض قومي وثوري ووطني، لكننا للأسف لم نكن بحجم هذا المشهد، وتلك الأمانة، لأن الحالة السياسية التي مرت بالشعب الفلسطيني منذ صبرا وشاتيلا واجتياح ال82 وحرب المخيمات وبالانشقاقات السياسية المتتالية في الساحة الفلسطينية، والانقسامات أعتقد انها غير مشجعة.
- ألا ترين بذلك خللا، بان الثقافي يلحق بالسياسي؟
* لا الرواية ليست بنت اللحظة، أنا حتى الآن لم أستطع أن أكتب عن زيارتي لفلسطين، منذ 2009 وحتى الآن، فهي بحاجة إلى زمن حتى تختمر، لا تستطيع أن تحاكي الواقع مباشرة، رغم وجود العديد من الروايات استطاعت ذلك ولكن لا تدخل في عمق الحالة، وأن تحاكيها في لحظتها، الهزائم المتكررة عست نفسها على الأدب الفلسطيني، فهرب بعضهم إلى التاريخ مثل حسن حميد، عندما كتبت " البدد" حاولت أن أرصد التحولات في مخيم عين الحلوة، استطعت ذلك بعد اجتياح ال82، اجتياح ال82 كتبت عنه في مطلع التسعينات، وكما كتب رشاد أبو شاور " الرب لم يسترح في اليوم السابع" و" البكاء على صدر الحبايب" وغيرها وهي روايات لنقد الذات ولكن السؤال هل استطاعت هذه الروايات أن تفعل فعلها في الواقع الفلسطيني؟ هنا المشكلة، أنا لا ألحق السياسي وإنما أنتقده، وأخرج الصديد من جرحه، أحاول أن أقول له كفى أنت أخطات بمراحل مختلفة، لكن هل يستمع؟ اعتقد أنه لا يقرأ!!