الخميس ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

يا إلهي!

قصة : توف ديتليفسن

كانت الشقة تقع مقابل المبنى الكبير لشركة التأمين "رولو" حيث كان الشباب من موظفي المكاتب يجلسون بأكمام قمصانهم مطوية والنوافذ نصف مفتوحة عندما تشرق الشمس. كانت روزا تنظف النوافذ التي تطل على ذلك الجانب؛ أما تلك التي تطل على الفناء فلم تكن تلمسها أبداً. كانت تعتاد على تنظيفها في وقت استراحة الغداء، عندما كان موظفو "رولو" يقفون في البوابة ويدخنون السجائر ويتحدثون. أحياناً كانوا يبتسمون ويشيرون إليها، ومرة ذهب أحدهم وتحدث معها. كان هو الذي أحبته أكثر. قدم لها سيجارة، وجلست على عتبة النافذة ودخنتها بينما كانا يتحدثان عن الطقس وما شابه. شعرت حينها بأنها خفيفة الروح. كان ذا شعر أشقر أملس وأسنان بيضاء كبيرة، وكان ينظر إلى ساقيها بدهشة، كأنه لم يستطع تصديق جمالهما. كان يجلس خلف إحدى النوافذ العلوية، ولم يكن بإمكانها رؤيته إلا عندما ينهض. بخلاف ذلك، لم تتحدث مع أي منهم ولم تلوح لهم مرة أخرى. كانت امرأة متزوجة، ورغم أنه لم يكن هناك أي سوء في ذلك، إلا أنها كانت تشعر أن إينار لن يحب أن تلوح لأشخاص لا تعرفهم. كان الناس مشغولين جداً، وكان هناك فعلاً الكثيرون الذين لم يفهموا ما الذي أعجبها في إينار. وكان من الصعب أيضاً تفسير لماذا تزوجته في الأساس. لم يكن له علاقة بالحب، كما اعتقدت عندما تعرفت عليه. كان شيئاً مختلفاً تماماً، ولأن إينار قال إنه شيء أعظم بكثير من الحب، فقد صدقته، وقالت نفس الشيء لصديقاتها اللواتي لم يتوقفن عن التعجب مما تريده مع "ذلك الرجل العجوز". كان من غير اللائق منهن أن يقلن ذلك، خاصة بعد أن تزوجته، ولكن مثل هذه الأمور كانت جزءًا من التربية، لذا ربما لا يمكن لومهن.

لم يكن كبيرًا في السن، بالمناسبة، بل أكبر منها بعشر سنوات فقط، وكان ذلك أمرًا جيدًا، ، لأن المرأة تصبح عجوزًا أسرع من الرجل، ولذلك كان لديها عشر سنوات إضافية. وأما لقب "تاجر الفحم" فقد جاء فقط لأنه كان يهتم بأمور أخرى غير الرقص واللهو، ولأنه كان يرتدي أحذية مطاطية ويحمل مظلة عندما تمطر. ولكن لماذا يجب على المرء أن يعرض نفسه للإصابة بالتهاب رئوي وكل شيء آخر، فقط لأنه رجل؟ بالطبع كن يشعرن بالغيرة فقط.

في لحظة غضب مفاجئة، قامت بفرك الزجاج بقوة باستخدام قطعة الاسفنجية الصفراء الجافة. لم تكن ترغب في ترطيبها مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، بدأت تمطر. لم يظهر موظفو "رولو" في البوابة اليوم. وكان قد مضى وقت طويل منذ أن رأت ذلك الشاب ذا الشعر الأشقر. ربما كان مريضًا؟

كانت الكلبة تنبح عند الباب وتريد الخروج. كانت ترغب في الخروج طوال اليوم، لكنها كانت أنثى وفي فترة الحيض الآن، ولم تكن روز ترغب في مشاكل مع الجراء وأشياء من هذا القبيل. كان إينار يحذرها كل صباح بضرورة الحرص على عدم هروبها منها. لكن كان يمكن أن يكون الأمر ممتعًا بوجود جراء صغيرة كهذه.

عندما يتوقف المطر، ستأخذها في نزهة، وليس قبل ذلك. على أية حال، كان الأمر أشبه بأن الكلبة هي التي تأخذها في نزهة، ولم تكن معتادة على المشي بمقود.

في الشارع الرئيسي، مر زوجان شابان بالدراجات. كانا يضحكان ويمسكان بأيدي بعضهما البعض وينظران في عيون بعضهما بحب، في وسط المطر الغزير. يا إلهي!

– حسنا، يا ليدي، توقفي الآن، سأعود حالاً.

كانت هي التي اختارت أن يكون لقبها "ليدي". كان هذا هو الاسم الذي استخدمته للكلب الذي كانت تربيه في الشقة الأولي التي عاشت فيها من قبل. الاسم بالإنجليزية يعني "سيدة".

تغشّت النوافذ بالمطر، وخلف النوافذ الكبيرة لشركة "رولو" كانت هناك صخب وحركة وانشغال، وأناس يهرولون جيئة وذهاباً بالأوراق في أيديهم. وكانت النساء على آلات الكتابة يرتدين سترات محبوكة. كان الطقس غريبًا، متقلبًا بين الدفء والبرودة، وبين المطر وأشعة الشمس. ولم يكن الشاب الأشقر ظاهرا. مما أثار حزنها. فكرت : " يا إلهي! يكاد يظن المرء أنني واقعة في حبه. كأن المرء لا يستطيع أن يحصل على شاب أحمق ليركض معه، لا يملك شيئًا ولا يعرف شيئًا، ولم يقرأ أبدًا مقالة واحدة من مقالات إينار عن الفن وأشياء من هذا القبيل في "الزمن والوطن".

بالمناسبة، كانت تفكر فعلاً أن كتابة أشياء من هذا القبيل تجلب مالاً أكثر، لكن إينار قال إن المواد السطحية فقط في المجلات الكبيرة هي التي تُقرأ، لأن الناس لديهم ذوق سيء للغاية. ومع ذلك، كان من الجيد بالنسبة لها إذا كان بإمكانه كتابة شيء من هذا القبيل، فقط لكي يتمكنا من توظيف خادمة منزلية ولا يضطران للاكتفاء بخادمة صباحية تعاملها كما لو كانت في الثانية عشرة من عمرها. ولكن عندما قالت له ذلك، ضحك واصفاً إياها بطفلة صغيرة وساذجة، ولكنها لم تكن تنزعج من ذلك، لأنه قال إن النساء الذكيات هن الأسوأ، و كان مقبولا بما يكفي لكليهما.

لقد أحبته وهو يقول أشياء من هذا القبيل. كان الأمر أشبه بوجود أب يعتني بك ويبعد عنك كل شر. وهذا شيء كانت تحتاجه حقاً كطفلة يتيمة. يا إلهي! الله وحده يعلم لو لم تقابله! وكم كان الأمر غريبًا، كما لو كان قدرا. وهو، الذي لم يضع قدمه في مطعم أبداً. وقد رقص حتى! في ذلك الوقت، لم تجد الأمر غريباً، لكن الآن كان يغضب تقريباً إذا اقترحت أن يخرجا للرقص. لكن ذلك كان بطبيعة الحال لأنه لا يريدها أن تتذكر الحياة التي كانت تعيشها من قبل، مثل الرقص والتقبيل في الردهة والعودة إلى المنزل في وقت متأخر من الليل، لكن تلك الليلة كانت لها غرضها، لقد خرج للرقص.

 السيدة ماجيستر روزنشولد، قالت لنفسها من داخل النافذة، لكي تتخلص من الحزن. بدا الأمر وكأنه شيء آخر غير مدبرة المنزل روزا أندرسن. في اليوم التالي لزواجهما – ولن تعترف أبداً لإينار بأنها كانت تتطلع إلى ذلك طوال الليل – اتصلت بالمخبز على الجانب الآخر من الشارع:

– نعم، أنت تتحدث مع السيدة الماجستير روزنكشولد،هل يمكنك لطفًا إحضار ثلاث كعكات نابليون؟

كان إينار يعتبر ذلك لطيفًا منها أن تظهر هذه الطفولية. وبالنسبة لها أيضًا، كانت تعتقد ذلك عن نفسها، وأصبحت خبيرة في التصرف كالطفلة لإسعاده عندما كان في مزاج سيء. وكان ذلك يحدث كثيرًا، لأن الناس لم يقدروا قيمته بالشكل الذي يستحقه. لكنها كانت في الأساس في العشرين من عمرها تقريبًا، إلا أنها بدأت تشعر بالحزن عند الاتصال لطلب أشياء مختلفة فقط لتتمكن من قول "السيدة الماجستير روزنكشولد".

نظرت إلى انعكاس صورتها المغبشة في النافذة وفكرت: لا أصدق أنني متزوجة منذ عام كامل قريبًا.

سنة واحدة فقط؟ كم كان ذلك غريبًا، كيف كانت تشعر بهذا الحزن الغريب اليوم. كانت تنتظر عودة إينار قريبًا. ربما كانت هذا مجرد تعب الربيع أو شيء من هذا القبيل. خرج شاب من الردهة، ونظر إليها بكل تأكيد. كان من الجميل أن تكون شابة. وعندما كانت تمر بجانب "رولو" مع "ليدي"، فإنهم بالتأكيد يقفون وراء نوافذ "رولو" يتحدثون مع بعضهم قائلين: "إنها فتاة جميلة جدًا، الله وحده يعلم ماذا تريد من ذلك العجوز المعتوه."

لم يكون بإمكانهم أن يعرفوا أنه يبدو أكبر سنًا مما هو عليه، لأنه كان شبه أصلع وكان يحرص على عدم الدخول في برك الماء، ولم يعبر الشارع إلا عندما لا تكون هناك سيارات أو ترامات. لم يمكنهم أن يعرفوا كم كان حكيمًا ومتفهمًا؟ في المرة الأولى التي نامت معه في السرير - ومع أي رجل - ولم تكن تتوقع ذلك بالطريقة التي كانت تتخيلها، كان يواسيها قائلاً: "أسعد النساء هن الغير راضيات، لأنهن لم يغرقن أبدًا في القذارة البرجوازية،، بل هن جديدات ومستعدات - و... مستجيبات، على ما أعتقد؟

فكرت في نفسها : يا إلهي !مستجيبات لماذا؟

كانت قلقها يزداد بينما كانت تستعد للخروج وتضع الحبل في عنق "ليدي". قفزت الكلبة نحوها وكادت أن تسقطها في نشوة غبية. تأمل ألا يجدا كلبًا ذكرًا في أعقابهما اليوم ، في المرة الأخيرة، كان عليها أن تحبسها في بئر السلم.

بينما كانت تسير في الشارع، جمعت ثقتها حولها مثل معطف دافئ جيد. فكرت : لن أنظف الأواني للغرباء مرة أخرى، اعتقدت أنني لن أطرد أبدًا لأن سيد المنزل لا يمكنه أن يتركني . لن أقف على زاوية الشارع في انتظار رجل لا يأتي، ولن أخبر امرأة مهمة أني لا أملك والدين. الآن هناك شخص يحميني. لدي أثاث وبطانيات وكتب كل ما هو له هو ملكي أيضًا وكل ما لا أفهمه يشرحه لي ويطورني حتى أرى مدى غباء صديقاتي وكم أنه لا معنى للحياة التي عشتها من قبل، مع الأفلام والرقص والجري مع جميع أنواع الأولاد الذين يريدون فقط النوم معي وإذا كان لدينا أطفال، فسوف يدرسون ويصبحون طلابًا، وإذا مات، سأحصل على عشرة آلاف كرونة -

 اهدئي الآن، يا ليدي .

سحبتها الكلبة بعيدًا، وهى تصدر صوت هسهسة شبه مختنقة، حتى اضطرت إلى الركض الخفيف، والحبل يحز راحة يدها. كانت السماء صافية بلون أزرق فاتح، و كان الهواء شفافًا وباردًا بعد المطر، مع هبات مفاجئة من الدفء.

مر شاب بملابس بنية وابتسم لمنظرها وهي تتصارع مع الكلب. ردت الابتسامة، وانطفأت تدريجياً بينما كانت تستمر في المشي. كان إينار يرتدي الأسود دائمًا، ولم يلبس الصوف القطني على كتفيه لأنه لا يريد أن يتباهى بأي شيء يفعله. كان يقول إن الأمر يتطلب شجاعة كبيرة ليكون مختلفًا عن الآخرين.

سحبت الكلبة التي كانت تتقلب عند ساقيها بقوة، حتى كادت أن تقف على ساقيها الخلفيتين.

صرخت:

 حسنًا أيتها عاهرة!

وفجأة امتلأت عيناها بالدموع وفكرت: يجب أن أعود إلى المنزل لأرى إن كان إينار قد أتى. ربما يعرف ما هو الخطأ معي.

لكن "ليدي" لم ترغب في العودة إلى المنزل. بدلاً من ذلك، جلست على مؤخرتها وتركت نفسها تنزلق بينما كانت تدير رقبتها باتجاه كلب ذكر غريب الشكل، يقترب بنشوة منها ، ذيله مرتفع وأذناه منتصبتان.

 يا إلهي!

قالت ذلك بصوت مرتفع ويائس ولوحت بحقيبتها في عجز. ثم سحبتها مع "ليدي" التي كانت تنبح بحزن مؤثر، بينما كان المارة يضحكون ويتهامسون بالتعليقات.

فكرت: "عندما أخبر إينار بهذا، سيجده مضحكًا للغاية.. لقد كان يعشق هذه الكلبة".

عندما عادت، رأت الشاب الأشقر يقف بعيدًا أمام مدخل "رولو". كان ينتظر بالتأكيد الترام القادم. كانت محطة الترام مقابل الشركة مباشرةً. عندما تصل إلى هناك، ستتوقف وتتحدث معه قليلاً. ألم يكن هذا سببًا لأن تكون سعيدًة جدًا؟ يا إلهي! إنها لم تكن تعرفه جيدًا حقًا.

كان الكلب الذكر يشم براءتها من الخلف، ورأت "ليدي" الناعمة وهي تنزلق على مؤخرتها، والعاشق يجري ورائهما. ابتسمت روزا فجأة،وانحنت لتأخذ الحبل من عنق الكلبة وتطلق الحيوان المثار. نزل الكلبان معًا إلى العشب أمام محطة الترام، ولاحظت أن الشاب الأشقر قد استدار يتابعهما بفضول.

عند ذلك ذهبت إليه ووقفت بجانبه تماما وابتسمت قائلة:

 لقد هربت.

أجاب ذو الشعر الأشقر وهو يميل عليها بثقة وبصوت أقرب إلى السر:

 حسنا، ماذا في ذلك؟ فقط دعيها تستمتع، فلماذا لا تمنحى كلبتك نفس المتعة التي نتمتع بها جميعًا؟

ضحك كلاهما، بصوت عالٍ جدًا وبلا معنى، حتى نزل رجل هائج من الترام وركض نحوهما، ملوحًا بمظلة سوداء طويلة في الهواء وهو يصرخ:

 روزا، روزا، أمسكى بهذا الكلب قبل فوات الأوان.

(تمت)
النص من مجموعة القصص القصيرة "الحكم" (1948). توف ديتليفسن (1917-1976) كاتبة دنماركية.

المؤلفة : توف ديتليفسن/ Tove Ditlevsen . توف إرما مارجيت ديتليفسن (14 ديسمبر 1917 - 7 مارس 1976) شاعرة وكاتبة دنماركية، كانت واحدة من أشهر المؤلفين في الدنمارك حتى وفاتها. كانت الهوية الأنثوية والذاكرة وفقدان الطفولة أبرز الموضوعات المتكررة في أعمالها النثرية والشعرية على السواء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى