الحارس عمر
كان جالسا على كرسيه الخشبي يمد جسده عليه و يشد بطنه براحة يده، مغمضا عينيه ضاما أسنانه في محاولة للتغلب على الألم، فتح عينيه و خطف نظرة إلى الخارج حيث الأمطار غزيرة و الغيوم ملبدة سرعت من اجتماع الظلام على المدينة، عاد بعينيه إلى حالتهما السابقة و غفى...
بعد دقائق جاء السيد روبن يقود سيارته السوداء الفخمة التي انعكست عليها أضواء الشارع فزادتها فخامة رغم الأمطار الغزيرة، توقف أمام الباب الخارجي لمنزله و ضغط بسخط على مزمار سيارته، في تنبيه للحارس إلى وصوله، إن السيد روبن رجل غضوب و من عادته أن يجد الباب الخارجي مفتوحا، لكن الحارس قد تأخر في فتحه اليوم مما أثار غضبه..! ضغط مرة أخرى بقوة على مزمار سيارته و لم يرفع يده إلا بعد لحظات!.. إنه في حالة ثوران، في تلك الأثناء كان حارس البوابة داخل غرفته الصغيرة بجانب الباب من الجزء الداخلي للفناء، يشد بطنه منكبا على وجهه يتقيأ الدم و كان يعتصر من الألم، حين سمع صوت منبه السيارة تماسك و وقف بصعوبة مستعينا بطاولة بجانبه، راح يجر جسده نحو الباب ليفتحه، فتح الباب فدخل سيده يشتعل وجهه غيظا و بمجرد دخوله أوقف السيارة و خرج منها، ضرب الباب بقوة ثم تقدم نحو الحارس بخطوات طويلة و سريعة فأمسكه من معطفه الشتوي و شخص عينيه فيه و أخذ يضغط على حروف كلماته...
– أكره أن أنتظر خارجا... أكره أن أنتظر خادما ليفتح لي الباب، أنت من يفترض به أن ينتظرني لأعود فتفتحه لي و ليس أنا من ينتظرك لتفتحه، و أكره أن أعيد كلامي فلا تعد فعلتك مرة أخرى حتى لا أضطر للقيام بإجراء آخر.
لم يظهر على الحارس”عمر”أنه قد تفاجأ بكلام سيده، فقد تعود منه القسوة و الغلظة و خصوصا عند غضبه... غضبه السريع و الدائم!، فاكتفى بقوله:
– نعم سيدي... أمرك.
تركه السيد روبن بشدة و وجه مشمئز ثم عدل بدبلته السوداء و عاد أدراجه إلى داخل المنزل فواصل عمر إغلاق الباب على مضض، ثم عاد إلى غرفته الصغيرة يشد معدته و يتأوه، في هذه الأثناء رن هاتفه و كانت ابنته عائشة ففتح الخط...
– مرحبا أبي... كيف صرت الآن ؟ هل توقفت معدتك عن الألم؟
– نعم أنا خير... الحمد لله.
– جيد... إذا لا تنس تناول دوائك
– حسنا يا بنيتي..
أغلقت الفتاة السماعة و وضعت هاتفها الجوال في جيب مئزر الطبخ الخاص بها، و عادت إلى المطبخ تعد العشاء للسيدة خيرة و السيد زبير هذان الزوجان المسلمان المغتربان اللذان لا يتوقفان عن الجدال و إغاظة بعضهما البعض، بعد لحظات توجهت إلى الصالة حيث كانت السيدة تشاهد حصة رقص فأخبرتها أن العشاء صار جاهزا، قالت السيدة:
– هل أخبرت العجوز بذلك يا عائشة؟
– ليس بعد سيدتي
دخل حينئذ السيد زبير يتوكأ على عصاه و ينظر إلى زوجته خيرة بنظرات عينيه التي ضيقها قائلا بسخرية يستفز زوجته:
– هي لم تخبر السيد العجوز بعد فقد بدأت بالسيدة زوجته... العجوز السمينة...
رمقته السيدة خيرة بنظرة غيظ ثم رفعت جسدها الضخم الذي كان يستلقي على الأريكة و استوت جالسة ثم وقفت و مشت نحو المطبخ و هي تغمغم...
– لماذا لا تفصحين عن كلامك و ترفعي صوتك ألا يكفي أن سمعي ضعيف
سدت عائشة أذنيها بحركة عفوية لما رفعت السيدة صوتها في وجه زوجها قائلة
– توقف عن الشرب و التدخين أيها العجوز السكير و سيعود كل شيء فيك إلى طبيعته
لقد كان واضحا أنه سمعها و لكن كبار السن عادة ما يستغلون كبر سنهم ليتظاهروا بالعجز و الضعف و أحيانا ليسخروا ممن حولهم لكنه قاطع كلامها قائلا:
– هاااه!... ارفعي صوتك أيتها العجوز النمامة
(العجوز النمامة) تعشق السيدة خيرة الجلسات النسائية و حلقات الكلام الفارغ عن الناس و معرفة أخبار كل واحد منهم بالتفصيل، و تبدع في نشرها طبعا مع إضافة لمساتها الخاصة من التهويل و التضخيم و أحيانا التجميل و التلطيف، لذلك فقد صار زوجها يلقبها بالعجوز النمامة بعد أن ضاق ذرعا بحلقاتها النسائية في منزله و اعتادت هي تلقيبه بالسكير لأنه كثير الشرب!، هي ترى في ذلك انتهاكا صارخا منه لحد عظيم من حدود الله، بينما يرى هو أن نميمتها أسوء من شرب الخمر فهو يتجاوز حده مع ربه أما هي فتتجاوز حدودها مع البشر و تؤذيهم بلسانها السام...، بعد قوله لتلك الجملة اغتاظت خيرة كثيرا منه و كادت ترفع المزهرية التي بجانبها على الطاولة فتضربه بها، لكنها تراجعت و خرجت تضرب الأرض بقدميها فأكملت طريقها إلى المطبخ، لحق بها زوجها و كأنه لم يشبع رغبته من إغضابها بعد، فجلس على طاولة الطعام مقابلا لها مباشرة، و نزع طقم أسنانه فوضعه أمامها ثم أخذ يحك لثته و ينظر إليها ينتظر ردة فعل منها، لكنها لم تتأثر...! و إنما من تأثرت و اشمأزت فعلا هي عائشة الواقفة بجانب طاولتهما تنتظر طلبا لشيء أو لحاجة ما، فلما رأت المنظر أدارت وجهها بعيدا و وضعت يدها على صدرها و ضمت شفتيها فابتلعت ريقها في محاولة لتهدئة معدتها حين شعرت بالغثيان، عندما لاحظ عليها زبير ذلك خاطبها و فمه يرمي اللعاب في صحنه و بعض الزخات تقع في صحن خيرة...
– تعالي يا عائشة لتأكلي معنا لماذا تديرين لنا ظهرك..
وقع قليل من اللعاب المتطاير على وجه السيدة التي تمالكت أعصابها بطريقة غير معتادة فقالت له بصوت منخفض غاضب (البس أسنانك أيها العجوز...)
خرجت عائشة من هناك و هي تشعر بالغثيان و ذهبت مباشرة إلى الصالة، جلست قليلا ثم حملت الهاتف لتتصل بوالدها المريض فلم تشعر بالراحة عندما سألته عن حاله قبل قليل، اتصلت مرارا و تكرارا لكنه لا يجيب بدأ التوتر يغزوا عقلها و الخوف يلعب بأعصابها حتى أنها قد نسيت أخذ الفواكه للزوجين، و لم تسمع نداء العجوز و هو يطالب بحبة من البرتقال بحنق... قامت السيدة عندما تأخرت الخادمة عائشة و ذهبت لتحضر حبات البرتقال بنفسها كي يتوقف زوجها عن الصراخ و رمي اللعاب أمامها، لاحظت حينها شرود عائشة الجالسة في الصالة مقابلة لها فتقدمت منها و سألتها عما يشغل تفكيرها، لكن لا يبدوا أن الفتاة قد سمعتها، تقدمت نحوها و هزتها و أعادت طرح سؤالها، حينما أخبرتها عائشة عن حال والدها طلبت من السائق أن ينقلهم إلى مقر عمله، كان الطريق أطول على عائشة فالقلق يزيد في حجم الأشياء عادة...! يزيد الوقت و المسافة و يزيد من حدة الإحساس بالخطر، بعد عشرين دقيقة وصلت إلى منزل السيد روبن فنزلت بسرعة من السيارة تركض إلى غرفة والدها لكن الباب الخارجي كان مغلقا و لا أثر ظاهرا لوالدها غير مطريته الواقعة أرضا وسط باب غرفته المفتوح، بدأت بالضرب على الباب بتوتر و هي تنادي والدها، و لكن ما من مجيب...!
