الشِعر العربي بين التراث والحداثة
التراثية والحداثية تصنيف زمني غير منطقي وغير مُنصف للشِعر العربي، فالزمن متغير، ومعيار الحداثة والقِدم متغير أيضا، فالحديث سيصبح قديما، والقديم كان حديثا في عصره، وليس من المنطقي رفض النص الشعري أو قبوله نظرا لـقـِدمه أو نظرا لحداثته، ولا بد من اعتماد معايير أخرى، كأنْ يُنظر إليه مِن حيث مدى استجابته للشروط الأدبية الأساسية: كالسلامة اللغوية، والوزن والإيقاع الموسيقي، والعاطفة الجامحة، والانفعال الداخلي، أو ما يسمى بالتجربة الشعورية للشاعر، والمشاركة الوجدانية، والقدرة على التأثير في المتلقي، ومخاطبة عقول الطبقة المثقفة من الناس، وإحداث خلخلة في المفاهيم والقيم السائدة في المجتمع، لأنّ الشعـر منذ القِدم صاحب رسالة وهدف، فمنذ العصر الجاهلي كان الشاعرُ ساعيا بشعره للدفاع عن قبيلته والذود عن حماها، كما كان مُعبّرا بحرارة وصدق عن خلجات قائليه، فالشعرُ بوصلتـُه القلبُ وأحاسيسُه.
وإذا كان لا بد مِن تجنـّب المباشرة في الشِعـر فلتكن بقدر معقول، ولا تصل حدّ الإغراق في الغموض، وتكون بهدف تحدّي عقلية المتلقي واستثارتها، وألا يخلو النص من إشارات ومفاتيح تقود إلى المقصود وشوارد المعاني، فإنْ كان المتنبي يستمتع بانشغال الناس في تفسير ما يكتب لقوله: «أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الناس جرّاها ويختصموا» فإنّ شعرّه لم يكن مُغلقا ولا طلسما. وكذلك الحال مع الفرزدق الذي كان يُردّد: «لنا أنْ نقول ولكم أنْ تتأوّلوا» . والحال ذاته مع أبي تمام الذي قيل له: «لماذا تقول مالا يُفهم» ، فيجيب: ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟. نعم هؤلاء هم أعلام الشعر العربي، ومع ذلك كان شِعرُهم مقروءًا ومفهومًا لدى طبقة المختصين بالأدب، وهذا أمرٌ ملموس إلى حد كبير لدى كثير من روّاد الشعـر العربي المعاصر، من أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، ومن ترسّمَ خطاهم كمحمود درويش، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وأمل دنقل وغيرهم.
إنّ كثيرا مِمّا يكتبه مَن يحلو لهم تسمية أنفسهم بالحداثيين ليس إلا غمغمات وتهويمات نثرية منغلقة على نفسها، تخلو من الوزن والإيقاع والمشاركة الوجدانية، وتتخذ من الـرمزية قناعا لها تتستر وراءه، ومِن الأسطورة زخرفا ثقافيا تتزيّن به، وفوق ذلك يختلق هذا النفـرُ مِن الكـُتـّاب خصومة مع غيرهم مِمّن يكتبون الشعري العمودي، وينعون عليهم ما يكتبون من أوزان وقوافٍ، وما يفيضون به مِن خيال وصُوَر، وما يجيشون به مِن عواطف وأحاسيس، مُعتمدين ما يقوله النقاد الغربيون في هذا السياق، ومُردّدين أسماءَ بعضَ أؤلئك النقاد في كل مجلس؛ كشاهد على ثقافة التغريب التي يمتلكونها ولا يمتلكون سواها. وكم يكون مثيرا للدهشة ما يراه بعضُ هؤلاء مِن أنّ قصيدتـَه لا ينبغي لها أنْ تـُسْلـمَ نفسَها لقارئها إلا بشق الأنفس.! تـُرى لمن يكتبُ هؤلاء إذن؟! وكم يكون مُتكلـَفا ما يراه آخرون مِن أنهم يريدون نصّا مُغلقـًا شرسا يَعْـركـُهم ويعـركونه، ولا يريدون نصا طيّعا سهل المنال. تـُرى ماذا يَـرى هؤلاء في قراءة الشعـر؟ أهيَ سياحة ثقافية تفضي إلى مُتعة وارتياح، أم إنّها معـركة تـُستنزفُ فيها القوى والطاقات؟!
إن التطوّر سُنـّة الحياة، يُصيب كل مناحيها بما فيها الأدب، ولا يقول أحدٌ ببقاء المنهج الشعري العربي الذي ساد حياة العـرب منذ العصر الجاهلي على حاله، فقد طرأتْ عليه عبر العصور محاولات مِن التجديد في المقدمة الطللية، وفي تنوّع القوافي، وفي وحدة الموضوع، وفي التلاحم العضوي بين أجزاء النص، وتداخل أجزاء الصورة الشعرية. وأبدع َ الأندلسيون في شِعـر التوشيح، وتأنــّقَ المَهجريون في تنويع القوافي والصور، وأجادَ كثير من المعاصرين شِعرَ التفعيلة. ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التجديد مع المحافظة على العلاقة بالتراث الذي يُعدّ الجذور الراسخة للشعـر العربي، ويمثـّل العلامة البارزة في حياة العـرب، ولكنّ ذلك لم يصل إلى حدّ التمرد، وقطع كل الصلات بالماضي الأدبي والتاريخي للأمة العربية.