التوت الأحمر في الغابة السوداء ـ قسم 2 من 2
يوم جديد..وصباح جديد يشرق على الغابة السوداء.. وخيوط ذهبية دافئة..راحت تداعب واجهة بيت هير مايه, الذي احتضن ضيوفاً لأول مرّة منذ أكثر من عشرين سنة ..وأمام البيت كان هير كراوس منشغلاً بالاعتناء بالماشية ,من ماعز وأبقار وأغنام..
دخل يونس إلى صالة البيت, ليجد هيرمايه وسارة وسولان قد سبقوه في الجلوس إلى مائدة الإفطار..
– صباح الخير..
ردّ هير مايه:
– صباح النور، أرجو أن تكون قد ارتحت في نومك...تعال لتتناول افطارك.
سحب يونس الكرسيّ..وبعد أن جلس ..سحب نفساً عميقاً..ثم قال:
– وكيف أرتاح ويهدأ لي بال, وأنا لا أعرف مصير ابني سامر.
لاحظ هيرمايه أن عينيّ يونس حمراوان .فتيقّن أنّه لم يغفل له جفن فعلاً.. هزّ هيرمايه رأسه, متأثّراً ..ثم سأله:
– أردت أن أسألك عن سامر ، كم عمره ؟.
أجاب يونس وهو يبتلع الطعام:
– إنّه في الثانية عشرة، ولكن لماذا هذاالسؤال ؟..
ثم شرد ذهن هيرمايه..وراح يسرح مع خيالاته..
– في الثانية عشرة.. أوه.. إنهامشكلة فعلاً, لو كان ما أفكّر به صحيحاً.
لكنّ صوت يونس منعه من مواصلة تأمّلاته..إذ قال:
– لقد أقلقتني جداً ياهير مايه ، ما علاقة أسئلتك هذه عن سامر بموضوع اختفائه؟.
أجاب هيرمايه متلعثماً:
– لا..لاشيء..
ثم استمرّ بتناول طعامه..وطلب من الجميع أن يواصلوا طعامهم ..فأمامهم رحلة شاقّة.. لكنّ يونس.. عرف أنّ هيرمايه يفكّر بشيء..لايريد أن يطّلع عليه الطفلان..وبعد قليل وبعد أن انتهى هيرمايه من تناول طعامه..غمز ليونس أن يتبعه..وسبقه إلى الخارج.. ليقف قريباً من حظيرة الماشية..وعندما وصل يونس ..راح الاثنان يمشيان بموازاة سور الحظيرة..بدأ هيرمايه حديثه قائلاً:
- اسمع يا هيرجوناس، مسألة اختفاء سامر تذكّرني بقصّة عائلة تسكن قريتنا, فقدت ابنها وهو صبيّ بمثل عمر سامر تقريباً، فما كان من أهل القرية, إلا أن يهبّوا للبحث عن الولد الضائع.
سأل يونس بلهفة :
– وهل عثروا عليه؟؟.
أجاب هيرمايه:
– نعم، كان محتجزاً في بيت ( هكسه أماندا ),الساحرة الشرّيرة، وهي تبحث عن الفتيان في مثل هذه السنّ, لتسخّرهم في أعمال سيئة، كالسرقة والنّهب.. وما شابه ذلك.
قال يونس مندهشاً:
– هكسه أماندا!!..كثيراً ماسمعت عنها, من خلال أحاديث سارة وسامر..وظننتها شخصية أسطورية.
سأل هيرمايه:
– يعرفانها إذن؟؟..
هزّ يونس رأسه قائلاً:
– نعم..
فأردف هيرمايه:
– أرجو أن لا يكون سامر عند هكسه أماندا الشرّيرة هذه.
سأل يونس:
– أهي شرّيرة إلى هذا الحدّ؟؟.
أجاب هيرمايه:
– بل أكثر..
سحب يونس نفسه بعمق..وقال:
– سنواصل بحثنا عنه في كلّ الظروف، عسانا نوفّق في العثور عليه، ولكن أرجو أن تدلّني على بيت هكسه أماندا.
توقّف هيرمايه عن مشيه..وقال:
– للأسف يا هير جوناس ، إنها ماكرة, ولن تستقرّ في مكان معلوم.
شعر يونس باليأس..لكنّ هيرمايه..وضع يده على كتفه, وطمأنه قائلاً:
– لاتقلق..سيكون كل ّشيء على مايرام..ولكنّ الأمر يحتاج إلى الصبر,والتحلّي بالشجاعة.
هزّ يونس رأسه مستحسناً ماسمعه من هيرمايه..
بعد أقلّ من ساعة..كان الجميع يقف عند باب البيت استعداداً للرحيل..مدّ يونس يده ليصافح هيرمايه قائلاً:
– شكراً لك (( هير مايه))، على كرمك وطيبتك ونصحك، لقد أتعبناك كثيراً، وكم أتمنى أن نجد سامر لنأتي إليك ونحتفل بلقائه.
ابتسم هيرمايه وقال:
– أتمنّى أن يتحقّق ذلك.
هكسه أماندا ..وخططها الخبيثة
حملت هكسه أماندا صينية الطعام, ووضعتها على المائدة..ثم راحت توزّع مابها على مساحة الطاولة..أما سامر فكان لايأبه بكلّ مافرش أمامه مما لذّ وطاب من طعام وشراب..لأنّه كان قلقاً وخائفاً .نظرت هكسه أماندا..وخاطبته مبتسمة:
– هذا هو الفطار جاهز ياسامر.
أجابها سامر:
– لا أستطيع أن آكل.. سأخرج الآن ,وأشكرلك عطفك ياهكسه أماندا.
ضحكت مستهزئة..وقالت:
– تخرج؟!!..لا هذا مستحيل..
قال سامر بنبرة حادّة:
– بل سأخرج..مادام النهار بأوّله..وعليّ أن أعود لبيتي..
ثم توجّه نحو الباب..فما كان من هكسه أماندا إلا أن تقف أمامه ,لتسدّ عليه الطريق..مكشّرة عن أنياب بشعة..وهي تقول مهدّدة:
– لا... لن تخرج، ويجب أن تطيع أوامري .
لملم سامر كلّ مايملكه من شجاعة وجرأة..واستطاع أن يرفع صوته صارخاً بوجه هكسه أماندا :
– ما هذا الهراء ؟.
ضحكت هكسه أماندا..ثم قالت متوعّدة:
– تقول هراء ياببغاء!! ؟.
قال سامر مندهشاً:
– ببغاء!! يبدو أنّك جننت .
واصلت هكسه أماندا ضحكاتها الخبيثة ..ثم فجأة توقّفت, لتكشف عن وجه بشع..وقالت له :
– اخرس ياولد، فعندما أريدك أن تكون ببغاء, سيكون ذلك سهلاً.. هل تريد أن تتأكّد بنفسك ؟.
تراجع سامر..وراح يتوسّل:
– كلاّ... أرجوك ياهكسه أماندا.أرجوك..لاتفعلي هذا..
مدّت هكسه أماندا ذراعها ,وأشارت بسبّابتها إلى سامر قائلة:
– ليس هناك شيء صعب على هكسه أماندا ياغبيّ..
هزّ سامر رأسه ..ليهدّيء من روعها..بينما استمرّت هي قائلة:
– إذن.. ستبقى هنا في البيت، ستصير خادماً، تنفّذ ما آمرك به.. سمعت ؟.
قال سامر بلهجة حادّة:
– لاتقولي غبيّاً..ولاحتى خادماً..
ضحكت هكسه أماندا قائلة:
– بل غبيّ..ولكني مضطرّة أن أشغلّك خادماً, ريثما أعثر على من هو أذكى منك..
صرخ سامر بوجهها:
– ولكن هذا ظلم ..
ضحكت هكسه أماندا بخلسة..ثم راحت تفكّر..
– لن أترك خروفاً واحداً على قيد الحياة، ولا بقرة ولا ماعزاً، هذه الحيوانات تعطي للناس الحليب واللّبن واللّحم، وأنا أكره الناس.. كلّ الناس، إذن عليّ أن أتخلّص من هذه الحيوانات.
أما سامر فراح يأكل مضطرّاً من الطعام الذي قدّمته له هكسه أماندا.وهو يبحث مع نفسه عن طريقة تنقذه من هذا المأزق الذي أوقع نفسه فيه.
نظرت هكسه أماندا إلى سامر,فوجدته واجماً شارد الذهن..فتساءلت مع نفسها:
– ترى بماذا تفكّر أيها الشقيّ؟ كيف سأقنعه بتنفيذ خطّتي ,لسرقة خراف من (( هير مايه)) ؟.
أمّا سامر فكان يفكّر في شيء على النقيض تماماً من تفكير هكسه أماندا:
– آه يا أبي لو تعرف أين أنا الآن. أمنيتي الوحيدة الآن أن أعود إلى بيتنا سالماً , فأنا مشتاق إليك وإلى وسارة... تصرّفاتي الطائشة.. هي التي أوصلتني إلى ما أنا عليه الآن، أنا في حيرة من أمري، ماذا أفعل ؟..
بدأت هكسه أماندا بالتودّد إلى سامر ,لتصل إلى ما تبتغيه.فاقتربت منه ..وجلست إلى جانبه..انتبه إليها..فحاول أن ينهض مبتعداً عنها ..لكنّها أمسكت به ..وخاطبته بضحكة مصطنعة:
– ما بك ياسامر؟... أراك واجما!!..
أجابها سامر:
– لقد اشتقت إلى أبي وأختي سارة وصديقي سولان،اشتقت إلى كلّ شيء يذكّرني بهم.
ضحكت هكسه أماندا وضعت يدها على كتف سامر. وهزّت سبّابتها قائلة:
– ستراهم ..ولكن فيما بعد.
سألها سامر متلهّفاً:
– متى ؟ وكيف؟ لقد أضعت بيتنا، كان عليّ أن أنتبه, وأنا أقطع المسافات تلو المسافات.
سألته هكسه أماندا مستهزئة:
– كلّ هذا من أجل أن تقطف ثمار التوت البريّ؟..
سحب سامر أنفاسه بعمق..وراح يتمتم :
– كنت أظنّ أنّ أبي سيفرح عندما يراني قد جمعت ثمار التوت.. ظننتها ستكون مفاجأة.
قرّبت هكسه أماندا وجهها من سامر لتسرّ في أذنه.
– اسمع، سأجعلك ترى أباك وأختك بعد أن تنفّذ ما آمرك به.
فرح سامر حالما سمع من هكسه أماندا ماقالته..وسألها:
– أصحيح ما تقولينه ياهكسه أماندا ؟ هل رقّ قلبك؟.
اقتربت منه هكسه أماندا, وراحت تكلّمه بلطف ورقّة.. قائلة:
– وهل تظنّني بهذه القساوة,كي أحرمك من رؤية أبيك وأختك؟؟..
فرح سامر..وشكرها قائلاً:
– أنت طيّبة ياهكسه أماندا..وأعتذر إن رفعت صوتي عليك قبل قليل..
أجابته هكسه أماندا:
– لاتبالي..والآن تعال معي لأرسم لك طريق العودة لبيتكم..
سبقته إلى طاولة صغيرة..وضعت عليها أوراقاً صغيرة..وريشة ودواة.. جلست إليها ..وجلس سامر قريباً منها.سحبت الريشة..وراحت تخطّط بها ببعض الرسوم..وسامر يراقبها متلهّفاً..لكنّها توقّفت, ونظرت إلى سامر وقالت له:
– قبل أن أرسم لك طريق العودة للبيت..سأرسم لك طريق بيت هيرمايه..
سألها سامر مستغرباً:
– ومَن هيرمايه هذا؟؟وماعلاقته بالموضوع؟!.
غيّرت هكسه أماندا من نبرتها.لتكون أكثر إقناعاً قائلة :
– مارأيك في أن نتبادل المساعدات فيما بيننا؟..
لم يفهم سامر ماتعنيه هكسه أماندا فسألها :
– لا أعرف ماتقصدين..
ابتسمت هكسه أماندا موضّحة:
– أنت تحتاج لمساعدتي في أن أدلّك على طريق العودة لبيتكم ..وأنا بحاجة إليك لأن تعيد إليّ خرافي التي سرقها مني هيرمايه.
سألها سامر:
– كيف سرقها؟ ..ومتى؟..ولماذا؟..
أجابته هكسه أماندا:
– هذا شيء حصل منذ زمن ..لاتشغل بالك فيه..وحاول أن تستغلّ الوقت للعودة إلى بيتكم..المهمّ أنّني أريد استعادة خرافي المسروقة..
سألها سامر:
– ومالذي يبرهن لي أنّ هذه الخراف هي فعلاً خرافك ..وقد سرقت منك؟.
أجابته هكسه أماندا:
– أنا التي أؤكّد لك ذلك..ألا تصدّقني؟؟..
تأتأ سامر وهو غير مقتنع بكلامها:
– بصراحة..في الحقيقة..
قاطعته هكسه أماندا :
– على أية حال ..أنت حرّ..المهمّ أنّ هذا هو شرطي ,مقابل أن أطلق سراحك, وأدلّك على طريق العودة لبيتكم..
ثم أعادت الريشة إلى مكانها, ونهضت لتلملم صحون الطعام من على المائدة..نظر إليها سامر..فانتبهت إلى نظراته..ابتسمت مع نفسها ..وكأنها متأكّدة من أنّه سيضطرّ للموافقة في النهاية.
كان سامر على يقين من أنّ هكسه أماندا كاذبة..وأنها تريد منه أن يسرق الخراف..مقابل إطلاق سراحه..فخاطبها قائلاً:
– هل تظنّينني غبياً..أنت تريدين أن تسرقي الخراف..لا أن تستعيديها..أليس كذلك؟..