بعد لحظات رأت نورا يضاء داخل غرفة من غرف المنزل، ثم ما لبثت أن فتح الباب الداخلي ليخرج منه السيد روبن، رفع صوته مخاطبا إياها
– من تكونين ؟
أخبرته الفتاة أنها ابنة السيد عمر و كانت ستكمل مترجية أن يتفقد والدها أو يفتح لها الباب، لولا أن رأت ابتسامة جانبية ساخرة برزت على وجهه، خرج إليها بخطى هادئة متكاسلة حتى وقف أمامها واضعا يديه في جيوب سرواله و لازالت الابتسامة الساخرة تطفو على وجهه، حدق في الفتاة وهلة ثم قال لها:
– قلتِ السيد عمر! منذ متى صار والدك سيدا؟
– هو سيد بالنسبة لي، إنه مريض و أريد أن أراه.
– لا يهمني مرض والدك بقدر ما تهمني مكانته يا صغيرة، من الآن قولي الحارس عمر أو الخادم عمر، حينها يمكنك تفقده... اتفقنا ؟ انظري إلى نفسك يا آنسة ماري ألا تشعرين بالذل و أنت ترتدين هذا الحجاب الذي تعترفين من خلاله أنك مجرد عورة!
– مريم العذراء كانت ترتدي حجابا هل شعرت بالذل! و لماذا تعبدها إذا!... أنا لا تهمني هذه الأحاديث الآن أريد رؤية والدي أرجوك سيدي...
في هذه اللحظة نزل السيد زبير من سيارته ببدلته السوداء و تقدم نحو الباب بمشية من نوع الطبقة الراقية فألقى التحية على السيد روبن و عرفه بنفسه و بأملاكه من خلف ذلك الباب، ليتحول تعاليه إلى تواضع و فظاظته إلى لطف و سخريته إلى احترام، لم تتفاجأ عائشة من ردة فعل روبن فمنذ دخولها و والدها الإسلام تحولت صداقة روبن لعمر الذي كان يدعى (ألبرت) سابقا إلى عداء غير مبرر منه و كره شديد له، و بعد أن كان نائبه الأول في شركته و مدير أعماله تحول إلى حارس باب يتفنن في إذلاله، و لولا تدهور وضعهما المادي لما لجأت عائشة إلى العمل في منزل السيد زبير و السيدة خيرة الذين عاملاها باحترام و تقدير رغم صعوبة البقاء معهما طول النهار من كثرة جدالهما...، بعد أن عرف السيد زبير نفسه لروبن قال له في لهجة مستفزة:
– إذا يا روبن ألست أنت من يوشك على الإفلاس بعد أن سخر منك مدير أعمالك الجديد و أخذ منك نصف أسهمك دون أن تنتبه! أوليس غريبا لرجل قضى نصف حياته في إدارة الأعمال أن يقع في فخ من مساعده الأول! ثم يحاكم بقضايا ديون! لربما هذا هو سبب تعاليك على الناس و فظاظتك معهم... أليس كذلك؟
توتر روبن و نظر إليه نظرة أقرب إلى الاحتقار و التحدي، ثم قام بنداء الحارس ليفتح لهما الباب فهو حسب رأيه لا ينزل بمستواه إلى مستوى فتح الأبواب!، عندما لم يرد الحارس عمر اشتاط روبن غيظا و بدأت عبارات السب و الشتم تنهال من لسانه، و ازداد قلق عائشة فأخذت تتوسل السيد روبن أن يفتح الباب لها لتطمئن عليه لكنه لم يأبه بذلك إنما تقدم إلى غرفة الحارس ليفرغ جام غضبه فيه، فإذا به يجده مرميا على الأرض و بعض من الدم خارج من فمه، حينها هرع إلى الباب ففتحه و سمح للفتاة و السيد زبير بالدخول ثم لحقت بهم السيدة خيرة و السائق، تحول روبن في لحظة إلى شخص لطيف و قلق على صديق حمييم، أخذ يضرب خد عمر و يذكره باسمه القديم”ألبرت”...!، بدا كأنه نسي كل شيء و عاد إلى فترة حميمة مع هذا الرجل، فترة ما قبل كفره بألوهية المسيح...!، لما لم يتمكن من إيقاظه حاول حمله على كتفه ليأخذه إلى سيارته لكنه لم يستطع فساعده سائق السيد زبير و كان سيأخذه لسيارته لكنه تفطن لحظتها لنفسه و تذكر من هو عمر...
إنه الرجل الذي تخلى عن دينه و أقاربه و عشيرته من أجل دين آخر، إنه الشخص الذي خيره بين صداقتهما و محمد فاختار محمد و ضحى بما دونه، إنه الرجل الذي خيره بين مكانته في العمل و بين الإسلام فاختار الإسلام... إنه الرجل الذي يجب أن لا يشفق عليه أبدا!، لكنه رغم ذلك لم يتمكن من التخلي عنه، لم يستطع قتل إنسانيته تجاه شخص يكاد يفارق الحياة، و لم يستطع تجاوز ذكريات جميلة جمعتهما يوما رغم العتب في قلبه، ركب السيارة و ركب السيد زبير بجانبه و السيدة خيرة و عائشة في الخلف مع عمر، كانت عائشة تبكي و تطلب من روبن الإسراع أكثر ما زاد من توتره لقد مرت بذاكرته و هو ينظر إلى صديقه القديم الفاقد لوعيه عبر المرآة الأمامية الكثير من الذكريات الجميلة و الأليمة و الوفية...، و خطر بباله أنه يجب أن لا يموت و هو كافر بالمسيح، يجب أن يعود لدينه قبل موته... يجب أن ينقذه من الجحيم! هذا أقل ما يمكنه فعله لأجل ذكرياتهما معا، لعن نفسه حين تذكره يشد معدته و الألم واضح على وجهه دون أن يسأله عن حاله، لقد شعر بحنين إلى هذا الرجل و إلى ضمة صداقة تعود إليه...
وصل به إلى المستشفى فأدخلوه إلى الاستعجالات... إنها قرحة معدية شديدة!، بعد نصف ساعة نقل إلى غرفة خاصة ليعالج و بعد ساعتين من الانتظار خرج الطبيب و أذن لهم بزيارته، انصرف روبن مباشرة و تظاهر بعدم اكتراثه لهذا الخادم المسلم البائس، دخلت عائشة عند والدها و دخل معها السيد زبير و زوجته ليطمئنا عليه ثم انصرفا بعد مرور بعض الوقت و سمحا للخادمة أن تبقى مع والدها في المشفى، بعد دقائق من مغادرتهما رجع روبن إلى صديقه فدخل دون إذن، وقف مقابل نظر عمر محدقا في عينيه:
– ألن تعود إلى دينك! كدت تموت كافرا ألا تخشى على نفسك من الجحيم!
ابتسم الحارس عمر و رد على سيده الصديق القديم بهدوء و يقين...
– هل تعلم يا سيدي... هذه أول مرة أشعر فيها أني أقوى من الموت و أني لا أخشاه و لا أخشى الجحيم...
– أنت أحمق...! جيد هكذا لن أشفق عليك في أي حال من الأحوال، لديك مهلة من الآن إلى صباح الغد لتعود إلى عملك و لا تهمني مبرراتك... إن تأخرت ستطرد.
خرج بعدها فابتسم عمر ثم عبس ثم استنشق كثيرا من الهواء ليشحن جسده بقوة علها تقاوم حسرته على صعوبة واقعه، نظرت إليه ابنته و حاولت تثبيته ببعض من آيات القرآن بلغة عربية مكسورة، كانت قد حفظتها من إمام المسجد و حفظت معانيها من كتب تفسير القرآن...
في الصباح استيقظ عمر باكرا فوجد ابنته بجانبه نائمة على كرسي بوضع أضرم نارا في روح أب على قطعة منه، و فجر بركان وجع على حالها و حاله أمام عجزه، ثم تذكر شغفها بالعلم و الدراسة قبل أن تتحول إلى خادمة في المنازل تعينه على كسب قوت عائلته الصغيرة و دواء زوجته المريضة، تأملها برهة و في قلبه ألف سكين يذبح و دواخله يقطعها الشعور بالمسؤولية و الذنب و العجز، ثم أيقظها و قام من مكانه يجر جسمه الثقيل المنهك فلبس معطفه و خرج مع ابنته بوجهه الشاحب و جسده المتعب، و ذهبا بسيارة أجرة كل إلى عمله المعتاد.
وصلت عائشة إلى منزل السيد زبير فوجدتهما ينتظرانها بشكل لم تتخيل أن تراهما يوما عليه، إنهما يجلسان بجانب بعضهما يتكلمان بهدوء و لطف، و لما أبصراها ابتسمت خيرة و وقف زبير فتعجبت من الأمر و بادرت بالاعتذار عن كل ما حصل و كل ما سببته لهما من تعب، تقدمت منها خيرة و دعتها للجلوس، ثم طلبت منها بلباقة و لطف أن تخبرها بقصتها و قصة والدها بالتفصيل، أخبرتها عائشة حينئذ عن سبب عداء السيد روبن لوالدها و قسوته معه و عن اضطراره للعمل عنده و كذلك عن صداقتهما القديمة و عملهما معا بتفاهم تام، و عن مرض والدتها الذي زاد من حاجتهم إلى العمل فأجبرت على ترك ثانويتها في سبيل أسرتها و إخوتها، كان واضحا تأثر السيدة بكلام عائشة و تعاطفهما معها لكنها أبدا لم تتخيل أن تسمع يوما ما قاله السيد زبير لحظتها و خصوصا أنه رجل سكير لا يظهر عليه الإهتمام لأمر أحد:
– اسمعي يا عائشة ولا تقاطعي حديثي حتى أنتهي... أنت مسلمة منذ فترة جيدة و هذا أمر رائع، وقد عملت لدينا فترة تقارب السنتين و أنت تعرفين أننا لسنا أفرادا صالحين إلى حد كبير، فأنا رجل يرتكب كبيرة من الكبائر و هي عظيمة في نفسي، لكني أضعف أمامها و الله سيحاسبني أشد الحساب بالتأكيد، أما تلك العجوز فنمامة لا ترحم أحدا من لسانها و بالرغم من ادعائها أنها صالحة فهي تلتزم بالفرائض و تجتنب الكبائر، إلا أنني أرى أن لسانها سيلقي بها في الهاوية، لكن اعلمي يا ابنتي أننا نخاف الله و نؤمن بيوم الحساب و نريد الجنة و نخاف النار كجميع الناس، و قد وجدنا بعد نقاش هادئ أنا و هي أننا نحتاج إلى كفارة لمعاصينا خصوصا أننا قد بلغنا من الكبر عتيا، و يفترض أن ندفع مقابلا لنيل المغفرة فسلعة الله غالية، و لأنك تستحقين مكافأة على تضحيتك من أجل أسرتك و لأنكم مسلمون جدد تعانون من اضطهاد محيطكم الاجتماعي لكم فيفترض بنا و نحن مسلمون قدامى نعيش براحة أن نعينكم و نشد على أيديكم... أليس كذلك؟
التزمت السكون و السكوت فلم تعرف بماذا تجيب خصوصا أنها قد فهمت أن للحديث بقية، و لم تزح عينيها عن السيد زبير خاصة لما سمعت تتمة كلامه حيث غزت الدهشة وجهها و سكن الفراغ ذهنها بغير استيعاب منها لما تسمعه أذناها، فلجم لسانها و خرست تريد فهم قوله بأنه قد منح إدارة شركاته لوالدها! و أن لها منحة مالية لشراء بيت محترم كجزاء لها على إتقانها للعمل و حسن تدبيرها لأمور المنزل!... مع شدة الضيق الذي مرت به مع عائلتها في الفترة الأخيرة ما عادت عائشة تنتظر فرجا و لا يسر حال، و لم تحلم أن يكون الأمر بهذه السهولة و هذا السخاء...
ابتسمت خيرة و ضمت عائشة إليها و تحسرت على فراقها و تركها للعمل في تلميح منها بأنها ما عادت خادمة من اليوم...، قضت الفتاة طيلة اليوم تسأل و تستفسر و تحاول الـتأكد من أن الموضوع ليس دعابة أو ما شابه، لتذهب في المساء إلى منزل السيد روبن من أجل إبلاغ والدها هذا النبأ العظيم، حين وصلت وجدت البوابة مفتوحة و السيد روبن يجلس على الأرض خارجا ينظر إلى منزله بحسرة تكاد تنهمر دموعه معها، استغربت عائشة من هذا المنظر الذي لم تتخيل أن ترى السيد روبن عليه يوما... يجلس أرضا! هذا الرجل المتعجرف الذي يرى نفسه شمس الكون أو قمره يجلس اليوم أرضا بمنظر يثير الشفقة في نفس كل من يراه!، دخلت إلى والدها الذي كان يراقب من نافذة غرفته فسلمت و سألته عن سبب جلوسه هكذا فقال:
– لقد أفلس تماما... قبل قليل كان رجال من القضاء هنا، أمروه بتسديد ديونه بعد يومين أو يسجن مباشرة، و هذه حاله الآن...
– يا له من مسكين... هل تكلمت معه أبي ربما هو بحاجة إلى وقوفك بجانبه في هذا الكرب
ذهب الحارس عمر إلى سيده في استجابة منه لتنبيه ابنته و انصياعا لأمر واجبه و ضميره، و عندما اقترب منه تكلم سيده و يبادره بقوله:
– أترى يا ألبرت نهايتي بعد تخليك عني أيها الخائن، أتعلم أنك السبب في كل ما أصابني عندما تخليت عني وخنت العهد بيننا؟
– سيدي أنت من غيرت عملي و لست من تخلى عنك...
– هه لا تقل سيدي فلم أعد سيدك!... ألا تذكر حين خيرتك بيني و بين الإسلام فاخترت الإسلام!
– روبن صديقي... أنا وجدت الطريق الصحيح ألا يجدر بي أن أتبعه بدلا من سيري في طريق مظلم لا أعلم أين سيأخذني ؟ أوليس الأجدر بك أن تتبعني بدلا من أن أتبعك في الطريق الخطأ!
– لا يهم الأمر و لا يهمني طريقك أنا انتهيت الآن! سأقضي آخر يومين لي هنا أتأمله من الخارج لعلي أحتفظ بصورة شاملة له في ذاكرتي و أنا في السجن
تقدمت عائشة منهما و استأذنت والدها للحديث على انفراد، فأخبرته بمستجداتها بالتفصيل، كان الأمر عظيما في نفس الحارس عمر لكنه صدق الأمر بسهوله عكس ما حصل مع ابنته ؛ فقد تذكر دعاءه الكثير بالفرج و ثقته بالله فأخذ لسانه يردد الحمد و التسبيح لله و الثناء على حكمه و تدبيره، بعد حوار طويل مع ابنته هرول إلى سيده فطلب منه بيعه منزله و العمل معه، ضحك حينها روبن كثيرا و بطريقة هستيرية! ثم تأمل وجه عمر و سأله
– إذا هل ستجعلني حارس البوابة ثم تهينني كما كنت أفعل بك؟، يالك من غريبة يا دنيا هذا ما لم أتخيله يوما!، لكن هذا من حقك صديقي أقصد سيدي... فأنا مضطر لقبول عرضك أفضل لي من السجن!
– الأمر ليس كذلك... أنت صديقي و إذا قبلت العرض سأجعلك نائب عني إن وافق السيد زبير.
سكت روبن حينها و نظر إلى صاحبه مطولا بعجب و تأثر، كانت عيناه قد اغرورقتا دمعا و فيهما من العاطفة و الحنين و الندم و الشعور بالخزي من نفسه الشيء الكثير!، لف وجهه فنظر إلى غرفة عمر ثم رد بصره إليه فقال له:
– لماذا!؟ أبعد كل ذاك الذي فعلته بك تفعل هذا!
ابتسم عمر و شعر أنه قد وضع يده على قلب صديقه فأمسك بانفعالاته و توتره ثم قال
– لأنك صديقي و قد أحسنت إلي يوما...
– لكني أنكرت صداقتك و أسأت إليك أياما...
– إذا فلأن الله قال (و لا تنسوا الفضل بينكم)
– لكني لست على دينك...
– اسمع يا صاحبي لقد كنا أنا و أنت نسير في نفس الطريق و أنا أعرف كل شيء عن طريقك لكنك لا تعرف شيئا عن طريقي مع ذلك حكمت عليه دون أن تعرفه! ألم يخطر ببالك أن صديقك ما كان لغير طريقه لولا أنه وجد شيئا ما في اتجاهه الجديد أو عرف شيئا ما عن مساره الذي كان فيه، هل تعلم أني لم أعرف التوازن في حياتي إلا بعد إسلامي، عرفت كيف أوازن بين مملكتين فأملكهما معا لأكون أغنى الناس رغم فقري!، إنها مملكة الأرض و مملكة السماء يا صديقي، أنا الآن أساعد صديقي في مملكة الأرض لأملك شيئا من مملكة السماء...
كان روبن ينصت بتركيز إلى أن توقف عمر فتفطن إلى استسلامه لكلامه الجميل و خشي على نفسه من التأثر بالموقف، فاستند واقفا و شكره على مساعدته له و ذهب، ليعود في الغد يحمل وثائق البيع والشراء، كان الحارس عمر في غرفته و مازال يقوم بعمله فاستغرب روبن عندما وجده عند الباب ينزل إليه فيفتحه، علا ملامحَه الخجلُ و ازداد ليظهر واضحا جليا عندما سأله لماذا لم يغادر و قد صار غنيا و سيصبح مالك المنزل بأكمله بعد دقائق معدودة فأجابه
– أما الغنى فليس سببا يمنعني من إكمال عملي كبواب حتى آخر لحظة، و أما المنزل فهو ليس لي بعد و أنت مازلت سيدي الذي أعمل عنده.
– إذا الغنى لا يمنعك من عمل كهذا!، من أين لك بكل هذا التواضع يا ألبرت! أذكر أنك كنت متعجرفا مثلي!
– حينها كنت ألبرت لكن اليوم أنا عمر، و أنت لا تعرف شيئا عن عمر، اقرأ عنه لتعرفه... أقصد عمر ابن الخطاب و لا أقصد نفسي...
توقف روبن عن الحوار و التزم الصمت إلى أن انصرف بعد إتمامهما لعملية البيع و الشراء، و لم يعد يحتك بعمر إلا لضرورة العمل ليتجنب كلماته التي تزرع في داخله راحة يظن أنه يجب ألا يشعر بها تجاه الإسلام... بعد مدة شهرين من عملهما معا بشكل جاد يتجنب فيه روبن أي نقاشات جانبية مع عمر جاء في أحد الأيام إلى منزله في زيارة مفاجئة و ألقى التحية...
– السلام عليكم..
التفت عمر بعجب من الصوت الرجالي الذي يلقي تحية الإسلام و قد تعود عدم سماعها، التفت ليرى الواقف عند الباب من!، فلما رآه ثبت نظره فيه لوهلة ثم ابتسم و قال...
– إذا فقد عرفت من عمر يا روبن؟
– ليس عمر... بل عرفت من هو محمد، ومن الآن أنا محمد...