معايير القُرون الأُولى!
(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)
سألتُ (ذا القُروح) في المساق السابق عن سبب أحكام النحويِّين القاطعة على استعمالٍ لُغويٍّ ما بالصِّحَّة أو بالشُّذوذ؟
وما معيارهم في هذا وذاك؟ فقال:
– معظم معايير الثقافات الاتباعيَّة القديمة تنطلق من معيارَي (الكثرة والقُوَّة). فالأكثر هو الأصح، والأقوى هو الأصلح. ألم تر كيف ردَّ «القرآن الكريم» هذه العقليَّة في الثقافة العَرَبيَّة وغير العَرَبيَّة، مُبْطِلًا معاييرها، المعوِّلة على (الكَم) لا على (الكيف)؛ فجاءت الآيات: «قُل لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيث»، «وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا، وَلَوْ كَثُرَتْ»، «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين»، «كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة»، «كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا... أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُون»، «قَالُوا: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ...»، «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ، فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ؟ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثَارُوا الأَرْضَ، وَعَمَرُوهَا، أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا...».
– ما علاقة هذا بالنحو؟ إنَّما سألتك عن معايير النحويِّين في تفضيل لُغة على لُغة، أو صيغة على أخرى!
– عِلَّة العِلل ثقافيَّة في الأساس. فلقد كان النحويُّون، واللُّغويُّون كذلك، يستقرؤون العَرَبيَّة في نطاقٍ ضيِّق، جغرافيًّا وتاريخيًّا، ثمَّ يقفزون لإطلاق أحكامهم العشوائيَّة التقليديَّة، بأنَّ ما وجدوه أكثر هو الفصيح، قولًا لا مثنويَّة فيه، وما وجدوه أقل، هو الشاذُّ المنبوذ. وهذا منهاجٌ غير صالح، ترتَّبت عليه أحكامٌ خاطئةٌ جائرة؛ ذلك أنَّ ما وجدوه أكثر: له معنًى بلاغي، وما وجدوه أقل- إنْ صحَّ أنَّه قليل- قد يكون له معنًى بلاغيٌّ آخَر، كما تقدَّم في حكاية بيت (جرير): «تَـمُرُّوْنَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا »، غير أنهم لا يلتفتون إلى هذا، أو بالأصح لا يدرِكونه.
– وكيف يُدرِك الأعاجم منهم بلاغة اللِّسان العَرَبي، مهما بلغ عِلمهم وفضلهم؟!
– لذا، كما رأيتَ في المساق الماضي، زعموا أنَّ استقراءهم أفضى إلى أنَّ أكثر ما سمعوا من كلام العَرَب على: «مَرَرْتُ بكذا»، فحكموا بأن تلك هي لغة العَرَب الصَّحيحة الفصيحة، وأنَّ صيغة «مَرَرْتُ كذا» شواهدها أقل؛ قالوا: إذن، هذا القليل غير فصيح ولا صحيح، بل هو شاذ، يُحفَظ ولا يُقاس عليه. فجعلوا الكثرة- بحسب استقرائهم المحدود أصلًا- معيار العَرَبيَّة العَرْباء!
– وما دليلك على خَطَلِهم؟
– دليلي بقاء الصيغتَين معًا في اللَّهجات العَرَبيَّة، واللَّهجات لم تخترعهما. بل قبل اللَّهجات فإنَّ الشاعر (جَرير بن عطيَّة، -110هـ= 728م) كان يستعملهما، كلَّ واحدةٍ في مقامها التعبيريِّ المناسب. ولكلٍّ منهما سياقها الخاص، بما يحمله من فارقٍ دلاليٍّ بلاغي؛ ومن ثَمَّ فإنَّ ما تقرَّر، تحت قاعدة (اللَّازم والمتعدِّي من الأفعال)، قد ألغَى ذلك الفارق البلاغي، خالطًا الحابل بالنابل، مُعلِيًا ما زعمَ أنه (اللُّغة العالية)، بل الصَّحيحة، مُبطِلًا ما عداه، وأضاع بذلك وُجوهًا من بلاغة الأساليب.
وعلى ما حدث في هذه المسألة يمكن قياس سائر المسائل. وهو ما يتطلَّب المراجعة الشاملة والدقيقة، في ضوء لغة العَرَب التي ما زالت حيَّة على الألسنة، مع الموازنة بين دواوين الشُّعراء المحقَّقة وشواهد النُّحاة، بعيدًا عن عقائد تقديس الأحبار والرهبان من القدماء.
– أجل، لقد جُعِل النحو عِلمًا رياضيًّا منطقيًّا.
– وما كذلك اللُّغة، بوصفها فنَّ تعبير. ثمَّ جاء رفض النُّحاة بعض أساليب العَرَبيَّة، بحُجَّة أنهم لم يسمعوها، ضِغثًا على إبَّالة. وهم لم يسمعوها من حيث كان استقراؤهم محدودًا جِدًّا، ونمطيًّا جِدًّا أيضًا. بل كانت قدراتهم البحثيَّة والمنهاجيَّة أضعف بكثير من الإحاطة بالعَرَبيَّة واتساعها في جزيرة العَرَب، وهم غالبًا يتجادلون حولها في (العراق) أو بلاد (فارس).
– ولعلَّ الرفض أحيانًا لأنَّ تلك الأساليب تتصادم مع نظريَّتهم المنطقيَّة التي أزمعوا سَلَفًا فرضها فرضًا على اللِّسان العَرَبي.
– وهكذا صودر الكثير من طاقات اللُّغة، التي ربما اكتشفت بقاياها اليوم في بعض الشِّعر العَرَبي القديم، أو «القرآن الكريم»، أو لهجات الجزيرة العَرَبيَّة. وما رأيناه في هذه المناقشة لا يعدو نموذجًا من نماذج، تبلورت عبر العصور في الثقافة الاتباعيَّة المرسِّخة لمدرسة: (قُل، ولا تَقُل)!
– تعني كقولهم المكرَّر، مثلًا: «قُل: (مُصادَفة)، ولا تَقُل (صُدْفَة)»!
– مثلًا، مع أن معنى (صُدْفَة): (فَلْتَة)، لا (مُصادَفة)، وهو الأمر يقع من غير توقُّع أو تخطيط، أمَّا المُصادَفة فتكون في التقابل؛ فحين تُقابِل أحدًا مُصادَفةً، على سبيل المثال، فقد تصادفتما، وتلك مُصادَفة. والعامَّة كذلك قد يفرِّقون، بفطرتهم اللُّغويَّة، بين المقامَين.
– (بدر بن عبدالمحسن) يقول:
متى الشوارع تجمع اثنين صُدْفَةْ ::: لا صار شبَّاك المواعيدْ مجـفي
– ألا ترى هنا أنَّ مفهوم الصُّدْفَة أعمُّ من المُصادَفة التفاعلية بين طَرَفَين؟ بحيث يمكن القول: إنَّ كلَّ مُصادَفة صُدْفَة، وليست كل صُدْفَة مُصادفَة. غير أنَّ العامِّيَّة تستعمل (صُدْفة) لتشمل المعنى بوجوهه. ولقد استُعمِلت كلمة (صُدْفَة) حديثًا لدَى غير واحدٍ من كبار شعراء الفُصحى أيضًا، مثل (أحمد الصافي النَّجَفي)(1) في قوله:
يا حُسنَها صُدْفَةً مِنَ الصُّدَفِ ::: جادَتْ بلُقيـا للشَّاعرِ النَّجَفي
فَتَنَتْ دَهْــرًا بِحُـبِّ شـاعِـرَةٍ ::: هاجِرَةٍ ما وَفَـتْ لخَيْـرِ وَفِـي
– وأيَّان (النَّجَفيُّ) من عصور الاحتجاج؟!
– وهذا هو الأقنوم الثالث في أقانيم التفضيل، مع معيارَي (الكثرة والقُوَّة)، وهو معيار (القِدَم). ممنوعٌ أن يولِّد شاعرٌ أو غير شاعرٍ من عَرَبيَّة ما قبل الإسلام مفردات جديدة. وهذا كما قلنا فتحَ للعاميَّة آفاقًا أُقفِلت أبوابها ونوافذها على مستعمل الفصحى. وهنا أتَّفِق معك- وقلَّما اتَّفقتُ مع أحد!- في أن صيغة المفاعلة (مُصادَفة) مختلفة عن صيغة (صُدْفَة)- على وزن (تُحْفَة)، و(طُرْفَة)، و(فُرْصَة)- وجمعها: (صُدَف). لكن لا يجوز لك التوليد، بل عليك تعقيم اللُّغة، بل تجميدها؛ لكي تُعَدَّ سَلَفيًّا صالحًا. وهم لا يقولون في مثل هذا: مولَّد، وليس من كلام العَرَب القدماء، بل يسارعون إلى تسفيه القائل، ونسبة استعماله إلى: الخطأ، والشذوذ؛ فلا تحرِّك به لسانك. إلَّا أنَّ مثالك هذا في اللُّغة، وحديثنا كان عن النحو.
– ما أشبه هذا بتلك، وتلك بهذا!
– صحيح، وهما مادَّة واحدة. فلنَعُد إلى القول: إنَّ بعض قواعد النحو قد تتناطح مع الشِّعر الجاهلي تارة، والإسلامي تارة، بل ربما مع بعض نصوص «القرآن»، والحديث النبوي، والأمثال العَرَبيَّة، والخطابة. بَيْدَ أنَّ أرباب تلك المدرسة لا يجدون غير تصنيف القول المخالف لقواعدهم، بغرض نَفْيه؛ فإنْ كان لشاعر، وصموه بالشذوذ، أو قالوا: ضرورة شِعريَّة، وإنْ جاء في مَثَل من أمثال العَرَب، قالوا: يُحفَظ ولا يُقاس عليه، فقد يَرِد في المَثَل خطأ نحوي، كقول العَرَب «أَعْطِ القَوْسَ بارِيْها»، والصواب نحويًّا: «بارِيَها»، أمَّا إنْ وردَ من ذلك شيء في «القرآن»، فتلك الطَّامَّة الكُبرَى، ولا بدَّ من التماس تخريج احترافيٍّ هاهنا، بما يجعل النصَّ مسالمًا للقواعد، أو بتأويله تأويلًا بعيدًا، وسيُعَدُّ في معظم الأحوال من قبيل (مُشْكِل القرآن)، أو متشابهه- زاعمين، مثلًا، أنَّ (إنَّ) هي: (إنْ)- على الرغم من أنه نزلَ بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين، غير مُشْكِل، فليس من قبيل «الفوازير»، وإنْ خالف النَّمَط السائد (بزعم الاستقراء البدائي خلال القرون الأُولى)، وقد فهمه عَرَب الصدر الأوَّل، ولم يُثِر لديهم اعتراضًا، أو استشكالًا.
– لأنهم لم يكونوا نحويِّين! طيِّب، ماذا أنت صانع بكلِّ ذلك اللتِّ والعجن التراثي الذي بَشِمت به القُرون؟
– إذا كنتَ تهدف إلى أن تعرف قواعد النحو فقط، لا سفسطات النحويِّين، فعندي لك الكتاب، أو بالأصح الكُتيِّب.
– هات!
– كُتيِّب في نحو أربعين صفحة فقط، هو «الجُمَل»، لـ(عبد القاهر الجرجاني، -471/ 474هـ= 1078/ 1081م).
– كتاب غير مشهور.
– طبعًا غير مشهور، ولا حواشي له ولا أمعاء، وعدم شهرته لسببٍ لا يخفى. لكن لحُسن الحظ أنه مطبوع، بل ستجده اليوم على شبكة «الإنترنت». وإنْ كان في حاجةٍ إلى مَنْهَجَةٍ، وإعادة عرضٍ عصري، ليُغنِي الطلبة عن جدليَّات النحويِّين ومماحكاتهم التي لا تنتهي. ولو فُعِل ذلك لأغنى كثيرًا عن تركات عصور الانحطاط المتراكمة، منذ القرن السابع الهجري فهلمَّ جرًّا إلى اليوم.
– في ليلةٍ واحدة، إذن، سأستوعب النحو كلَّه؟! ماذا عن (ابن عبدربِّه) و«عِقْده الفريد»؟ أم نسيت ما وعدت القارئ به قبل أسبوعين؟
– أَدْوَشْتَنا بابن عبدربِّه هذا!
– «شفيء يا راقل»! الآن كأنِّي بك ستقول لي: كلمة «أَدْوَشْتَنا» عَرَبيَّة فُصحى؟
– نعم! راجع- إذا شِئت- مادة (دوش)، في معجمات اللُّغة، وإنْ حوَّلتْها الدارجة المِصْريَّة من تَشَوُّش البَصَر إلى تَشَوُّش السمع.
– وربما لم تحوِّلها الدارجة المِصْريَّة، بل أَهملت المعنى السمعيَّ وراءها كتبُ اللُّغة.
– احتمال وارد، بل لعلَّه راجح. «ولكنْ ضاقَ فِتْرٌ عن مَسِيْرِ!»
– ماذا تقصد؟
– أقصد إلى اللقاء في المساق المقبل!
() (1977)، المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة، باعتناء: جلال الخياط، (الجمهورية العراقيَّة: وزارة الإعلام)، 387.