ضحكت هكسه أماندا باستهزاء قائلة:
– وأنت تريد أن تبقى حبيساً عندي ماتبقّى من عمرك..أليس كذلك؟.
جهش سامر بالبكاء.. بينما دخلت هكسه أماندا إلى المطبخ ..لتعود بعد قليل..بوجه أكثر مكراً. اقتربت منه وسألته:
– ألم تخبرني بأنك تحبّ أباك وأختك وتشتاق لرؤيتهما؟ سأجعلك تراهما بعد أن تنفّذ ماأمرتك به.
صرخ سامر بوجهها:
– ولكنّك أبقيتني في بيتك على أساس أن أخدمك, لا أن أكون سارقاً.
أشارت هكسه أماندا بإصبعها ..وقالت:
– ووعدتني أن تطيع وتنفّذ أوامري، وها أنت تعصيها.
ثم دخلت إلى غرفة صغيرة,وعادت بعد قليل وهي تحمل بيدها عصا سوداء..في مقدّمتها نجمة فضيّة برّاقة.. مدّت هكسه أماندا عصاها السحرية ..وأشارت بها إليه ,مطلقة ضحكة خبيثة بشعة ..لتتوقّف بعدها وتقول بصوت أجشّ بشع :
– لقد حكمت على نفسك بالموت حرقاً بالنار.
أصابت سامر الهستيرية..وهو يرى تلك العصا, التي طالما شاهدها في الصور والقصص, التي قرأها مع أخته سارة..وراح يتراجع إلى الخلف وهو يفتح كفّيه ..يحاول أن يغطّي وجه هكسه أماندا البشع..وهو يصرخ:
– لا... أرجوك. لا..لا..
ثم انفجر باكياً وهو يقول :
– أبي و سارة سيحزنان كثيراً، لا أستطيع أن أتخيّل هذا، أرجوك.. أتوسّل إليك أن تتركيني..
قالت هكسه أماندا وهي تهزّ بعصاها:
– لا تحاول أن تثير فيّ الشفقة، فأنا لا أعرفها أبداً، إذا أردت حياتك, فعليك أن تنفّذ أوامري.
رحلة البحث مستمرة
رغم أنّ الجوّ ليس شديد الحرارة إلى درجة كبيرة...لكنّ الجهد والإرهاق الذي عاناه سولان في المشي..وبالنزول مرّة..وبالصعود مرّة أخرى....جعله يشعر بالعطش الشديد..فتوقّف عن مشيه وراح يلهث..
سألته سارة:
– هل تعبت ؟.
أجابها لاهثاً:
– لا.. بل عطشت .
تناولت سارة قربة الماء من حقيبة صغيرة, أعطاها لهم هيرمايه .بعد أن زوّدهم بشيء من الماء والطعام..وقالت لسولان:
– خذ اشرب، ولكن قليلاً أرجوك.
ارتشف سولان جرعة صغيرة..ثم أعاد القربة لسارة..وقال لها :
– يالك من بخيلة جداً.
انتبه يونس لحوارهما..فتدخّل ليقول:
– معها حقّ ياسولان.. كي يكفينا فترة أطول.
قال سولان مبتسماً:
– أعرف هذا ياعمّ ..ولكنّني أحببت أن أمزح معها.
بعد أن أخذ الجميع قسطاً من الراحة .. أشار يونس إلى إحدى الجهات ..وقال :
– سنسير في هذه الطريق، ونسأل من نصادفه في طريقنا.
وبعد مسافة قصيرة..لمح الجميع شخصين يعملان في حقل..فتوجّهوا إليهما. وعندما صاروا على مقربة منهما,بادرهما يونس بالسلام:
– مرحباً أيها السيّدان.
أجابه المزارعان:
– أهلاً ..
اقترب منهما أكثر ..ليسألهما:
– من فضلكما، أردت أن أعرف منكما.. أين يمكنني أن أجد مكان السيّدة هكسه أماندا؟؟..
ثم أردفت سارة موضّحة:
– الشرّيرة التي تخطف الصبيان..
ثم قال سولان:
– يعني الساحرة الشمطاء ..التي تحرّض الفتيان على السرقة.
تبادل المزارعان نظرات الاستغراب فيما بينهما..وقال أحدهما موجّهاً كلامه لرفيقه المشدوه بما سمعه:
– هل سمعت ما قاله ؟..
ابتلع المزارع الثاني ريقه بصعوبة..ثم رمى المعول من يده ..واقترب من زميله, وهو يشعر بالخوف ممّا سمعه ..وقال له هامساً:
– عن أيّ شيء يتحدّثون؟.
وخزه رفيقه..وهو يوجّه كلامه للعمّ يونس والطفلين اللّذين معه:
– عفواً ياسيدي.. يبدو أنّك مخطيء بالعنوان..ابحث في مكان آخر..
ابتسم يونس موضّحاً:
– بل إنّني أعني ما أقوله، لقد أخبروني أنّها تسكن في هذه المنطقة.
اقترب منه أحد المزارعين,وأشار بيده إلى ناحية ما..وهو يقول:
– اسمع مارأيك أن تذهب إلى أندرياس..عمدة القرية..هو يعرف كلّ صغيرة وكبيرة..سَلهُ ماشئت..أمّا نحن.. فإننا مزارعون, نعمل هنا منذ فترة قصيرة..ولانعرف شيئاً عن سكّان هذه القرية أبداً.
ردّ الثاني:
– ولكن أرجوك أصدقني القول..هل صحيح ماقلته لنا؟.
سأل يونس:
– ماذا تقصد؟.
أجابه المزارع:
– يعني..الساحرة التي تسكن هذه القرية..لقد أرعبتني بهذا الكلام..
قال يونس:
– أنا مثلك تماماً ..سمعت فقط.. لذلك سأضطرّ للذهاب للعمدة ..ومنه سأفهم كلّ شيء.
سار يونس وسولان وسارة,في الجهة التي أشار إليها المزارع .. يبحثون عن بيت أندرياس العمدة.. وبعد قليل وصلوا فعلاً لمبتغاهم.إذ كان بيت العمدة واضحاً للعيان.,وكان أندرياس منشغلاً بتنظيف جرّار بالقرب من بيته...وبعد أن ألقوا التحيّة.وشرح يونس غايته...قال العمدة:
– نعم.. أنا عمدة القرية أندرياس ، أما هكسه أماندا الشريرة التي تتحدّث عنها ياهير جوناس ,فمن الصعب عليك الوصول إليها.
قال يونس:
– ولكنّه ولدي ياحضرة العمدة، وما سأناله وألاقيه في سبيل الوصول إليه ,لن يكون أصعب من فراقه. لو فقدته إلى الأبد لا سمح الله .
هزّ أندرياس العمدة رأسه متأثّراً بما سمعه..ثم قال:
– معك حقّ، ولكن أنصحك بعدم اصطحاب الأطفال معك.
سأله الأب:
– أين أتركهم إذن؟.
أجاب أندرياس:
– في مكان أمين، ريثما ننتهي من هذا الأمر، لأنني قرّرت أن أرافقك. لأخلّص القرية برمّتها من هذه الشريرة.
فكّر يونس بكلام العمدة..ولم يجد غير بيت هيرمايه ملاذاً..فاستحسن الفكرة..وشكر العمدة أندرياس..وودّعه ..ووعده أن يعود إليه, بعد أن يترك سارة وسولان في بيت هيرمايه,لينطلقا للبحث عن هكسه أماندا..
قال أندرياس:
– ولكن أرجو أن لاتتأخّر..كي ننقذ ابنك وبقية الأولاد من بطشها وشرّها..بعد أن تمادت في أفعالها هذه الشمطاء.وأساءت إلى سمعة القرية.
في الوقت الذي قرّر فيه يونس أن يعود بسارة وسولان إلى بيت هيرمايه..لينفرد مع العمدة في إلقاء القبض على هكسه أماندا..كان سامر يقف قبالة بيت هيرمايه..من أجل تنفيذ ماوعد به هكسه أماندا ..ولكن هل يعني هذا أنّه قرّر أن يسطو على خراف هير مايه؟؟..وقف سامر يتأمّل منظر البيت من الخارج..وراح يتمتم مع نفسه:
– هذا هو البيت!!، ولكن أين الحظيرة؟ وأين الخراف؟ سأتقدّم وأنفّذ خطّتي.
تقدّم سامر بخطوات حذرة ..مرتبكة إلى باب البيت..وعندما وصل..طرق الباب طرقات منتظمة.. فتح (( هير مايه)) الباب, وإذا به أمام صبيّ شاحب الوجه..يبدو عليه التوتّر ..وتلعثم في كلماته عندما ألقى سلامه:
– مرحباً ياعمّي (( هير مايه)) .
استغرب هيرمايه بعد سماع اسمه على لسان هذا الصبيّ الواقف أمامه,,فأجابه:
– أهلاً وسهلاً, من أنت؟ وكيف تعرف اسمي ؟.
ابتسم سامر ببراءة ,وهو يشير بيده إلى نفسه قائلاً:
– أنا سامر ، ولن تعرفني، ولكنّني أعرفك.
ضحك هيرمايه بعفوية ..ثم فتح ردفة الباب أكثر ,وهو يشير بيده لسامر بالدخول قائلاً:
– سامر ؟! ومن قال لك إنني لا أعرفك، تفضّل ياسامر ادخل..وسنتكلّم بعد أن ترتاح قليلاً.
دخل سامر إلى بيت هيرمايه..وقصّ عليه حكايته مع هكسه أماندا الشرّيرة...وأخبره كيف أنّه قرّر أن يتحايل عليها ويقنعها بأنه سينفّذ أمرها ويسرق لها الخراف..ولكنّه في حقيقة الأمر ..كان قد قرّر غير ذلك تماماً.
قال هيرمايه:
– إذن هكسه أماندا الشرّيرة هذه.. هي وراء سرقة خرافي!!.كنت أشكّ في ذلك.
ثم التفت ناحية سامر..فربت على كتفه قائلاً:
– أما أنت ياسامر ، فحسناً فعلت حينما أخبرتني بالحقيقة، أنت ولد مهذّب حقاً، ومن حقّ أبيك وأختك وصديقك أن يقلقوا عليك كلّ القلق.
قال سامر ..وهو يرتعش من الخوف:
– ولكنني أخشى أن تكتشف أمري..وأخسر حياتي..كما أخسر أبي وأختي..
ربت هيرمايه على كتف سامر..ليشدّ من أزره ..ويطمئنه قائلاً:
– لا عليك، فإنك ستأخذ خروفاً من خرافي, وتذهب إليها متظاهراً بأنك سرقته، أما أنا فسأتولىّ بقية المهمّة.
نظر سامر في وجه هيرمايه..وقال له والدموع تترقرق في عينيه:
– إنك أطيب مما توقّعت ياعمي (( هير مايه))، ولا أعرف كيف يمكنني أن أشكرك.
داعب هيرمايه شعر رأس سامر بيده..وضحك ..ثم قال :
– بل أنت الذي تستحقّ كلّ الخير، لأنك رفضت أن تسرق. رغم تهديدات هكسه أماندا الشرّيرة.وبعد أن ترتاح قليلاً سنبدأ بتنفيذ الخطة.
لو كان يونس وسارة وسولان يعرفون أنّ سامر في بيت هيرمايه في هذه اللّحظة..ماكانوا قرّروا أن يستريحوا لحظة واحدة..فهاهم الآن يفترشون الأرض لأخذ قسط من الراحة, قبل أن يتوجّهوا لبيت هيرمايه..
قالت سارة ..موجّهة حديثها لسولان بحزن:
– مضى يومان ولم نعثر على سامر.
سحب سولان نفسه بعمق..ثم راح يستذكر الأيام الحلوة التي جمعته مع سامر ..سواء في المدرسة أو غير المدرسة..ثم قال ساهماً:
– أتعرفين ياسارة ؟ ، لقد اشتقت إلى أحاديثه الجميلة الشيّقة.
وقالت سارة بنبرة حزينة::
– كنّا على موعد بأن نذهب إلى بيت خالتنا في قرية (كاوف بويرن) في مقاطعة بايرن. في نفس اليوم الذي اختفى فيه.
التفت سولان إليها ..وقال مستنكراً ماسمعه:
– اختفى ؟ ما هذا الذي تقولينه؟.
نهض يونس من مكانه منهياً فترة الراحة التي منحهم إياها..وليقول لسولان وسارة:
– اسمعي ياسارة ، وأنت ياسولان ، أرجو أن تكونا هادئين في بيت (( هير مايه))، وتساعداه في بعض أعمال البيت، يوم واحد فقط وسأعود ومعي سامر.
قال سولان وهو يسير خلف العمّ يونس:
– لاأدري مالذي ينويه العمدة أندرياس..ومالذي يخطّط إليه ,بحيث إنه استبعدنا من مرافقته..
أجاب يونس:
– كي يجّنبكم التعرّض للمخاطر طبعاً.
ثم واصلوا سيرهم باتّجاه بيت هيرمايه.ومن بعيد لمح يونس بيت هيرمايه..فتوقّف قليلاً ..وقال لسولان وسارة وهو يشير للبيت:
– وصلنا إلى بيت (( هير مايه))، ستبيتون عنده اللّيلة، أما أنا فسأستريح لبضع دقائق ,لأعود إلى عمدة القرية.
ثم واصلوا سيرههم باتجاه البيت.وعندما صاروا قبالته..تمتم يونس مع نفسه:
– أرجو أن يكون موجوداً.
ثم قالت سارة:
– أما أنا فلا أرجو ذلك، لأننّي أودّ أن أرافقك ياأبي.
هزّ يونس رأسه..ولسان حاله يقول:" هل هذا هو اتفاقنا؟"..
بعد قليل فتح الباب..وكان( هيرمايه) يقف مرحّباً:
- أهلا بكم، كنت على يقين بأنكم ستعودون إليّ تفضلوا.
قال يونس ..وهو يشعر بحرج شديد:
– لقد عدنا لنتعبك من جديد.
أشار( هيرمايه) لهم بالدخول..وهو يقول:
– ما هذا الذي تقوله ياسيد جوناس؟، بل أنا الذي كنت أنتظر عودتكم، فعندي لكم مفاجأة سارّة.
لكلّ بداية.. نهاية
كانت هكسه أماندا أذكى من أن تنطلي عليها حيلة سامر..أو تخطيطات هيرمايه..وهاهي ذي تداعب أصابع كفّها..منشغلة بالتفكير..
– قلبي يعلمني بأنّه يدبّر لي مكيدة تودي بي إلى الهلاك..
ثم شدّت قبضة يدها..وراحت تتوعّد بنبرة حاقدة:
– اليوم وبعد عودته سأقضي عليه. نعم، لابدّ من القضاء عليه والتخلّص منه، قبل أن يكشف أمري ويفضح سرّي.
أمّا في الخارج..وأمام الكوخ بالضبط..فكان سامر يقف متأمّلاً الكوخ..ظنّاً منه أنّها ستكون النظرة الأخيرة..ولايدري ماالذي تدبّره له هكسه أماندا في الداخل..كان يمسك بحبل يجرّ به خروفاً أبيض كبيراً..تقدّم من باب الكوخ..وطرق بابه..
فتحت هكسه أماندا الباب..لتجد أمامها سامر .الذي بادر بالكلام قائلاً:
– تفضّلي ياهكسه أماندا ، إنه أكبر الخراف الموجودة.
مدّت هكسه أماندا كلتا يديها ,لتمسك بملابس سامر بعنف,وتسحبه بقوّة إلى الداخل,وهي تضحك ضحكة جنونية..وتقهقه قهقهات هستيرية,جعلت سامر يرتعد من الخوف..وكالذي يهذي سألها:
– ما..مم..ماذا تفعلين؟؟::
أجابته هكسه أماندا, مكشّرة عن أنياب بشعة..وقد تحوّل وجهها إلى وجه بشع..مليء بالتجاعيد المخيفة..وشعرها الأبيض تدلّى من تحت إشاربها الأسود المخيف..أما عيناها فقد كانت تقدح شرراً..وقالت له بصوت قبيح:
– اسمع ياولد ياغبيّ أنت، لقد عرفت كلّ شيء أيّها المحتال، إنّك تدبّر لي مكيدة لتوقع بي.. أليس كذلك ؟.
تلعثم سامر..إذ كيف عرفت هكسه أماندا كلّ ذلك..وبدأ يتأتىء:
– أ..أأر..رجوك.. ياهكسه أماندا ، لقد نفّذت ما طلبته مني وأتيتك بالخروف.
سحبت هكسه أماندا سامر من ياقة قميصه..وقادته نحو مشعل النار.. وراحت تقرّب رأسه من فتحة المشعل ..ثم ّصرخت بأعلى صوتها:
– لقد عرفت حقيقة الأمر، لأنّي أذكى منك.
ثم أطلقت ضحكتها القبيحة المعهودة..أمّا سامر فكان مرعوباً..مرتعشاً..لايدري مايفعله..إنه سيهلك لامحالة..ولافائدة من تخطيطات( هيرمايه)..حيث باءت كلّها بالفشل, أمام مكر هذه الشرّيرة..ومثلما توقّع تماماً..فإنّه سيخسر حياته..ولم يعد يرى, لا أخته..ولاأباه..وصار يهذي:
– صدّقيني، أنا لا أستطيع عمل شيء.
ضحكت هكسه أماندا ..ثم صرخت بوجهه:
– اخرس..
ثم واصل توسّلاته:
– كلّ ماأتمناه الآن هو رؤية أبي و سارة.
لم تأبه هكسه أماندا لكلّ توسّلاته..وصار صوتها يزداد قبحاً..وشكلها أكثر بشاعة. وأشارت بإصبعها إليه قائلة:
– ستموت قبل أن تلقاهما.ستموت..
صرخ سامر:
– لا أرجوك، أريد رؤية أبي.. ولو للحظات قليلة، أريد أن أعتذر إليه.
فتحت فمها..وظهرت أنيابها..وصار لونها يسودّ شيئاً فشيئاً...ثم أطلقت صرخة مدوّية:
– استعدّ للموت، ستموت الآن...ستموت..ستموت..ستموت..
غطّى سامر عينيه ..صارخاً بأعلى صوته:
– لا.... لا.... لا.
امتدّت يدان تحاول سحب يديه من عينيه..ظنّها سامر أول الأمر, أنّهما يدا هكسه أماندا..
فأحكم إغلاق عينيه, بواسطة يديه التي شدّهما بقوة..وهو يقول:
– لا... لا.. أرجوك..
– سامر..سامر..مابالك ؟.
كانت سارة تجلس على سريره وهي تحاول إيقاظه:
– ما بالك ياسامر!!؟ ، استيقظ إنّه كابوس..
بينما ظلّ سامر يصرخ:
– أريد رؤية أبي، أريد رؤية سارة.. لن أموت.
وأخيراً استطاعت سارة بمساعدة أبيها, من جعل سامر يفيق من الكابوس ,الذي كان يخيّم عليه..أفاق من نومه.. وهو يشعر أنّه يتنفّس بصعوبة..وأنّ قلبه يخفق بسرعة..وكان العرق يتصبّب غزيراً من جبينه .طلب الأب من سارة أن تحضر قدحاً من الماء لأخيها..الذي ترتعد فرائصه.وبسرعة عادت وهي تحمل الماء..شرب سامر..وعندها أدرك أنّه كان يعيش كابوساً مزعجاً..اتّكأ على حافّة السرير. وراح الأب ينشّف العرق المتصبّب من سامر..وليسأله:
– ما الذي يحدث ياسامر ؟ هل كنت تحلم؟.
قالت سارة وهي تضع كفّها على قلبها:
– لقد أفزعتني.
ارتمى سامر في حضن أبيه.. ونظر في عينيه..ثم إلى سارة..وراح يبكي..قائلاً:
– أبي.. سارة.. هل أنتما بخير ؟ الحمد لله إذن، آه لو تعرفان كم أحبّكما.
ربت الأب على ظهر ابنه..ثم راح يداعب شعره الناعم , وهو يقول:
– وأنا أيضا أحبّك ياسامر..كما أحبّ أختك سارة..فأنتما كلّ ماأملك في هذه الدنيا الرحبة.
قال سامر ..وعيناه ماتزالان مغرورقتين بدموع ناعمة:
– لقد حلمت حلماً مزعجاً جداً، لكنّه علّمني درساً لن أنساه .
ابتسم الأب ..وكأنّه يعرف مايفكّر به ابنه..وسأله:
– وما هو ياسامر ؟.
وبعد أن روى سامر لأبيه وأخته ما حلم به...ضمّ الأب ابنه إلى صدره..وهو يقول:
– ياحبيبي ياولدي..
ثم قال سامر بنبرة جادّة,لم يتعوّدها من قبل:
– آسف ياأبي لكلّ ما بدر مني.. كنت مقصّراً بحقّك وبحقّ سارة.
ابتسمت سارة..وعرفت أن أخاها عرف مشكلته بنفسه..وهي خطوة جيّدة في طريق إصلاح نفسه..ثم همّت بمغادرة الغرفة,وهي تقول:
– إذن، أنا ذاهبة إلى المطبخ لتحضير الفطار.
استوقفها سامر قائلاً:
– انتظري ياسارة ، من الآن سأساعدك في أعمال البيت, وبما أقدر عليه ,ولنبدأ من وجبة الإفطار هذه .
قالت سارة بفرح:
– ياه!!.. ماذا يحدث اليوم ؟.
نهض الأب من على السرير, ليحتضن سارة بذراعه,وبالأخرى سامر..وضمّهما إليه..قائلاً:
– بارك الله فيكما ياولديّ.
وقال سامر..الذي شعر بالراحة تدبّ في كلّ أجزاء جسمه:
– أرجو أن أكون عند حسن ظنّك بي دائماً ياأبي .
قالت له سارة:
– أنت أحسن أخ ياسامر.
أجابها سامر:
– وأنت أحسن أخت ياسارة.
ضحك الأب سعيداً بهذا الحبّ الذي جمع الأخوين ..ووزّع نظراته عليهما..ووجد الفرصة مناسبة ليزفّ لهما البشرى..إذ قال:
– ولأنّكما هكذا، فاستعدّا للذهاب إلى بيت خالتكما إلى (كاوف بويرن) بعد الإفطار مباشرة .
تقافز الشقيقان..سعيدين بهذه المفاجأة الكبيرة..التي لطالما انتظراها بفارغ الصبر.وكانت بالنسبة إليهما كالحلم..وهاهو اليوم يتحقّق.
((تمـّت))