الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم خالد السيد علي

ويرحل في صمت

إلى أعلى قمة.. إلى ما بعد حدود البصر والعقلانية.. إلى خيال واسع لا قيود عليه..شرد بكل حواسه وهو واقفاً في التراس.. ما بعد منتصف الليل إلى الفجر و مازال شارداً.. استرخت كل أوصاله..

جلس يبحث عن الذات الغائبة والحياة التائهة.. ماذا فعل في حياته.. ماذا اخذ منها وماذا أعطى.. هل حقق كل أحلامه أم انطوت في متاهات الحياة..وانهالت علامات الاستفهام حول سنوات عمره..

تحلق في عنان السماء.. تأمل النجوم المتبعثره.. تذكر أمنيته التي كانت تراوده وهو طفل.. لم يكن حلماً بقدر ما هو أمنية لماذا لم يصبح عصفوراً.. للحظات قليلة.. يعيش الخلاء.. يعيش الصفاء.. يستنشق الهواء دون شوائب دنيوية.. يكون له الحق في بناء العش في أي مكان.

وكانت هذه الليلة.. سنحت له تلك الفرصة.. أن يصبح ما يشاء.. تخيل وتقمص روح العصفور..

وكأنه بجناحين ومنقار.. تحلق وتجوس في كل مكان للبحث عن الذات..

وانطلقت السعادة من أسفل قمة في قلبه إلى أعلى قمة وهو يزقزق ويرفرف بين الطبيعة الخلابة والأزهار المتناثرة لم يفكر في شيئاً إلا أن يظل عصفوراً إلى أن تنتهي أحلامه..

عاش مع العصافير والطيور الأخرى وكأنه فعلاً من جنسهم.. سمع وأصغى لروايات شتى لم يسمعها من قبل في عالم الإنس.. ملكته الغبطة والحب تسرب إلى كل أساريره.. وبات واضحاً أنه في عنفوان الفرحة..

يالها من دقائق ذات ألق منذ انصرام الليل وشقشقة الشمس التي أعلنت على الملأ موعد يوم قشيب..

هاج ورفــرف وصار يغنى بأصوات متباينة تعنى الحبور الشديــــــد..كانت فرحته تفوق الخيال بحركاته المتوازية مع الطيور في عنان السماء.. وفوق الغصون.. وبين الزهور.

وما أجمل النسمات وهم يشكلون ويعرضون استعراضاتهم المتناسقة.. المتوازية.. كأنهم في احتفالية أو مهرجاناً لرقصات ولكن فالهواء... سالت دون توقف عبرات الضحك.. كلما صعد هذا العصفور مع رفاقه إلى الاعالى وهبط إلى الطرقات..

لم تمر لحظات وقد اقترب الأناس من بدء أشغالهم.. همت الطيور إلى النيل مرة أخرى ثم إلى حيث المطلق وعدم القيود.. علت الصوصوة..غردوا..

ولكن فجأة صرخة الفرحة والبهجة الهائجة.. هاهو الفزع القريب.. والوجل المريب.. انطوت صفحات البسمة الغامرة.. تصمرت العيون..

وانساقت القلوب البيضاء في همجية البكاء عندما سمع الجميع صوت طلقات الرصاص من كل الزوايا وكأن هناك حرباً قد اشتعلت تواً.

بوابل من الرصاص قفزت للعنان.. تناثرت الطيور.. افترقوا.. البعض اختفى بين الأشجار.. والبعض رحل بعيداً عن الأبصار.. والآخرون تحلقوا في العنان تائهين إلا تلك الرجل العصفور الذي أصابته طلقة غاشمة من غريم الحرية.. غريم الإنسانية.. سقط بعدها أرضاً على ضفة النيل..

وسقطت تواً عبرات الحزن العميق.. وراح ينزف وينزف بلا انقطاع.. وهاهم الرفاق الهاربين من بوابل الرصاص قد التفوا حوله يقولون الواحد يلو الأخر:

• لا تحزن فحريتنا لها ثمن... طلقة الغريم في أي لحظة.. طالما اخترت أن تكون حراً.. فلا بد أن تواجه عدوك.. فهناك عدوا للحرية يتربص بك فهو ليس قوياً بل جباناً يخشى الثوار.. متى يخرج الثوار من صمتهم يطلقون أصواتهم ضد العدو ويحطمون سور الخوف المتوارث عن أبائهم وأجدادهم...

وكان التراس... عاد الرجل إلي جنسه.. شارداً.. متأملاً الأحداث...
تمنى أن يكون عصفوراً.. تمنى أن يحطم سور الخوف ويثور وينطلق..تمنى أن ينال شرف فتح أبواب الحرية للغير ويرحل في صمت.!!!

تمت

القاهرة في يناير 2001م

و يرحل في صمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى