السبت ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم إبراهيم مشارة

كتيبة الأربعين والملحمة الفلسطينية

كتيبة الأربعين هو اللقب الذي أطلقه المفكر فهمي هويدي على الكتّاب العرب شعراء وروائيين وصحافيين ومثقفين المساهمين في تحرير مقالات الكتاب الداعم للمقاومة والمندد في ذات الوقت بجرائم إسرائيل في حق المدنيين العزل.

هو كتاب صادر حديثا تزامنا مع طوفان الأقصى كانون الأول/ديسمبر 2023 عن دار الفنار بمصر في 254صفحة مواكبة لهذا الحدث الجلل وأبعاده السياسية والعسكرية والإستراتيجية، فقد كان هذا الطوفان مفاجئا لإسرائيل، وقد ظنت أنها أخمدت نفس كل انتفاضة ولهيب كل ثورة، وأنها ماضية في قضم المزيد من الأراضي، وفي بناء المستوطنات الجديدة على حساب الأراضي الفلسطينية بدعم أمريكي مكشوف، وليس على الفلسطينيين إلا الدخول في متاهة مسار التسوية أو مسار السلام وليس السلام ،وليس كذلك أمام الدول العربية إلا التهافت – تهافت الفراش على النور- على مسار التطبيع من أجل رفاه اقتصادي وهدوء سياسي ودعم أوروأمريكي، أسوة بمن طبع من الدول العربية، فجاء الطوفان في السابع من تشرين ليوقف هذا المسار وليكشف في الوقت ذاته مخططات إسرائيل المضمرة والمعلنة من أجل تصفية نهائية للقضية الفلسطينية - قطب الرحى ومعقد الوجود للعالمين العربي والإسلامي- وقيام إسرائيل الكبرى بالرغم من كل الترضيات الضمنية للنخب السياسية الفاعلة.

الكتاب شارك في تدبيج مقالاته خمسة وثلاثون كاتبا وكاتبة من سبع دول عربية هي مصر ولبنان والأردن وسوريا والجزائر والمغرب والعراق ويخصص عائد الكتاب لأهل غزة دعما ومناصرة.

قدم للكتاب الكاتبان العربيان فهمي هويدي وعماد الدين خليل وقد أشار فهمي هويدي إلى أن جهد المثقفين هنا في نصرة غزة أشبه شيء بكتيبة الأربعين التي تضم كتابا ومثقفين انضموا إلى جانب أهل غزة وإلى المقاومة في إشارة إلى ضرورة تخندق المثقف العربي مع المقاوم، لأن قضيتهما واحدة وهذا هو الوقت الذي تصبح فيه الكلمة الداعمة للحق إلى جانب المواقف البطولية للمقاومة الفلسطينية، وقد كتب (ومع ذلك ينبغي أن نحمد لتلك الكتيبة من حملة الأقلام العرب حماسهم النبيل حين اختاروا أن يخترقوا جدار الصمت والحصار، ولم ينتظروا ذيوعا أو منصات للتواصل الاجتماعي، فقرروا أن يعلنوا على الملأ موقفهم، مؤكدين على أن ما هو عزيز وغال ليس فقط الدم الفلسطيني الذي تتغنى به مقاطع الأغنية ذائعة الصيت، ولكن فلسطين كلها لها مكانتها الراسخة في قلب الأمة وضميرها).

وبدوره أشاد المؤرخ والكاتب عماد الدين خليل بهذا العمل معلنا أن ما تشهده غزة الفلسطينية حالة نادرة لم يكد التاريخ البشري يشهد لها مثيلا من قبل، فهي ملحمة التاريخ كله، ومن ثمة إنه من أولويات المقاومة العربية والإسلامية الشاملة وقف مسار التطبيع، وإنها لمفارقة كما كتب أن يطرد سفراء إسرائيل في أمريكا اللاتينية بينما تظل الدول العربية متشبثة بالإبقاء على علاقاتها مع قتلة إخواننا في غزة، إن ثقافة الاستخذاء لن تؤدي إلا إلى مزيد من الهزائم ومن النزف والتداعي في كيان الأمة العربية، ولن يكون ذلك إلا على حساب الموقف الفلسطيني ومن ثمة على الأمة أن تكف عن ثقافة الغرق في عالم الأشياء والبحث عن ضمانات الأمن والاستقرار، فالدم النازف في غزة يجب أن يوقظها من السّبات فما تفتح الأبواب إلا للأيدي المضرجة، كما يكتب أن المصيدة الكبرى هي في انتظار العقاب الأخير، وهو بذلك يشير إلى عقدة الثمانين التي لازمت دولة الكيان منذ التاريخ القديم وعنها تحدث إيهود باراك ولفيف من السياسيين والمثقفين الإسرائيليين.

إن ما تتعرض له غزة اليوم من إبادة ومذابح وتهجير ينذر بالويل ومفاتيح الخلاص لا تزال بأيدي العرب شرط أن يحسنوا التعامل معها، فمن أوكد الأولويات في دعم غزة ونصرتها ونصرة الحق الفلسطيني المشروع وقف مسار التطبيع وتكريس ثقافة المقاطعة حسب توصيفه، فالكرامة أهم من البضاعة والدم الفلسطيني النازف في غزة أغلى من كل صفقة، ويختم مقالته بالإشادة بمقالات الكتاب (إن بحوث هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه، والذي يدير كاميرته على المشهد من أطرافه كافة، إنما يعكس هذا كله، ويعكس معه الرؤية الحقيقية لا المزيفة لما تشهده الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية على السواء.. قد تنطوي هذه الرؤية على شبكة من البقع المعتمة السوداء، ولكنها تنطوي في الوقت ذاته على المساحات البيضاء التي تعد فيه بيوم سوف يقدر فيه للأمة الإسلامية أن تستيقظ من سباتها العميق).

بينما كتب منير لطفي وحاتم سلامة وأحمد المنزلاوي في التقديم الثالث للكتاب أن الكلمة سلاح والكتابة معركة تخدم المجتمع والوطن والدين، ومعركة تنتصر للحق على الباطل وللخير على الشر وللجمال على القبح ومن منطلق شرف الكلمة وأمانة الكتابة لابد للقلم الحر أن ينتفض إزاء أعدل وأشرف قضية وهي القضية الفلسطينية التي طال أمدها وبحّ صوتها وغار إلى العظم جرحها ولا مجيب!

وهكذا ومن منطلق نصرة القضية والوقوف مع أهل غزة نبتت فكرة الكتاب مادامت المقاومة تكون بالكلمة كما تكون بالسلاح، وقد كان حجم الاستجابة كبيرا وقد كتبت هذه المقالات تباعا منذ اندلاع طوفان الأقصى في 07تشرين الماضي مواكبة لأحداثه وخلفياته وتحليلا لأبعاد الصراع العربي الإسرائيلي ومآلاته وأطماع إسرائيل المستقبلية في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية والتنقيب عن الغاز في بحر غزة ومشروع قناة بن غوريون وسياسة التهجير إلى سيناء بالنسبة لسكان غزة وإلى الأردن بالنسبة لسكان الضفة الغربية وصولا إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية كما تفضح ذلك مخططاتهم الاستعمارية.

فالوعي العربي لازم والوقوف مع القضية العادلة واجب كل عربي وخاصة المثقفين باعتبارهم طليعة الأمة وواجهتها الفكرية وقوتها الناعمة وأصحاب تأثير في الرأي العام - قلّ أو كثر- خاصة ونحن نرى أحرار العالم في الغرب لا يتوانون في نصرة القضية ،فالمسألة كما يقول فتحي الشقاقي (فلسطين نقطة التماس بين تمام الحق وتمام الباطل)، أو بتوصيف فهمي هويدي (قل لي ما موقفك من القضية الفلسطينية، أقل لك ما موقعك من الانتماء الوطني، بل والعربي والإسلامي).

ومن الكتّاب العرب الذين حرّروا مقالات هذا الكتاب الهام والمواكب لطوفان الأقصى: أيمن العتوم، منير لطفي، أحمد المنزلاوي، حاتم سلامة، أحمد الحاج، إبراهيم مشارة، بلال رامز بكري، محمود الحسن، محمود خليل، أميرة إبراهيم، نهى الرميسي، نور الدين قوطيط ،هشام الحمامي ،يحي سلامة ،وليد الصراف وغيرهم.

ومن المقالات التي تضمنها الكتاب نقرأ العناوين التالية "حلّ الدولتين"، "العنصرية الصهيونية"، "غزّة والحراك الشعري"، " نهر التطبيع"، "لبيك يا كتائب العزّ"، "ثورة سجن مقلوب"، "القضية الفلسطينية في البرازيل وأمريكا اللّاتينية "،"حرب غزّة حتمية"،"طوفان الأقصى والاعتماد على الذات"، صمودهم وواجباتنا "، "التغريبة "الفلسطينية"، "ملحمة غزّة: الدلالات والرمزية"، "خذلوك فقالوا" ، "رؤية لصناعة النصر"، "محاولات الاستيطان المبكرة في فلسطين"، "المسكوت عنه في العدوان على غزّة"، "الأقصى مهوى الأفئدة والعقول"...

وكما جاء في إحدى المقالات في خاتمة الكتاب فالتّطبيع لن يكون إلا مع فلسطين والقضية الفلسطينية وذلك بإعادة القضية الفلسطينية إلى بؤرة السياسة العربية وإن هذا التطبيع مع فلسطين (سلطة ومقاومة) كان أولى سياسيا وأمنيا واستراتيجيا وحتميا من التطبيع مع إسرائيل.

كتاب مهم ينضاف إلى المكتبة العربية - والفلسطينية خاصة- في دعم حق الشعب الفلسطيني والدعوة إلى سلام عادل وشامل ،يقف مع غزّة شعبا ومقاومة ويفضح الجرائم الإسرائيلية التي أحرجت العالم المتمدن من فرط بربريتها وهمجيتها في مطلع القرن الجديد، ذك أن إسرائيل ظلت تقدم نفسها على أنها الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط والنموذج الأوحد لهذه الديمقراطية، ولكنها مع طوفان الأقصى كشفت عن حجم التناقضات والانقسامات الداخلية، وعرّت بعض السياسات الرسمية العربية التي لم تتفاعل بالحجم المطلوب فحدث الشرخ بين الموقف الشعبي العربي والموقف الرسمي،كما كشف الطوفان الإجرام والعنصرية والهمجية التي مورست في حق المدنيين العزل من النساء والشيوخ والأطفال وحتى المستشفيات لم تسلم من القصف والتخريب، والأمر كما قال الصحفي وائل الدحدوح (إنهم ينتقمون منا بقتل أطفالنا).

ومن جهة أخرى أكد كتّاب هذه المقالات على واجبات المثقف إزاء أمته وقضاياها وفي الوقوف مع الحق والدفاع عن الإنسان وإدانة العنصرية والإجرام واغتصاب الحقوق المشروعة، وسياسة العنصرية والغطرسة وعقلية الاصطفاء والاستعلاء، وهو موقف يحسب لهؤلاء الكتّاب، في حين سكت بعضهم وما سمعنا لهم صوتا، وقد ظلوا يشدخون رؤوسنا بصراخهم عن الحرية الفكرية والدولة المدنية وحقوق المرأة وقدموا أنفسهم- لنا وللغرب- على أنهم طواطم أو إيقونات مقدسة فإذا بطوفان الأقصى يكشفهم على حقيقتهم فقد فضلوا المكاسب الشخصية والسمعة والجوائز المحلية والدولية والتموقع داخل أجهزة السلطة على حساب معاناة غزة ومأساتها وعلى حساب الحق الفلسطيني المشروع وقد جاء هذا الطوفان ليكشف العورة ويعري كل نفاق وزيف.


مشاركة منتدى

  • مَنْ يُحَرِّرُ مَنْ ؟!

    مثَّلت أحداث السَّابع من أكتوبر في فلسطين المحتلة "زلزالا" تجاوزت حِدَّتُهُ درجاتِ سُلَّمِ تاريخِ الصراعِ العربيًِ الصهيونيُّ وَفَاقَهَا تخطيطا وأهدافا . وبقدر ما أحدث هذا "الزِّلزالُ" العسكريُّ من أضرار تدميرية نوعية استثنائية بالكيان المحتل فإن ارتداداته قد طالت كلَّ الكرة الأرضية وأعادت خلط الأوراق وتعطيلَ المسارات والمصالح من جديد .
    وما بين أَنَاقَةِ اُلْمُنْجَزِ اُلْمُعْجِزِ الفلسطيني الثائر المصنَّف منذ ما يقارب العقدين من الزمن " إرهابيا" لدى الدوائر الرسمية العالمية وأبواقِها وبين همجية رد الفعل الصهيوني المصنف لدى نفس الدوائر وأبواقها "متحضرا" "ديمقراطيا" أُرْتِجَ على نُخَبِ العالم وَارْتَجَّ عقلُها المنظِّرُ بكل غرور وراحة وصَلَف للمشروع الجديد للعالم . فسارعت إلى الاستنجاد كعادتها بمحاولة التنميط السَّمِجِ لهذا الحدث الجلل ومقاربته إعلاميا وسياسيا بنفس آليات التزوير وأدواته التي قاربت بها سابقا أحداثَ الحادي عشر من سبتمبر أو حرب الخليج مثلا ..
    وتجلى ذلك في استدعائها المتخيل الاستخباراتي الداعشي وإعادة تدويره واستنساخه وتوطينه ( بتميز وامتياز وتحمس فرنسي كالعادة ) عبر سردية قطع الرؤوس وسبي النساء وإعدام المدنيين وحرق جثثهم والتنكيل بهم وإعادة رسكلته وعرضه متلفزا وتلقينه للطابور الخامس العربي خاصة ونخبه السياسية الببغاوية و" الفكرية " التي ظُنَّ أنها " نُخَبٌ لا تُْقْهَرُ "وتفتيق ألسنتهم "السداسية" أو "السديسية" التي أصابها الخرس . لكنهم سرعان ما أدركوا أن الكيان الداعشي الوظيفي قد انتهت صلوحيته بمجرد انتهائه من عملية إِنْهَاكِ ما سُمِّيَ بالربيع العربي وتأطيره والنأي به بعيدا عن الانتظارات العربية الحقيقية.
    أمام هذه المباغتة استعصى "العبور المقدس" هذه المرة على القوْلبة وعلا على التنميط وأعجز أنساق التزوير والتحريف كلها والأدهى من كل ذلك سقوط أقنعة الإنسان الغربي ومُثُلِهِ أمامه على شاشات وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتهاء هيمنة وسائل الاعلام التقليدية (الإذاعة والجريدة والتلفزة) أو ما سمي أثناء الحرب العالمية " الشوڥينية الجديدة " بديلا للنازية والفاشية . وإن نخبا محسوبة على التيارات " التقدمية " قد انخرطت منذ البداية ضمن دعم المقاومة رغم هويتها" الرجعية " .
    لكن نخبا أخرى أكثر انضباطا من الناحية الايديولوجية وأكثر انتهازية من الناحية السياسية قد تورطت بكل وقاحة في إدانة المقاومة وتجريمها بالرغم من تصريح وزير خارجية الأمريكان بأنه يزُور "اسرائيل" لا بصفته الديبلوماسية وإنما باعتباره يهوديا.. وأظهرت من الغباء والعناد ما بلغ حد الشبهة.
    هذا المشهد السريالي تقريبا بقدر ما بعثر أوراق اللعبة إقليميا وعالميا فإن تداعياته قد استهدفت الوجدان الشعبي أو ما تطلق عليه النخبة المتعالية المتعامية تيها وغرورا " وعي العامة " أو "المواطن العادي" أو "الفهم البسيط" الذي أود أن تصدر عنه استفهاماتي وأن تتداعى في هذه المحاولة الحائرة لفهم المستجد الفلسطيني لا لتفسيره أو إعادة ترتيبه . فكيف لمثلي السيطرة على الطوفان ؟! وأنا لا أمتلك مثل " الثقفوت " سدود المنهج وقناطر الطرائق.
    وأعترف من البداية أنني أكتب تحت تأثير الصدمة الشبيهة بصدمة الحداثة التي أصابت أجيال بداية الاستعمار الغربي للعرب عودا على بدء .
    أقصد بالوجدان الشعبي تلك التكييفات أو المشاريع الفردية المتنوعة أوالتَّبَنِّيَاتِ أو الحلول الخاصةَ التي تفاعل بها المواطن العربي مع مستجدات الربيع العربي المزعوم وما أفرزه من ضجيج مُهَرْسِلٍ مُورِسَ عليه ليُعْلِيَ من منسوب الرومانسية لديه في التعاطي مع مشروع مسقوف الأهداف مسبقا تضاربت فيه المصالح الإقليمية وضاعت فيه امكانية تقاطع المصالح بين ليلِ وغُرَفِ تآمُرِ أحفادِ (ديدرو) و(ڥولتير) تحت رقابة السفير صاحب السعادة وبين ليل الحلم العربي الساذج بالحرية والتحرر وساعد ذلك كلَّهُ تشرذمُ الصف الوطني في شكل شظايا "تعددية" وبيداغوجيا التسلط على العقول التي تفننت النخبة في ممارستها على العقل المتفاجئ بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
    إذْ لَمَعَ بَارِقُ " نجومِِ " طارئةِِ لِخَطِِّ تحريريِِّ مهيمن استمد مَرْجَعِيَّتَهُ أيضا من كونية (ديدرو)و(ڥولتير) نفسها ومن ألوان الراية الفرنسية ومبادئ فلسفة الأنوار الأزرق والأبيض والأحمر ليستعمر كل المنابر حتى صار الشعب الكريم متفرجا .
    في خضم هذا الصخب الانتقالي الذي أحدثه ما يسمى بالربيع العربي خَفَتَ الخطاب الذي كان أيام الديكتاتوريات يُبَسْمِلُ بفلسطين ويُحَمْدِلُ شيئا فشيئا حتى تلعثم خاصة أثناء اغتيال الشهيد التونسي الحمساوي القسامي محمد الزواري ..
    لكن جملة " التطبيع خيانة عظمى " كان لها دور الحسم في الانتخابات الرئاسية التونسية . وهو ما أثبت عمق الهوة ما بين النخب " الفكرية" والعمق الشعبي أو العامة أو البسطاء أو غيرها من الأوصاف والعبارات النابية الوقحة في حق الشعب المهوس باستنبات الرموز الضامنة لحريته ولو "من الحرمل " من أجل ملء الفراغات .
    فالموقف من القضية الفلسطينية كان محددا لنتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الثاني بعد أن سقطت حملة الدور الأول في اجترار الشعارات المفتعلة والتكتيكات المفضوحة من أجل تأطير الربيع العربي بعيدا جدا عن الانتظارات العفوية للشعب وحصره في صالونات الثقافة البورجوازية .
    وتأكد أن فلسطين قضية متجذرة في وجدان الشعب العربي أما أغلب نخب السياسة والفكر فقد أخضعتها لتكتيكاتها السياسية وحولتها من غاية الصراع إلى وسيلة لإدارة الخلاف "الديمقراطي" في ما بينها. حتى كاد يتأكد أن مسألة التحرر مرهونة بمآل القضية الفلسطينية :
    مَنْ يُحَرِّرُ مَنْ ؟
    ولعل ما يؤكد ما سبق قوله انخراط السياسة الخارجية التونسية في هذا الاختلاف ما بين الصف الديمقراطي لأصدقاء "سوريا الشعب" وبين الصف القومي لأصدقاء "نظام المقاومة" .
    وأود التذكير بأن حركة حماس قد اختارت الصف الأول (وهي الحركة التي أفرز جناحَها السياسي صندوقُ الانتخابات الذي سرعان ما تكالبت الأصوات المتحضرة لرفضه والتشهير به في انقلاب على الديمقراطية و تسلط على إرادة الغزاويين )
    ثم إن الحضن الإخواني الممتد في تونس والمغرب ومصر وليبيا آنذاك قد حفزها للعودة إلى أصولها الأولى لذلك لا أستأذن أية "عبقرية" كانت لاستنتاج أن الإطاحة بالرئيس مرسي استثناء صهيوني إذا ما سلمنا بأن الربيع العربي هو ربيع إخواني بتدبير أمريكي وتحفظ فرنسي .
    والأهم من كل ذلك أن حركة حماس كانت الخاسر الأكبر من الربيع العربي . ولعل ذلك ما ساعد على خلق حالة من الطمأنينة والاسترخاء لدى العدو الصهيوني بعد استلام الجيش مقاليد الحكم في "أم الدنيا" سرعان ما استثمرتها الحركة لتصليب العود وتحويل الاسترخاء إلى غفلة عبر العديد من التلميحات التكتيكية وآخرها عدم الرد على استهداف المحتل لشقيقها فصيل " الجهاد الاسلامي ".
    لقد نجحت حركة حماس في تحويل ربيع العرب المزيف إلى خريف صهيوني حقيقي في سياق تصاعُدِ وتيرة التطبيع العربي مع الصهاينة في دول الخليج خاصة وفي الدول العربية عامة .
    ومثلما دُعينا إلى ضرورة فرز الثقافي عن الاستعماري في تعاطينا مع الغرب المنافق أثناء بناء الدولة الوطنية دُعينا أيضا إلى ضرورة فرز مصالحنا المادية عن علاقاتنا الديبلوماسية مع " أشقائنا " المطبعين في التعاطي مع القضية الفلسطينية . بل إن من النخب من دعوا إلى تأجيل التطبيع التونسي مثلا إلى حين تطبيع النخب الفلسطينية الشبيهة بهم . وأقصد بهم نخب " أوسلو " .
    والسؤال الذي يحضرني في هذا الصدد : من أنتج نخب أوسلو الفلسطينية ؟ أليسوا نخب العرب ؟ ألم يُغْرِ الاستقلال العربي المنقوص نخب أوسلو لتبنيه حرفيا واعتباره انتصارا وتحررا ؟ (رحم الله صاحب قصيدة المهرولون الشاعر السوري نزار قباني وصاحب جائزة نوبل للآداب الأديب المصري نجيب محفوظ ) وحتى الاستقلال الجزائري الاستثنائي فإن فشله في تحقيق تطلعات الجزائريين الاقتصادية والاجتماعية قد عزز خيار "السلام" على حساب خيار المقاومة .
    لقد أصبحت مقولة "السلام" ومشتقاتها من قبيل التسامح والسماحة والكونية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات .. جهازا مفهوميا لأغلب الأعمال الفنية والتربوية والأكاديمية .. وتحول إلى "أطروحة حضارية" مؤكَّدة مستعجلة يدافع عنها ركح المسرح ومنبر الإعلام ومركز الثقافة والشخصية القصصية وشاشة السينما يوم السبت مساء ومنبر الإمام يوم الجمعة ظهرا ... حتى جاء "موسم الرياض" لتتمظهر هذه المقولات في أبهى حلة فتم تعديل الفتاوي وخطابات القامات الأكاديمية وجهابذة الإعلام في السعودية على "أرداف" المغنية الراقصة(شاكيرا) ذات الأصول اللبنانية. وتجلت الحداثة ممكنة غير مستحيلة حتى في صحراء الهجرة . وتجلى التثاقف حالة لها وجود سابق في التاريخ العربي القديم .
    لا الجغرافيا ولا التاريخ (الخصوصية) يمكن أن يعوق المشروع التحديثي .
    في خضم هذا السياق المحلي والإقليمي والدولي قررت غزة المتهمة من الشقيق والعدو بالمغامرة غير محسوبة العواقب أن تنتفض وأن تلتهب مثل جمرة من تحت الرماد وأن تخترع من المستحيل امكانية . فبادرت بمباغتة المحتل بالهجوم وتمزيق غلاف غزة . ولخصت أثناء سويعات فعل الحروب العربية السابقة وأضافت إليها . واستحضرت في عبورها المقدس رموزها ليحاربوا من داخل ضرائحهم . ولعل ألمعهم عز الدين القسام الذي كان مفكرا (من النخبة الفلسطينية) قبل أن يتحول إلى مقاتل فشهيد .
    وطال أمد البهتة وانتقلت الصدمة إلى "أفئدة" الصهاينة. وتحول المحتل إلى مدافع حتى وهو يتوغل في حربه البرية في حالة هستيرية تعمقت وتحولت إلى هلع بفعل المسافة صفر وتفخيخ مداخل الأنفاق واشتعال الميركافا والنمر أو خلاصة "المادة الشخمة الصهيونية" بولاعة . وتحولت غزة إلى مستنقع للفولاذ الصهيوني . وأمام الاحتساب الغزاوي والتشبث بالأرض وافتداء المقاومة فشل الصهاينة في استنساخ السيناريو الأمريكي في العراق الذي هدم تمثال الرئيس الراحل صدام حسين بمجرد الانتهاء من معركة المطار .
    وظهر التخبط الصهيوني رغم الشراكة الأمريكية الأوروبية الميدانية واللوجستية والصمت العربي الرسمي إلى حد الخذلان وعدم ارتقاء ردود الفعل الشعبية العربية إلى ما يليق بطوفان الأقصى . أما النخب العربية التي أفرزها الربيع العربي المزعوم لتقوده فحدث ولا حرج .
    المهم أن السابع من أكتوبر قد أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية وعطل مشاريع التطبيع العربية من ناحية وفرز العرب مثلما فرز الصهاينة أيضا . فبقدر ما انفضحت الهوية الدينية المتطرفة المفترية على التاريخ لهذا الكيان المحتل عبر تصريحات سافرة فلقد انفضح وجه آخر للصهيونية لدى العبريين أنفسهم فلقد أدرك بعضهم أنهم لم يكونوا منذ ثمانية عقود غير مشروع استعماري أمريكي وغير رصاص في فوهة السلاح الأمريكي في وجه العرب وغير موطئ قدم أمريكي في الشرق الأوسط . هذه الإفاقة مثلت الرأي الآخر في المنابر الغربية المتصهينة وفلاسفتها الساقطين في أول اختبار اجرائي التي أمعنت في تغييب وجهة نظر الرازح تحت الاستعمار الأخير في هذا العالم المتحضر جدا جدا ...
    تأكد إذن أن الإنسان بالمعنى القيمي للكلمة لم تفرغ الإنسانية الغربية بالواقع الاستعماري للكلمة من اغتيال عقله . وظهرت الشجاعة والطلاقة والصدق في خطابات أحرار العالم الغربي . وظل الأصيل أصيلا أما الغروب فقد لاحت شمسه خجولة شاحبة في طريقها إلى الظلام .
    فهل يجوز لنا أن ننتظر الإنسان القادم والعقل الجديد ؟ وأن نعتبر "رجعيةََ" كل المشاريع التي مورست على العرب قهرا أو ديمقراطيا قبل السابع من أكتوبر . أوعلى الأقل أن نتخلص من الدغمائية في الاطمئنان إليها بعد أن كاد المريب أن يقول خذوني ؟

    توفيق الشطي . السواسي . تونس .
    في 2023/12/12

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى