الأحد ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم إبراهيم مشارة

أسئلة الثورة لسلمان بن فهد العودة

أثار هذا الكتاب «أسئلة الثورة» للمفكر والداعية الإسلامي سليمان بن فهد العودة السعودي الجنسية جدلا كبيرا، فقد رضي عنه من رضي وسخطت عليه جهات عديدة دينية وسياسية، وكان السبب فيما تعرض له الكاتب من محنة هي أشبه بمحنة الإمام أحمد بن حنبل على اختلاف في المقام وفي الزمان وفي التهمة، والسبب هو أنه لا يسلك في كتابه مسلكا تبجيليا لنظام الحكم القائم في البلاد العربية وتبريريا للأخطاء المتراكمة، بل ينهج منهجا نقديا مسترشدا بمقاصد الشرع وأدبيات ومآلات السياسة الشرعية.

صدر الكتاب في وقت اندلاع ما يعرف بثورات الربيع العربي بدءا بثورة الياسمين في تونس ومرورا بثورة ليبيا ومصر وسوريا واليمن، ويمكن القول أن الكاتب قد فكر في الموضوع قبل ثورات الربيع العربي وإنه اختمار لفكره السياسي الناشد لمبدأ الشورى والتداول على الحكم والمتلمس لقيم دعا إليها الدين كالعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص وحفظ الكرامة الإنسانية والدفاع عن الحريات وصونها.

الكتاب يقع في 242صفحة صدر في طبعته الأولى عام 2012 وفي طبعته الأخيرة عام 2021عن دار قطر الندى بالمغرب وتضمن مقدمة لنجل الكاتب عبد الله بن سلمان العودة وقد أبان نجله عن ظروف تأليف الكتاب وراهنيته والآمال المعقودة عليه (لم يكن يخطر ببالي قبل نحو عشر سنين وأنا أقرأ مسودة كتاب «أسئلة الثورة» أنه سيطبع في مثل هذا اليوم، ووالدي الدكتور سليمان بن فهد العودة خلف قضبان البغي،وأن الادعاء العام في السعودية يطالب «بقتله تعزيرا» في أبشع صورة الإعدام السياسي في العصر الحديث ضد علماء العصر الحديث ومفكريه في أرض الحرمين الشريفين).

ويتابع في بيان أهمية الكتاب (كتاب صغير الحجم، لكنه ثري بمراجعاته وقراءاته الشرعية المعمقة لمصطلحات وقضايا فرضتها حقبة الثورات العربية (الربيع العربي) التي انطلقت من تونس ولم تتوقف حتى تلقفتها أيادي الثورات المضادة الآثمة)!

جاء العنوان باعتباره عتبة أولى دالا على مضمون الكتاب فهو عن الثورة والثورة المضادة وعن قضايا السياسة الشرعية ،وقسمه المؤلف إلى خمسة فصول ،لكنه مهد لهذه الفصول بمقدمة نفى فيها أن يكون الكتاب حديثا عن وضع معين في بلد معين فهو حصيلة تأمل نقدي في الواقع العربي وقراءة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف والعلماء فيما يتعلق بالسياسة الشرعية ومسألة الإمامة مبتعدا عن الانتقائية، متحليا بالهدوء النفسي والفكري وبقدر من الحياد والتعالي على مصالح الفرد أو العائلة أو القبيلة مع عدم الوقوع في تعميم خاص على مجتمعات متفاوتة في ثقافتها وتكوينها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، ولا شك أن الثورة ينجم عنها التيه والخوف والتردد والحيرة، وهنا تبرز الحاجة إلى المثقف النقدي والفقيه المتبصر وقد قال كيسنجر عن ربيع الثورات العربية إن الثائرين عرفوا كيف يجتمعون في الساحات ويسقطون الحكام ولكنهم لم يعرفوا ماذا يعملون بعد الثورة؟ فالحاجة ملحة إلى فقيه يتعامل مع النصوص أكثر من الواقع وإلى مثقف نقدي يتعامل مع الواقع أكثر من النصوص حتى يعصم المجتمع في صيرورته التاريخية من الخروج عن روح الشرع ومقاصده، كما يصان من الوقوع فريسة لعدم التجاوب مع مستجدات العصر ومطامح الشعوب المشروعة في عالم جديد .

وفي سياق التمهيد لإشكالية النصوص المتضاربة في قضية الخلافة يرى الكاتب أن بعض الفقهاء وحاشية الحاكم يحتكمون إلى نص يشترط (القرشية) مهملين النصوص والأقوال الأخرى التي لاشترط ذلك كقول عمر (لو كان سالم حيا لوليته)، وذلك لأنهم ممن يبرر نظاما معينا فيحتج بنص ويهمل نصوصا أخرى في إشارة إلى كيانات دينية وفكرية داهنت الحكام وتقربت إليهم وزكت حكمهم وبعضهم من وصمهم علي الوردي بوعاظ السلاطين.

والكتاب جاء في خمسة فصول كما أشرنا آنفا تحيل كلها على الواقع العربي في راهنيته وجدل السياسي والديني والثقافي في تشابكه مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي وعلاقته بالآخر المختلف.

فورد عنوان الفصل الأول هكذا "تساؤلات ما قبل الثورة" والثاني "الثورة وسؤال المشروعية" والثالث ورد هكذا "ما بعد الثورة تساؤلات في مفاهيم ملتبسة" وأما الفصل الرابع فجعل الكاتب له عنوانا دالا "ما بعد الثورة وسؤال العلاقة مع الآخر" وجاء عنوان الفصل الأخير أي الخامس "قلق ما بعد الثورة تساؤلات وإشكالات".

فالثورة في الأصل حسب رأيه لا يوجد ما يدعو إلى تشجيعها لأنها محفوفة بالمخاطر ولكنها قد تأتي كالقدر المحتوم حين يتعذر الإصلاح الجاد ويستبد الطغاة ويصمون آذانهم عن مشاكل شعوبهم وتطلعاتهم المستقبلية، وهكذا فثورات الربيع العربي جاءت كقدر محتوم بعد عقود من الاستبداد والاستئثار بالمال العام وتغييب الجماهير عن المشاركة السياسية الفاعلة ولا يحبذ الكاتب إطلاقا «نظرية المؤامرة»، ففي رأيه ذلك هروب من تحليل الواقع وقراءة الراهن في علاقاته المتشابكة مع السياسي والديني والثقافي والاقتصادي، وإن كان ذلك لا يمنع من القول أن الغرب أراد أن يتموقع مع الأنظمة الجديدة حفاظا على مصالحه، والدليل على ذلك حسب رأيه أن إسرائيل عادت جميع الثورات العربية فمصلحتها مع الأنظمة القائمة لا الثورية.

حقا إن الثورة تأتي نتيجة لتراكمات حين يتعذر الإصلاح وينكر المستبدون حق الشعوب في المشاركة السياسية الفاعلة وفي الاستفادة من خيرات أوطانهم وفي مبدأ تكافؤ الفرص وفي حفظ الحريات العامة والتداول السلمي على الحكم، وكمحصلة للصراع بين نخب النظام ذاته، ولا يشرع العنف إلا في حدود الدفاع عن النفس.

لقد كان للثورة مفهوم سلبي في المخيال العربي الإسلامي فمعناها يحيل على العنف والفوضى والشغب والفتنة ويحفل التاريخ الإسلامي بثورات كثيرة كثورة موقعة الحرة وثورات الخوارج وثورة الفقهاء وثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم وثورات الزنج والقرامطة وغيرها، ولاشك أن كثيرا من هذه الثورات لم تستجمع قوتها ولا حلت الفرصة المناسبة من التفاف الجماهير وصراع النخب الحاكمة فتكون ثورتها نوعا من الانتحار والقتل لذاتها قبل غيرها، لكن الثورة إذا حان وقتها وتقطعت الأسباب أسباب الإصلاح كانت كالقضاء الذي لا يرد بسبب طغيان الطغاة واستبداد المستبدين، وهذا ما حدث في ثورات الربيع العربي، وللثورة أسبابها كما سردها الكاتب فمنها اطراد الفوارق وغياب المشروع المشترك الذي تجتمع عليه السلطة والشعب، والتخلف والاستبداد والفقر، ومبدأ تجميع السلطات العليا بيد واحدة، ثم الآمال والتطلعات التي تراود الشعوب نتيجة وعي متجدد ومقارنة مع غيرها ،ودور وسائل التواصل، ومحاولة طمس الهوية كما في تجربة بورقيبة وبن علي في تونس، وحضور النموذج الذي يمكن محاكاته ،وتجاوز حالة الخوف واستعداد الناس للتضحية وأخيرا وجود الفرصة كصراع القوى الحاكمة وظهور التمايز بين أجنحتها.

ويخلص الكاتب إلى أن الخطاب التشريعي في الجانب السياسي لم يكن تفصيليا كما في مسائل العبادة، بل كان خطابا مقاصديا يراعي متغيرات الزمان والمكان، وأمور الحكم التفصيلية متروكة لاختيارات الناس واختلاف البيئة والزمان، على أن صيغة الحكم الإسلامي بعد عصر النبي والخلفاء الراشدين قامت على دعائم ثلاث: الحكم الجبري والقدر والشوكة أي فرض الأمر الواقع وفق مبدأ العصبية كما أقره ابن خلدون، وأدى فرض الأمر الواقع إلى تكريس فقه الأحكام السلطانية وتضخيم ذات الحاكم فهو ظل الله في الأرض وطاعته واجبة والخروج عليه موجب للخلود في النار ثم وجود حاشية من العسكر والعلماء والوجهاء المتملقين وما هذه الألقاب التي تلقب بها الحكام إلا مظهر من مظاهر التجبر وإخضاع العامة باللفظ قبل السيف.حتى قال الشاعر ابن هانئ الأندلسي في الحاكم الفاطمي المعز لدين الله:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهـــــار
فكأنما أنت النبي محمــــــــد
وكأنما أنصارك الأنصــــــار

وكان هذا التفخيم والطنطنة اللفظية مبعثا لنفور شاعر آخر هو ابن رشيق القيرواني من زيارة الأندلس:

مما يزهني في أرض أندلــــــس
سماع مقتدر فيها ومعتضـــــــد
ألقاب ممكلة في غير موضعهـــا
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

في الفصلين الأخيرين يتحدث الكاتب عن إلزامية الشورى وضرورة الرضا عند البيعة وأهل الحل والعقد وهم بالضرورة ليسوا وعاظ السلاطين كما وصمهم علي الوردي في مؤلفه المشهور بهذا الاسم، وإمكانية العزل حين ينتفي الشرط فالبيعة مشروطة ولعل غاية الحكم هي تحقيق العدالة وحفظ الحريات والتنمية الشاملة.

إن تعسف الحكام المستبدين الذين ثارت عليهم الشعوب العربية - ولا يميل الكاتب إلى نظرية المؤامرة ولا يحبذها كما سبق بيانه- وتراكم المشاكل السياسية من إقصاء وتهميش وحجر على الحريات والمشاكل الاقتصادية من بطالة وتفاوت طبقي وغياب العدالة الاجتماعية وإحساس الفرد بالإحباط والفراغ والهامشية ونتيجة لتلك التراكمات قامت الثورات (ثورات الربيع العربي) بدءا بثورة الياسمين في تونس بعد حادثة محمد البوعزيزي التي كانت القطرة التي أفاضت الكأس ثم مصر وحادثة خالد سعيد ومرورا بسوريا واليمن، ولم تكن الجماهير تميل إلى العنف ولا تملك أسبابه ،فقد كانت جماهير عزلاء بل العنف كان من الطرف الآخر أي السلطة وإن جاء من بعض الجماهير فهو لحماية النفس.

أما بعد الثورة فإن الخارطة السياسية أفرزت في العالم العربي ثلاث اتجاهات، فهناك الوطنيون والإسلاميون والعلمانيون ولنجاح هذه الثورة لابد من حوار وطني ومصالحة شاملة ولا مانع من الاقتباس من النظم السياسية القائمة في العالم مادامت ناجعة وفعالة - فالديمقراطية خير من الاستبداد- مع الخضوع لمقاصد الشرع، والذين يبدعون الديمقراطية والاعتصام والتظاهر كان أجدر بهم أن يبدعوا نهب الثروات وتوريث الحكم والاستبداد والفساد الإداري، والحذر كل الحذر من عودة الديكتاتوريات في صورة ثورة مضادة حتى لا يحق قول الإمام محمد عبده (ذهب الإنجليز الحمر وبقي الإنجليز السمر) وهو هنا يتحدث عما حدث بعد ثورات التحرير ذلك أن الاستعمار لا يرحل حتى يكون نخبة سياسية وثقافية موالية له كما شرح ذلك سارتر في مقدمته لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض).

إن صيانة الثورة من ثورة مضادة سيجعل من تلك الثورة مقدمة إلى نهضة شاملة بوجود حوار وطني صادق وشفاف بلا إقصاء أو تهميش للأطياف السياسية ودستور يضمن حماية المجتمع من استبداد الإسلاميين أو أي حزب آخر فالتداول على الحكم مبدأ سياسي يكرس التنافس في خدمة الناس، مع ضرورة الفصل بين السلطات (الكتاب، الميزان، الحديد) أي السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، ثم ميثاق شرف للإعلام. مع ضرورة الحفاظ على حقوق الأقليات والطوائف فهم مواطنون لا رعايا ومحاربة الفساد المالي والإداري ومبدأ العدالة وتكافؤ الفرص والحفاظ على هوية الأمة التي تملك قدرا من الإسلام، وأخيرا إن عدالة القضية واتسامها بالسلمية – يشيد الكاتب كثيرا بحركة غاندي ومارتن لوثر كينغ- والتفاف الجماهير حولها كفيل بدعهما داخليا وخارجيا.

وختم المؤلف كتابه المهم بقوله (إن بناء الديمقراطية إذا قائم على التعاقد والوفاق، كما يراعي الهوية العربية والإسلام، ويضمن العدالة وتساوي الفرص بين الأفراد ويتميز بفصل السلطات، وإطلاق الحريات العامة، وتبني خيار الشعب عبر مؤسساته الأهلية والمدنية وقنوات التعبير المستقلة).

كتاب تنوير وتثوير بالمفهوم السلمي للثورة أخذ منه جهدا ووقتا كبيرا في الإعداد والإخراج كما هو ظاهر من قائمة المصادر القديمة والحديثة التي عاد إليها الكاتب، خرج به سليمان العودة على سنة وعاظ السلاطين وأكد حقيقة روح الإسلام في الإقرار بحرية الإنسان و حفظ كرامته وضرورة صون حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية بلا اعتساف ولا سرقة لحقوقه واغتصاب لروحه كما فعلت كثير من الأنظمة السياسية المستبدة في عالمنا العربي في القرن العشرين ومطلع هذا القرن الجديد.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى