

مقاربة في رواية (الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي) للروائي الطاهر وطار
مغزى المــــــــــكان.....؟
كم هو مفيد أن نتواصل مع الروائي ـ طاهر وطار ـ ونتخذ من ارشاداته مبراسا لاستكناه قيمة العمل الابداعي في عمق جزئياته و تفاصيله. وكم يبدو واثقا الروائي من نفسه في نقد بعض النقاد جازما بقوله ـ انارة للقارىء و الناقد والباحث وخاصة ذلك الذي يقرأ الأعمال الأدبية لهذا الكاتب أو ذاك.. معزولة عن بعضها و عن مسار الكاتب و عن شخصيته التي اكتسبها ، على مر السنين ... الى أن يقول أي فرق بين الالغاء بالذبح على حافة النيل لأديب عالمي وبين الغائه بالكلام السهل في صحيفة أو مجلة ـ بهذه الكلمات المعبرة قدم الروائي ـ طاهر وطار ـ نصه الروائي المعنون ب ـ الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي ـ و تجنبا لأي مساس بشعور الروائي فقد اجتهدت قدر المستطاع في قراءة نصه قراءة حادة و جادة.
فعلا كما أشار الروائي النص الروائي لا يقبل التجزئة المعمول بها في النظريات الحديثة في النقد الأدبي كالغاء المؤلف أو موته كما روج له ـ رولان بارث ـ ومن ثم حصر العملية الابداعية بين النص والمتلقي. وبحكم أن الروائي لم يتوان في اضفاء فكره و عواطفه ومزاجه على ضيق المكان ومن هذا المنطلق سوف نطرح السؤالين التالين : لماذا المكان؟ و لماذا طاهر وطار في هذا الوقت بالذات؟
إن أهمية معرفة المكان و مغزاه يعد متكأ في استقراء قيمة أحداث النص من بعدين مهمين : بعد فني وبعد حياتي . فأما البعد الفني فباعتبار المكان أحد عناصر السرد المهمة في النثر الأدبي مثله مثل الحدث واللغة والشخوص والزمن، وأما الحياتي فيكمن في الذاكرة الجماعية لشعبنا تلك التي عانت الكثير من فقدان المكان حتى غدا الاشتياق الى المكان الضائع ملمحا من ملا مح شخصيتنا.
وقبل الولوج الى النص الروائي ـ الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي ـ والتعمق فيه يجدر بنا معرفة الروائي أدبيا و فكريا من خلال مساره الابداعي فمن يكون الروائي ـ طاهر وطار ـ ؟.... طاهر وطار ذاكرة مثخنة بالجراح .. ذاكرة مثقلة بالمعاناة الجماعية و الفردية قضى ردحا من الزمن على دروب الاقصاء و التهميش و الخيبات فهو الشاهد و الضمير.... وصاحب التجربة الغنية التي عرفت المنعطفات و التحولات من كتابة القصة الى كتابة الرواية من ـ اللاز ـ وـ رمانة ـ إلى ـ زلزال ـ وـ الحوات والقصر ـ.. إلى ـ الشمعة والدهاليزـ...... بل من الأفق المسدود لمجتمعه بعد أحلام البناء والتشييد الى الاغتيالات الجماعية و الفردية في زمن سبق التصور و التصميم... في زمن الجريمة الكاملة. والنص الروائي ـ الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي ـ ما هو الا صرخة تلفت الانتظار الى خلل موجود دون شك و تمزق حاد عاشه الروائي نيابة عن شعبه أين يكمن هذا الخلل إذن؟ ما هو هذا التمزق؟ وهو ما نحاول الاجابة من خلال تقفينا لأحداث النص وأبعاده المكانية؟
يتكثف المكان بشكل رهيب في مخيال الروائي، حيث يجمع في نضج قيمته الفنية بين التعدد و التنوع و خاصة مدلولاته الرمزية ـ كالولي الطاهر ـ الذي يتحول في خاتمة الرواية بعد فك شفرته الى الترميز لعودة الضمير الجماعي وـ المقام الزكي ـ للترميز لطهارة الوطن بتضحيات دماء الشهداء الزكية والرايس حميدو إلى الجريمة الكاملة و القصور الخاوية إلى غياب المشروع الثقافي الأصيل و ـ بلارة ـ إلى جميل تراثنا من عادات وتقاليد.
وكل حيز من هذه الحيزات نجده يؤدي وظيفته كاملة غير منقوصة وكأن الروائي يريد أن يقول أن الشخصية دون مكان هي شخصية تسبح في الفراغ لذا غدا المكان هوية لكل شخصية و في هذه اللوحات المتعددة والمتنوعة يتخذ المكان من الأحداث أبعادا خيالية فنحن مثلا حينما نقرأ اسم ـ بلآرة ـ من منظور الذي رسمه لها الروائي تعود بنا الذاكرة الى الماضي إلى ـ بلارة ـ ابنة الملك تميم بن معز زوجة ناصر بن عناس بن حماد الذي سرت اليه في عسكر من المهدية حتى قلعة بني حماد يقول الروائي ـ بلآ رة تفتخر في حضرة الولي الطاهر.... ابتنى لي قصرا منفيا سماه باسمي لذا ما أن يقوم قصرا في أي بر كان إلا وكنت سيدته الأولى والأخيرة ـ وما يستشف من هذا المقطع أن عشق المكان يبدو واضحا الى درجة صارت فيه شخوص الرواية جزءا من المكان أو المكان كله فنحن مثلا حينما نزور آثار قلعة بني حماد ونقف على أطلال قصر ـ بلارة ـ نكاد نحس بنبضات الحياة به نتيجة الحنين الذي يشدنا اليه ..... زمن الشموخ و العزة وحينما نعود بذاكرتنا الى راهننا فاننا لا نجد مفر من طرق السؤال التالي : ماذا بقي من من بلارة الجسد والذاكرة بعد عشرة قرون ـ 1007 الى 2007 ـ انه لم يبق من منها سوى مكان أطلال القصر الذي سمي باسمها.
إن المثل الرائع الذي صوره لنا الروائي في هذه اللوحة الفنية الجميلة والتي يجمع فيها بين الماضي والحاضر وبين القوة و الضعف وبين الحياة والموت..... و كأنه بذلك يريد التأكيد على علاقة المكان بشخوص النص الروائي وكيف غدا المكان الضائع ملمحا من ملامح شخصيتنا .....
إن الحضور القوي للمكان بالنص الروائي له ما يبرره من منطلق اثبات الوجود لشخوص الرواية أو ربما لقيمة المكان في حد ذاته و الأرجح أن للحالتين معا مدلولهما من ناحية الضرورة وليس الخيار وهو ما يفسره ـ غاستون بشلار ـ عند حديثه عن جمليات المكان بقوله ـ في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن الاستقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان ـ بهذه الأسطر القليلة يشرح ـ غاستون ـ الرؤية الإنسانية للمكان. فالمعرفة ترتبط بتتابع تثبيتات في أماكن تبدأ منذ لحظة الخلق الأولى حيث يتمثل المكان الأول الجسد مكان الروح ثم تستمر الحياة البشرية عبر عوالم الأمكنة عوالم الأشياء و قد اكتسب المكان لارتباطه بالإنسان معاني عدة... لقد غدا البيت ركننا في العالم وإنه كما قيل مرارا كوننا الأول ودونه يصبح الإنسان كائنا مفتتا البيت الجسد الروح انه جسد لأنه شكل مادي وروح لأنه غدا معاني وعواطف ولما كان الإنسان عالما غنيا بالمشاعر والعواطف والعلاقات انعكس ذلك كله على مكانه فتشابكت العلاقات وهو ما نحاول رصده على امتداد تفاصيل النص الروائي .
وقصد التمكن من استجلاء العلاقة المؤسسة بين الشخصية والمكان في سياق التعدد والتنوع داخل المكان وخارجه فاننا نلمس ذلك في كيفية تنسيق عناصر السرد وما يسايرها من توازن فنيا كتوظيف الحدث و اللغة و المكان والزمن و الشخوص و كأنه بذلك الروائي يريد التأسيس لنصه بالمكان أولا بقوله ـ توقفت العضباء فوق التلة الرملية عند الزيتونة الفريدة بهذا الفيف كله قبلة المقام الزكي المنتصب هنا وهناك وعلى بعد ميل بشكله المربع وطوابقه السبع بحول الله وحمده ها نحن من جديد نرجع إلى أرضنا شدد على كلمة أرضنا كأنما يريد أن يؤكد أنه لم يكن يدري بالضبط أين كانت غيبته كل هذا الوقت ثم ينزل فيصلي ركعتين تحية لله و تحية للأرض وتحية للزيتونة ثم أولا و أخيرا لمقام الزكي ـ ومن هذا المقطع أيضا يتجلى لنا على ما يبدو معاينة المكان و تحديده من لدن الولي الطاهر ومع ذلك يبقى المكان مضطربا وفي كثير من الأحيان يتحول الى سراب أثناء عملية التحليق والاقلاع و الهبوط في حيز النص الروائي وهو ما يشير إليه الروائي صراحة... وفي حيز النص الروائي أيضا بعد دخول الشخصية المحورية للنص في غيبوبة و السؤال الذي يطرح نفسه امام اختفاء المكان الذي لا يثيره الروائي اعتباطيا ان الغاية من ذلك هو الاعلان عن أزمة في نسيجنا الاجتماعي ويشير إلى نتائج هذه الأزمة إلى مكان مذبحة ـ الرايس حميدو ـ المكان الذي اقترنت به مذبحة ما زالت لم تمح من ذاكرة أغلبية الجزائريين لحدة بشاعتها والتقزز من صورها المرعبة فكما يقول ـ البير كامو ـ : إننا لفي زمن سبق التصور والتصميم في زمن الجريمة الكاملة ـ
إن البراعة الفنية التي وظفها الروائي في تصويره للأمكنة.. أنه جعلها تضطرب وفي كثير من الأحيان تختفي و تتحول الى سراب مرده ولوج الروائي الى المذهب السريالي والتعمق فيه فمثلا في سرده و خاصة عند انتقاله من الخاضر الى الماضي في افق مخياله اللامتناهي نجده يمزج بين العقل الواعي والعقل الباطن ومن ضرورات هذا المزج ـ كما هو متعارف عليه في المذهب السريالي ـ أن لا يخضع الكاتب والشاعر والفنان لأصول المنطق والتفكير المعقد السليم .. وذلك لأن من أهم قواعد السرياليزم أن تتغلب سمات العقل الباطن وصبغته على سمات العقل الواعي وصبغته في عملية المزج بين تجارب كل منهما في رواية الروائي أو قصة القاص أو قصيدة الشعر أو صورة الرسام ـ وهو ما نتحسسه ونعيشه في أغلبية فصول الرواية فعلى سبيل المثال لا الحصر أن الروائي نجده كلما اصطدم بالمكان لا يحكي وقائعه بتجارب العقل الواعي بل بتجارب العقل الباطن وكأنه بذلك يريد أن يبصرنا بحقيقة في غاية الأهمية مفادها التمرد على الموروث باجتهاداته الحالية التي عمقت الخلافات وليس الاختلافات في مجتمعنا وما انجر عنه من انقلاب على سلم القيم الاجتماعية الذي نجم عنه دخول البلاد والعباد في نفق مظلم ومما انجر عنه من اغتيالات .....
إن توظيف المذهب السريالي من الروائي وفي هذا الوقت بالذات له ما يبرره كون الروائي يعيش الأزمة بصدق وعمق والشاهد على ذلك الخلفية التاريخية لمذهب السريالي الذي ظهر في ظرف جد حساس بعد الحرب العالمية الأولى حينما أعلنت مجموعة من الفنانين ـ أن كل شيء لا شيء ـ وكأن ذلك اليأس الذي استبد بالقلوب خلال تلك الحرب القاسية ومن ثم مضوا يدللون بأعمالهم على صدق هذه التسمية السريالية على نحو ما عرفها ـ أندريه بريتون ـ في بيانه الأول الذي صدر عام 1924 الذي لخصه في : التعبير عن خواطر النص في مجراه الحقيقي ثم الإيمان بسلطان الأحلام المطلق والعمل على إحلال هذا المذهب مكان كل مذهب آخر في حل الجوهر من مشكلة الحياة ـ وهو ما حاول الروائي إسقاطه على نصه ليعلن أنه الشاهد والضمير لما وقع ويقع في دوامة العنف التي اجتاحت البلاد والتي أثارت الكثير من التساؤلات بالنص الروائي فمن نحن حتى تستفحل الجريمة الكاملة بيننا؟ مثل هذا السؤال نجد الروائي يحاول البحث له عن إجابة في ذاته ـ رأيتني ممزقا بين أنا وبين غيري نصفي ممتلئ بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي الشريف وابن عربي والمتنبي والجاحظ والشنفرا وأمرؤ القيس وزهير بن أبي سلمة ومحمد عبد الوهاب ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني والنصف الآخر ممتلىء بماركس وأنجليز ولنين وسارتر وغوركي وهيمغواي وهيجل و دانتي ونصف روحي لي ونصفها الأخر يسكنها غيري حاولت استعادة أنا نصف أنا الضائع فما افلحت حاولت التخلص من الآخر فأخفقت ـ الروائي أيضا من خلال هذا المقطع يوحي لنا بأن المكان لا يقتصر على الجماد والاشياء بل يتعداه إلى جسد الإنسان حيث يصبح الجسد مكان للروح التي تسكنها كل ثقافات العالم وتجربة الروائي أيضا تنبهنا أيضا الى عدم مغالطة أنفسنا... كأن نعيش في جزيرة معزولة عن العالم الآخر بل يجب علينا أن نتواصل قصد الالتقاء بالطرف الآخر لتعايش معه.
و يجزم لنا الروائي بأن الاجتهاد الحقيقي في اجتهادات المروث الراهن يبدأ من هنا وحيث مكمن الخلل؟ كيف الجواب نجده في أماكن متفرقة بالنص الروائي وهذه بعض العينات كالاعتراف بأن الأزمة التي نعيشها لا تتعلق بأزمة ضيق المكان انما مردها الى الاحساس بالغربة المرهقة و القاتلة...؟ لأنه عندما لا يسود العدل في اقتسام المكان بين البشر و يصبح هذا المكان حكرا على البعض دون الآخر فحتما تحدث الأزمة و يصول الارهاب و يجول....؟ وفي خاتمة النص يحاول الروائي التساؤل من خلال الشاعر ـ عيسى لحيلح ـ هذا الأخير الذي ركل الجامعة التي كان استاذا بها و فضل البندقية عن شرف الكلمة و نبل المعنى و دفء الحياة و صعد الى الجبل لسبب واحد هو البحث عن مكان و دائما ومن خلال محاورة الروائي للشاعر بغية تذكيره بأنه لم يخلق لهذاالعمل الشاعر يجيبه ـ وفر لي مكانا به لقمة خبز وجرعة ماء ونسمة هواء....؟ ـ وأمام هذه المعضلة تبقى الشخصية المحورية ـ الولي الطاهر ـ هي الحل أي بمعنى آخر المصالحة مع الذات ومع الآخر والمقام ـ الولي الطاهر ـ حيزا للتسامح و التعايش ما دام هذا المكان يتسع للكل عكس منطق سارتر ـ ان الإنسان بطبعه شرير ولا يتوفر إلا على غريزة الشر فهو حينما يحسن على من حوله من المحتاجين يخول اليه أنه يتصدق و الحقيقة أن يبعد الشر عنه والذين يستقبلون صدقته هم بدورهم في الحقيقة أيضا يخففون من روعة شرهم إزاء المسحن الى حين ـ
خلاصة الخلاصات التي يمكن لنا استخلاصها من النص أن الروائي أضفى بفكره ومزاجه وعواطفه على المكان أو من خلال شخصيات روايته عبر فعل المطاردة والمشاكسة والحوار لكثير من الأمكنة بعدسة قلمه الفائقة البراعة في الرصد و التصوير حتى لا يكاد القارىء التجريبي يذهب في تفسيره و تأويله الى الظن أن للمكان عواطف ومزاج تجمع بين السلم والعنف، بين الخير والشر ، بين الحقد والتسامح ، بين الحكمة والتهور وبعبارة أدق فقد بدا المكان بسيطا ببساطة شخصايته، حيوي بحيويتها، معقدا بتعقيداتها فهو لا يستقل ولا ينفصل عن شخوص النص الروائي.... بل المكان عند الروائي بعيد عن الجفاف العاطفي قريب من الروح الإنسانية .