مكانة القدس الثقافية زمن الأيوبيين والمماليك
تَغْلبُ على الفترة التاريخية الواقعة بين سنتي 400-922 هـ تسمية تصفها بعصور الانحطاط الفكري ، ومن المؤسف أنّ هذه المقولة قد سيطرتْ على عقول الكثيرين ، إلاّ أن الباحث عن الحقيقة لن يجدَ صعوبة في دحض هذا الوصف وإبطاله ، وذلك بالاستناد الى بعض الدلائل المنطقية .
لقد وصف المستشرق جيب هذه العصور بأنها عصور فضية ، لأنها شهدت ازدهاراً فكرياً ، تدلُ عليه : كثرةُ المدارس والمساجد التي كانت تقوم بوظيفة المدرسة ، وكثرة المكتبات وانتشارها في حواضر مصر والشام ، وكثرة الزوايا والخوانق والربط ودور القرآن الكريم ، وكثرة البيمارستانات التي كانت تضطلع بمهمة التعليم إلى جانب دَوْرها في العلاج .
لقد حرص الخلفاء والسلاطين في العصرين الأيوبي والمملوكي على بناء المدارس في حواضر مصر والشام ، دعماً للحركة العلمية والفكرية ، ولتهيئة النفوس للجهاد ، ولمقاومة العقائد الإسماعيلية ، ولم يقتصر بناء المدارس على الحكام والسلاطين ، وإنما ساهم في بنائها الأغنياء والمعلمون والسيدات .
وقد تنوعت هيئات التدريس في كل مدرسة بين الشيخ والمدرس والمعيد ، ونالتْ هذه الهيئاتُ مكانة مرموقةً ، وكان يتمُ تعيينُ المدرس في كثير من الأحيان بمرسوم سلطاني ، كما تمتعت هذه المدارس بدور اجتماعي وسياسي واقتصادي ، إلى جانب دَوْرها الفكري ، وكان طلاب العلم يحصلون على الإجازة العلمية أو الشهادة ، وقد صُنفتْ تلك الشهادات والإجازات الى صنفين : أحدهما إجازة من مُعَيَّن إلى مُعَيَّن ، وهي مشهورة وشائعة ، وغالباً ما تكون في كتاب أوفي موضوع مُعيَّن ، وتتعلق موضوعاتها بالإفتاء والتدريس ، ورواية الحديث والقراءة . وثانيهما إجازة من مُعيَّن إلى غيرمعيّن ، وهي قليلة ، كأن تكون من مدرس أو شيخ إلى فلان من الناس ، أو إلى من لم تره عَيْني .
وكان أسلوب الإجازات العلمية يشتمل على المقدمة ، كالتحميد والصلاة على النبي الكريم ، ثم العرض وهو الإشادة بالعلم والعلماء ، ثم الخاتمة ويوقعها أربعةٌ من الشهود ، وقد عُرفَ من أشهر المجيزين في مدارس بيت المقدس كل من : جمال الدين بن جمّاعة ، وشمس الدين الجزري ، وابن حجر العسقلاني وغيرهم ، أما عدد المدارس في بيت المقدس إبان العصرين الأيوبي والمملوكي فقد قارَبَ السبعين مَدْرسةً ، أهمها:
المدرسة الدواداريّة :
أنشأها الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله بن عبد الباري الدوادار سنة 695هـ في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ، ووقف عليها أوقافاً كثيرة ، منها : قرية ( بير نبالا) من أعمال القدس ، ووقفَ عليها فُرْناً وطاحونةً ومصْبَنةً وستة حوانيت ووراقة في مدينة نابلس ، وأربع طواحين في بيسان ، ويظهر ذلك في الكتابة المنقوشة على بابها .
وتقع هذه المدرسة في باب (شرف الأنبياء) شمال الحرم ، وسُمي باب المسجد بها ، فقيل بابُ الدواداريّة ، ومن مهماتها تبليغُ الرسائل عن السلطان ، وإبلاغ عامة الأمور، وتقديم البريد ، ويتّضحُ من هذا أنّ الدوادارية وظيفة تُطلقُ على مَنْ يقومُ بهذه الأعمال ، واعتمدتْ هذه المدرسة في تدريسها المذهب الشافعي ، ومن أشهر المدرسين فيها : شريف الدين الحوراني ، والقاضي برهان الدين بن جماعة الكناني . ولا تزال هذه المدرسة قائمة ، وتشغلها المدرسة البَكرية الابتدائية للبنين .
المدرسة السُلامية :
وتُنسب إلى واقفها الخواجا مجد الدين أبي الفداء إسماعيل السُلامي ، ومُوْقعها في باب (شرف الأنبياء)، تجاه المدرسة المعظمية ، بجوار الدوادارية من الشمال ، وكانت كلمة (خواجا) تُطلقُ على المعلم والسيد والتاجر في العصر المملوكي . ومن أبرز شيوخها : ابن خليفة المغربي ، وابنه محمد المغربي الأصل ، المقدسي المولد ، كان حافظاً للقرآن الكريم ومختصاً بالفقه المالكي ، وتَبَوأ مكانة مرموقة في بيت المقدس ، وتولى مشيخة المغاربة ، وتوقيت المسجد الأقصى ، توفي سنة 889 هـ ، ومنهم أيضا كمال الدين المغربي ، وهو أبو البركات شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ، حفظ القرآن الكريم ، ودَرّسَ النحو ، وتوَلّى الإمامة في جامع المغاربة ، واستمرت هذه المدرسة في أداء دورها في الحركة الفكرية حتى نهاية العصر المملوكي ، وهي الآن مَسكن لجماعة مِن آل جارالله .
المدرسة الجاولية :
تُنسَبُ إلى واقفها الأمير علم الدين بن عبد الله الجاولي ، أسسها في زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون ، موقعها في الجهة الشمالية من الحرم قرب درج الغوانمة ، درّ ستْ الفقه الشافعي والحديث ، وفي العهد العثماني صارت داراً للحكومة ، وفي العهد البريطاني صارت داراً للشرطة ، وتشغَلُ بناءَها هذه الأيام المدرسة العمرية للبنين .
المدرسة الباسطية :
تُنسبُ الى واقفها القاضي زين الدين عبد الباسط الدمشقي ، وتقع شمال الحرم ، بجانب شرف الأنبياء ، وتطلُ على المدرسة الدوادارية ، درّس فيها عدد من العلماء الأجلاء في العلوم الشرعية واللغوية ، من أشهر مشايخها : شمس الدين المصري الشافعي ، الذي نشأ في حلب ، وحصل على إجازات عديدة ، وشرف الدين بن العطار، وتقي الدين القلقشندي المقدسي ، الذي برع في العلوم الشرعية ، وعلوم اللغة العربية والحساب ، وقد مَنَحَ هذا العالم الإجازاتِ لطالبي العلم ، مثل : مجير الدين الحنبلي الذي أُجيزبكتاب (مُلحة الإعراب) للحريري .
المدرسة العثمانية :
تُنسبُ إلى أصفهان شاه خاتون بنت محمود العثمانية ، التي وقفتها سنة 840هـ ، تقع في باب المتوضأ إلى الغرب من ساحة الحرم ، تجاه سبيل قايتباي ، وأول من تولى مشيختها من العلماء الوافدين : الإمام سراج الدين الرومي ، وقد ذكر مجير الدين الحنبلي أن سراج الدين انصرف عنها باختياره ، عندما علم أنه يُشترط في شيخها أن يكون أعلم أهل زمانه ، فقال : أنا لا أتصف بهذه الصفة . وقد تنوعت موضوعات الدراسة فيها بين العلوم الشرعية كالحديث والتفسير والفقه ، وعلوم اللغة كالنحو والصرف والبيان ، والعلوم العقلية كالمنطق .
المدرسة الأشرفية :
تنسب إلى السلطان أبي النصر قايتباي ، موقعها غرب الحرم بالقرب من باب السلسلة ، كانت تشتمل على مجمع وخلوة ، وعُينت لها أوقاف في مدينة غزة ، ومما يدل على عناية قايتباي بها أنه خصص للشيخ فيها خمسمئة درهم ، ولكل واحد من طلابها خمسة وأربعين درهماً في كل شهر.
يقول مجير الدين الحنبلي : إن الأشرفية جوهرة ثالثة في بيت المقدس بعد المسجد الأقصى وقبة الصخرة ، كانت فيها خزانة كتب ، وتعددت فيها الوظائف ، مثل وظيفة : البواب والفراش والوقاد والسقا والشاهد ، ولكل وظيفة راتب محدد ، أهم مشايخها : شهاب الدين العمري ، وكمال الدين بن أبي شريف .
المدرسة الصلاحية :
أسسها صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ بعد التحرير، محل الكنيسة المعروفة صندحنّه ولعلها تكون محرفة عن القديسة حنه تقع في باب الأسباط ، وقد ذكرها ابن واصل الحموي ، وابن خلكان ، وقفها صلاح الدين على المذهب الشافعي سنة 588هـ ، كانت في مقدمة المعاهد العلمية في القدس ، ويذكر المحبي أن مشيختها كانت مشروطة لأعلم علماء الشافعية في ديار العرب .
حاول إبراهيم باشا هدمها في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ، ثم سلمها الأتراك للفرنسيين ، فأقاموا فيها مدرسة القديسة حنه ، بعد ذلك استعادها جمال باشا في الحرب العالمية الأولى ، وحولها إلى كلية دينية علمية باسم كلية صلاح الدين الأيوبي.
ومن خلال الاطلاع على جدول الدروس فيها يتبين أنها : كانت تدرس تجويد القرآن في الصباح وبعد صلاة العصر، وتدرس الفقه أربع ساعات يومياً ، والعبادات ست ساعات ، وتدرس اللغات الشرقية والغربية اختيارياً ، وتدرس المنطق والرياضيات ، ويلعب طلابها الرياضة البدنية نصف ساعة ، وتعطى لهم دروس عملية في الهواء الطلق ، وفي يوم الخميس يذهبون للتنزه ، كان شيخها يُعيَّن تعييناً ويعمل تحت إمرته أربعة قضاة ، واحد للشافعية ، وثان للحنفية ، وثالث للمالكية ، ورابع للحنابلة .
وقد تعاقب على التدريس فيها ثلاثون شيخاً أشهرهم : بهاء الدين بن شداد الموصلي ، ومجد الدين بن جهبل الحلبي الشافعي ، وفخر الدين بن عساكر الدمشقي الشافعي ، وبرهان الدين بن جماعة الكناني الحموي ثم المقدسي الشافعي الذي كان مغرماً باقتناء الكتب ، وعلاء الدين الحواري الشافعي ، الذي كان عالماً بالفرائض والحساب ، وصنف كتاباً مهماً أسماه كفاية الطلاب في علمي الفرائض والحساب ، وعز الدين بن عبدالسلام المقدسي الذي ولي مشيختها سنة 831 هـ ، وقد نشأ في قرية \’ كفر الماء \’ من أعمال عجلون ، وتنقل بين مصر والقدس ، والسلط والكرك ودمشق ، كما عمل فيها نحو خمسين معيداً في التدريس ، نذكر منهم : تقي الدين القلقشندي ، وشمس الدين الصفدي ، وعلاء الدين الخليلي ، وبرهان الدين الحسيني ، وشمس الدين البغدادي ، وغيرهم .
المدرسة النحوية :
أنشأها الملك المعظم عيسى بن الملك العادل سنة 604 هـ ، نال النحو العربي فيها اهتماماً كبيراً ، ومن الكتب التي كانت تدرس فيها : كتاب سيبويه ، وكتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي ، وكتاب إصلاح المنطق لابن السُكَيت ، وكتاب ملحة الإعراب للحريري ، كما دُرِّس فيها الأدب والبلاغة والعروض . تقع هذه المدرسة إلى الغرب من صحن الصخرة المشرفة ، كان يتعلم فيها خمسة وعشرون طالباً ، من العلماء الذين درسوا فيها : تقي الدين بن الرصاص الأنصاري المقدسي ، وابنه علاء الدين ، واستمرت المدرسة في أداء دورها العلمي حتى نهاية القرن التاسع الهجري .
الخوانق والزوايا والربط :
كانت الخوانق تقوم بما تقوم به المدارس ومعاهد العلم الأخرى ، وقد اتخذ العلماء من الرُبط أماكن للمطالعة ، والكتابة ، وتصنيف الكتب ، وقد أنشئت منها مراكز كثيرة في بيت المقدس زمن المماليك منها :
الخانقاه الصلاحية .
أنشأها صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير القدس من الصليبيين ، ووقفها على المتصوفة سنة 585 هـ ، موقعها قرب كنيسة القيامة ، وكان الشيخ المسؤول عنها يعين بتوقيع سلطاني ، من أبرز العلماء الذين تولوا شأنها :
الشيخ غانم بن علي المقدسي النابلسي الخزرجي ، قدم إلى القدس من قرية بورين الواقعة جنوب مدينة نابلس ، كان من عباد الله الأتقياء ، ومن أصحاب الكرامات ، توفي في دمشق سنة 632 هـ .
استقر في الخانقاه الصلاحية عدد من المتصوفة وطلاب العلم ، اشتغل بعضهم بالقراءات ونسخ الكتب ، والوعظ والقضاء والميقات ، ومن هؤلاء المتصوفة : تاج الدين عبدالوهاب المعروف بابن شيخ السوق .
الزاوية الختنية :
أنشأها صلاح الدين الأيوبي ، ووقفها على الشيخ جلال الدين بن أحمد الشاشي ، موقعها بجوار المسجد الأقصى خلف المنبر ، سميت بهذا الاسم نسبة إلى الشيخ المعروف بالختني ، لعبت دورا بارزا في الحركة الفكرية في القدس ، تولى مشيختها عدد من كبار العلماء مثل : شهاب الدين بن أرسلان ، وبرهان الدين الأنصاري ، والشيخ شمس الدين القباقبي .
زاوية بدر الدين :
تنسب إلى بدر الدين بن محمد الذي ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب ، تقع في وادي النسور بظاهر القدس من الناحية الغربية ، توفي بدر الدين سنة 650 هـ ودفن في زاويته ، ثم خلفه فيها ابنه محمد ، ثم عبد الحافظ بن محمد ، ثم داود بن عبدالحافظ الذي كان من أصحاب الكرامات ، ثم خلفه ابنه السيد أحمد الملقب بالكبريت الأحمر ، لندرة وجود مثله في زمانه .
هذه هي المكانة الثقافية والعلمية المرموقة التي تمتعت بها القدس في العصرين الأيوبي والمملوكي ، كغيرها من حواضر مصر والشام ، إن لم تكن فاقتهن في ذلك الشرف ، وسيظل التاريخ يحفظ للقدس ولأبنائها وعلمائها وطلبتها هذه الميزة التي تجعلها متألقة في قلوب ملايين العرب والمسلمين .
المراجع :
1.عبد المهدي ، عبد الجليل حسن ، المدارس في بيت المقدس في العصرين الأيوبي والمملوكي ، مكتبة الأقصى ، ج1 1981م ، عمّان الأردن .
2. عبد المهدي ، عبد الجليل حسن ، الحركة الفكرية في ظل المسجد الأقصى في العصرين الأيوبي والمملوكي ، مكتبة الأقصى ، 1980م ، عمّان الأردن .
3. الدباغ ، مراد ، بلادنا فلسطين ، الديار المقدسية ، ج1 .
4. الحموي ، ابن واصل ، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ، تحقيق حسنين محمد ربيع ، مطبعة دار الكتب ، 1977م .
5. الحنبلي ، مجير الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن ، الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل ، مكتبة المحتسب ، 1973م ، عمان الأردن.