يوم كّنا هناك..
فى يوم من الأيام امتشقت قلمى وأخذت أكتب مترجماً بعض العبرات والخلجات التى تنتابنى..
لا أخفيكم بأن هذه المقدمة شبة التقليدية لا تصلح إلا لقصة ترويها الجدات للأحفاد..
لكن "رب ضارة نافعة" كما يقول المثل الفلسطينى عندنا وبحسب اعتقادى عندكم أيضاً..
الموضوع باختصار سيداتى سادتى.. أننى لا أعرف من أين أبدأ.. فالحيرة تقتلنى، كما أننى متأكد من أنها تقتل الكثير منكم!!!.. لا ضير!!!.. فـ "رب ضارة نافعة"!!!..
لن أطيل الحديث لأشرح لكم عن قوة ومتانة اللغة العربية ومفرداتها، التى أجهل الكثير من بواطنها، ولن أدعى العلم فيها فيحق بى قول الشاعر "وقل لمن يدعى فى العلم فلسفةً.. حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ"، ولكن سيداتى سادتى اسمحوا لى أن أتعرج بصحبتكم قليلاً فى لغة الضاد التى نعتز بها جميعاً، مستغلاً كنوزها بما تيسر لى وهى لغتنا الأم، لأحدثكم عن بيتنا..
فبحسب ما أعرف -وأنا كما أسلفت لكم لست خبيراً باللغة- للبيت فى اللغة عدة مفردات تدل عليه، ومنها المنزل، والشق، وبيت الشعر، والكوخ وحديثاً أصبحنا نقول شقة وخيمة لاجئين وهاوس، ولطالما قادنى قلمى إلى كتابة كلمة الدار يطيب لى سيداتى سادتى أن أذكر هنا أن كلمة الدار استخدمت فى مثل شعبى فلسطينى آخر يقول: "الدار دار أبونا وأجوا الأغراب وطردونا"..
ولكلمة الطرد هنا عدة مفردات فمنهم من يستخدم الكلمة كما هى، ومنهم من يقول هجرونا بتشديد الجيم، وهناك من يقول كبونا بتشديد الباء، وعندما يشتد القائل إرهاباً يقول نكبونا، وهنا يقصد بها النكبة وعملية الطرد المنظم والممنهج التى تعرض لها ملايين الفلسطينيين الذين طردوا من منازلهم بالقوة زوراً وبهتاناً..
عفوا سيداتى سادتى اعتقد جازماً أنكم بكل تأكيد تعرفون قصة الملايين الذين طردوا من بيوتهم ومنازلهم ومضاربهم وبيوت الشعر والطين التى كانوا هانئين راغدين بالعيش داخلها وحولها، حيث أننى لن أتطرق إلى السياسة وأخبركم بالقصة لسببين: الأول لأنها قصة يطول شرحها، والثانى هو أنه كما يقول المثل الشعبى عندنا "السياسة تياسة" ولأنها كذلك فأنا لا أرغب بأن أعكر صفوكم بالسياسة التى أتجنبها وأنا الحيران الذى يقتلنى الملل..
ولكن اسمحوا لى سيداتى سادتى أن نعود إلى عذوبة وجمال لغتنا ومفرداتها الواسعة، وسع بحر عذاباتنا منذ يوم نكبتنا، ولا يسعنى إلا أن أتذكر مفردات كلمة التياسة.. لا لشيء ولكن لتصادف مرورها فى سياق ما تحدثنا به سابقاً، وأقول إن كلمة التياسة ليس لها علاقة بالكياسة، فلو كان لها علاقة بالكياسة لوجدنا أن معظم الساسة العرب هم من أصحاب الكياسة، ولأنها أى الكياسة لا تمت لهذه الكلمة أى التياسة بأى صلة سوى أنها حسب علمى تقع فى موقع التضاد منها، ولأنها ليست من فصيلتها وأنا منذ تاريخ نكبتنا حتى اليوم أحلم أن يقودنى الساسة العرب إلى بيتى الذى طردت منه عنوة وظلماً..
والظلم أيتها السيدات والسادة، قبيحٌ قبحَ أقبح شيء مر عليكم فى حياتكم، كلٍ بحسب ما مر عليه من أمور قبيحة خلال مشوار حياته، وتجربته الخاصة به.. عفواًً فأنا لا أتفلسف عليكم.. بل لتعرفوا كم أنا عاجز لغوياً عن وصف قبح الظلم، ولكننى متأكد أنكم تفهموننى جيداً، وبالعودة إلى الظلم أقول إن معايير تياستنا وكياستهم، أى الذين طردونا من مضاربنا، استطاعت بجدارة أن تقلب الصورة ليصبح المظلوم ظالماً!!! والعكس هو الصحيح!!!.. لكن ما يعنينا نحن من كل هذا وذاك وأنا كما الملايين منكم أموت شوقاً وولهً إلى عبير أشجار التفاح والبرتقال فى موسم ربيعنا الأخضر وهو يدخل متسللاً من النافذة الخشبية البسيطة ليداعب أنفى وينثر سحره الأبدى فى كل جوارحى وأنا مستلقٍ بداخل دارنا التى أحلم أن أعود إليها يوما.. ولا زلت أنتظر أن أعود إلى بيتنا العتيق.. حيث يوم كنا هناك..