الخميس ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم مروى هديب

يوم مات عمري

كنت أقف في الشارع بانتظار وصول الحافلة لتقلني الى المكان الذي اريده فقد قررت اليوم ولأول مرة زيارة قبر والدي الذي توفي منذ اربع سنوات!! يا لهذه الايام التي تمر بسرعة كنت افكر بيني وبين نفسي هل من المعقول ان والدي توفي منذ اربع سنوات؟؟ للحظة اعتقدت انني في حلم ولكنني وبعد وصول الحافلة ايقنت بأنني لا احلم فركبت وجلست الى جوار النافذة بصمت مطبق فكعادتي لا احب الجلوس الا بجانب النافذة لاتمتع ببعض الهدوء والسكينة قبل ان اصل الى المقبرة حيث يرقد والدي رحمه الله وابدأ بثه لواعج قلبي وكل ما تختزنه روحي من جراح واحزان. طوال الطريق كنت احاول منع سيل الذكريات من التدفق الى مخيلتي لكن الذكريات سحبتني إلى الوراء ... إلى يوم أسود من حياتي .... يوم انطفأت شعلة عمري... يوم فقدت روحي, و انسلت الحياة من جسدي ... يوم فقدت والدي.

كان يوما عاديا ككل ايام حياتي اجلس في عملي كعادتي اعمل في صمت وهدوء ودون ان ازعج الاخرين أقوم بما يطلب مني الى ان رن هاتفي تلك الرنة المشؤومة فأذا هي والدتي حفظها الله تتصل، من فرط انشغالي قمت بفصل الخط عليها لأنني سأعاود الاتصال بها بعد انهي ما بيدي لكنها اصرت على الاتصال فخفت للحظة من اصرارها على الاتصال فتناولت الهاتف ورددت فأتاني صوتها متعباً كئيباً وحزيناً على غير العادة وهي تقول لي اين انتٍ يا ماما؟؟ فقلت لها وانا اضحك من سؤالها في العمل يا حبيبتي واين ساكون في نظرك؟؟؟ فقالت لي هل تستطيعن القدوم الى المستشفى فخفت وتلعثمت وكعادتي على الفور تجمعت الدموع في عيناي قبل معرفة السبب فقالت لي لا تخافي يا حبيبتي لكن والدك متعبُ قليلا وكل اخوتك هنا فقلت ان لم اخبرك فأنت بكل تاكيد ستتكدرين لذا ان كان باستطاعتك ان تاتي تعالي ولا تترددي.

فعلا لم انتظر سوى دقائق حتى طلبت من مديرتي في العمل الاذن بالمغادرة دون ان اوضح لها الاسباب اكتفيت بطلب الإذن والخروج دون النطق بحرف واحد لم اجد سيارة تقلني في البداية ولم اتمالك نفسي من كثرة الدموع التي لم استطع ان امنع تساقطها فاخرجت النظارة الشمسية لاخفي بها وجهي ووقفن انتظر وصول التاكسي الى ان وصلت السيارة فركبتها واخبرته انني اريد الوصول الى المستشفى بأسرع وقت ممكن وفعلا وكان الله يسر لنا الطريق فكانت الشوارع غير مزدحمة على غير العادة لكنني لم اهتم فانا اريد الوصول وفقط والاطمئنان على والدي.

طوال الفترة التي استغرقتها من الخروج الى عملي الى الوصول الى المستشفى لم يخطر ببالي انني قد افقد والدي!! لم افكر للحظة بان والدي قد يكون ميتاً قبل ان اصل او انني قد لا اراه بعد اليوم لم اقف لافكر بأنني والدي مثل بقية البشر وانه من الممكن ان يموت في اي لحظة والسبب هو خوفي الدائم من الموت فمنذ وان كنت صغيرة اخاف من ذكر تلك الحقيقة المخيفة التي يذهب فيها البعض الى غير رجعة تلك الحقيقة التي كنت وبمجرد ان يذكرها احدهم امامي يتزعزع كياني لا بل ابدأ بالبكاء والعويل ولا انام على مدى أيام وأيام من شدة خوفي منها ربما لان الموت أعظم المصائب؟؟!! أو لأنه يقودنا إلى مصير مجهول؟

طردت عني كل تلك الافكار حالما لمحت المستشفى امامي فدفعت للسائق اجرته وركضت بسرعة نحو قسم الطوارئ لاجد والدتي تقف مع نساء غريبات لا اعرف اي واحدة منهن وحالما رأتني تقدمت حولي بابتسامة خفيفة تخفي ورائها عذابات دفينة فاخذت بيدها وقلت لها هيا بنا لنرى والدي.. لكنها لم ترد ان ترافقني فاخذت احثها على المشي هيا بنا يا امي مابالك لا تمشين؟؟ فأذا بدمعة وحيدة تسقط من عينها وهي تقول لي يا ابنتي لقد مات والدك!!! فنظرت اليها نظرة طويلة مليئة بالعديد والعديد من التساؤلات وعجز لساني عن النطق بأي كلمة سوى انني طلبت منها ان تأخذني لأراه. كلما كنت اتقدم الى المشرحة وضغط يدي يزيد على يد امي من شدة خوفي من رؤية والدي ميتاً يا له ممر طويل مشيت فيه حتى وصلنا الى الثلاجة التي وضع فيها والدي كان راقدا هناك بلا حول ولا قوة وكأن الخوف الذي بداخلي لم يكن وكانني لم اكن مرعوبة منذ لحظات قليلة اقتربت منه واخذت أتلمس وجهه وشعره وكتفيه وأقبل يديه وانا لا ارى تقريبا من شدة دموعي كل ما اراه هو وجه والدي نائما ً نعم انه ليس ميتا اخذت اقول لامي امي انظري انه لم يمت انظري بالله عليك انظري امي كانت تبكي بصمت وهي تهمس بكلمات لا افهمها كل ما فهمته بانها تقول بانه القدر وهذه ارادة رب العالمين .. حاولت امي اخراجي من المشرحة لكنني ابعدتها واخذت اتحدث الى ابي وأساله هل وصلنا يا ابي الى اخر المحطات ؟؟ هل هذه اخر مرة اراك فيها ؟ ألن يكون لنا بعد اليوم لقاء ؟؟ اقتربت مني والدتي واخي وسحباني بعيدا عن المشرحة ولم اعي الا وانا اركب في سيارة اخي وامي تضمني الى صدرها وانا ابكي بصمت واحاول ان اتقبل كل ما حدث واستوعب حجم المأساة التي المت بنا فأبي ذلك الرجل الحنون العطوف . أصبح ألان جسد بلا روح لقد فارقنا بصورة مفجعه وحزينة ذهب حتى دون أن يقول كلمة وداع واحده يومها فقط ادركت مدى تفاهتي لأنني اخاف من الموت واصبح ذكرالموت امراً عادياً على لساني اصبحت هذه الكلمة جزءا من ايامي وساعاتي اصبحت انتظرها يوميا لتجمعني بحبيبي ووالدي.

قطع سيل افكاري صوت السائق يقول لي لقد وصلنا الى المقبرة من يريد النزول فلينزل هنا.. جمعت شتات نفسي وترجلت من الحافلة ووقفت امام المقبرة اطالع ما اراه امامي اتامل القبور الصغير منها آه كم رهيب منظر تلك المقبرة .. هناك ستكون نهايتنا جميعا هناك سيكون مثوانا الاخير هنا سيكون المستقر في تلك الحفرة الصغيرة . هنا عن الحديث سنسكت وعن السلام سنصمت هنا سيرقد المظلوم الى جانب الظالم والمنتصر بجانب المهزوم والضعيف مع القوي والغني مع الفقير هنا من يتحدث فقط اعمالنا التي قمنا بها التي قد نعرفها او لا نعرفها.

اخذت ادور على تلك القبور الصغيرة والكبيرة في محاولة مني للعثور على قبر والدي قمت بالالتفاف على جميع القبور وقراءة الفاتحة على كل قبر اقف عليه الى ان وصلت الى قبر والدي لم اصدق للوهلة الاولى انني اقف امام جثمان والدي كنت اعتقد بأنني قد اقتنعت اخيرا بفكرة رحيله الابدي كنت اقف مذهولة مجفولة العينين مسمرة الحركة والافكار تتداخل في راسي وكأن كل ما كنت اريد قوله قد تبخر للحظة من عقلي، الحزن سيطر على كل مشاعري وكياني لم استطع ان امنع نفسي من البكاء وانا اردد لنفسي بأن ابي قد مات مات مات كنت اشعر بصدى تلك الكلمة يتردد في كل جوارحي محدثا كل ذلك الألم, وانا اتخيل بانه سيظهر لي في اي لحظة ليقوم بمواساتي وتطييب خاطري عله يفلح في التخفيف من ذلك اللهيب الذي يستعر في قلبي. اخذت اقول له آآآآآآآآآآآآه يا ابي لو تعلم كم اشتاق لك وكم افتقد كل تلك اللحظات معك غيابك يا ابي تجربه لا أستطيع اختصارها ولا الهروب منها ... فهي ستبقى معي كغصة أبديه... سيظل اثرها قائما وسط القلب اشتقت لك يا ابي كثيرا الحياة ليس لها طعم بدونك آه لو تعلم كم اشتاق لك وليتك الآن معي .فابثك جميع مافي قلبي من لواعج واشجان وآه لو تعلم كم اود لو كان بمقدور كلماتي ا لتي اقولها لك ان تعبر عن هنهنات الضمير وخلجات القلب المشتاق لك لكن كل ما انطق به لن يقدر ان يوصل لك كل ما قد تهمس به روحي المستهامة.

آه يا ابي كم اتذكرك وكم احتاجك وكم اريد سماع صوتك الدافئ مرة اخرى.. احيانا يا ابي اتمنى لو انك لم تلبي نداء السماء !! لكنني اعود وانهر نفسي واقول لها ان تستغفر ربها وتتوب اليه فهذه سنة الحياة وقضاء من الله سيعيشه كل واحدٍ منا لكنها روحي وجروحي التي تشتاق لك وتتمنى ان يعود الزمن الى الوراء لكي ترتمي بين احضانك. لو تدري كم اردت ان اتوسل الموت لكي يمهلني قليلا لاودعك واقبل جبينك كم اتمنى ان تكون معي لترى يوم زفافي وانا ارتدي بذلتي البيضاء الم تكن هذه امنيتك ان تراني عروسة جميلة لقد تحققت امنيتك يا ابي التي رددتها مراراً لكنك لن تكون معي يا املي ويا نور عيني..

احسست بانني لم اعد قادرة على الكلام وبأنني يجب ان اغادر المكان قبل ان افقد اعصابي وابدا بالبكاء والنواح فأزعج روح والدي واعذبها بكثرة دموعي حملت حفنة من تراب قبره وقبلتها واستودعتها الله ودموعي تسابق كلماتي وانا لا البث اردد بيني وبين نفسي كلمات الوداع لأبي الحبيب والتمنيات بأن يرقد في سلام وامان قرير العين لأنه نور العين رحمه الله غادرت المقبرة وانا احس بأن روحي تهتز بين اضلعي وانني في حالة إنهيار كامل وان الحزن الموجود بداخلى حزن قاتل وان هناك نارا تجتاحني وتأتي على كل أخضر فى قلبي ولكني لم املك الا ان اردد لنفسي بعض الكلمات التي كان ابي يرددها دائما حيث كان يقول بعد الفراق تبقى هناك أشياء لا نملك لها اية نهاية.. انها تلك الأشياء التي تعلن صرخة الوداع مع اللفظة الاخيرة لانفاس الفراق المر العصيب.

على الهامش.

عندما غادرت المقبرة تاكدت لدي القناعة بأن القدر لا يتأخر لكن المشكلة أننا لا نعلم موعده لذا سأتوقف عن الحديث فدموعي تسبق حروفي فليرحم الله ارواحنا احياء كنا او اموات .


مشاركة منتدى

  • كلماتك كانت تلج في خاطري وتفتش عن جرح قديم لم يلتئم بعد .. كلمات أسالت دموعي بقوة ..
    أسأل الله أن يرحم أبائنا وأحبابنا وأن يجمعنا بم جميعاً مع النبي العدنان في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى