الأحد ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم أسامة عبد المالك عثمان

مسابقة "أمير الشعراء" تعيد للشعر بريقه

لا يسع المرء إلا أن يسجل إكباره لهذه المبادرة التي أعادت للشعر بعض صلاته بجمهوره بخاصة، والجمهور العربي بعامة، إذ تتعطر مساءات الجُمُع بعبق الشعر، مسبوقةً بترقب جميل، لاستقبال هذا الضيف العزيز الأنيق، عبر شاشة "أبو ظبي" في حيوية عربية افتقدناها، أو كدنا وسط غثّ إعلامي غلب عليه الترفيه، أو الإسفاف أحيانا مدفوعا برياح العولمة العاتية... في برنامج تميز بصناعته المحلية نائيا عن النموذج الإعلامي المستورد، ما يخلق انسجاما بين الشكل والمضمون، فيتلاءم هذا التصميم المسرحي وملامحنا العربية، وقسمات شعرنا العربي الخالد.

وقد أتاحت لنا هذه المسابقة التي تقوم عليها هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، بهذا المشروع الرائد الاقترابَ من جيل الشعراء الشباب الصاعدين في مدارج الإبداع والألق، بنبض شعري عربي، وروح صادقة في الانتماء، باشتباك وشيج بهموم الأمة وانشغالاتها، فقد لملمت تلك الأصوات الصادقة شعث المشاعر الموحدة، ثم اكتنهت النفس الإنسانية، فاستثارت من الوجدان مخبوءه.

فضلا عما تمثله هذه المسابقة من حفز للعملية الإبداعية، بعامة، وشحذ لقرائح الشعراء بخاصة، ما ينعكس إيجابا من الناحية المعنوية والمادية أيضا على حركة الشعر العربي الفصيح التي كادت تخبو في عيون الجماهير، وأذواق العرب، وإن ظلت في الأندية الخاصة، وفي الأوساط النخبوية. وباختصار لقد نجح أمير الشعراء في خلق حالة شعرية ثقافية تتفوق على مجرد منح لقب لشاعر. وقد وسعت دائرة المتلقين للشعر، المنفعلين به، حتى أني أدهش من حرص أطفال لا يتجاوزن الثامنة على متابعة البرنامج وترديد بعض الجمل الشعرية التي استقرت في حافظتهم بتلقائية وبراءة.

ولعل مما يخدم بعض أهداف هذا البرنامج هذه النافذة التي فتحت للجماهير العربية، للتفاعل الإيجابي، والإسهام في تقرير النتائج، وهو ما يتقاطع والنظريات النقدية الحديثة التي تترك للمتلقي فراغا في النص الشعري، يملؤه، فيغدو مكونا من مكوناته، فيهمس في أذن الشاعر بمراعاة دور المتلقي، فلا يغرق في النخبوية والغموض، وإنما يتماهي وما قاله محمود درويش يوما:

قصائدنا بلا لون
بلا طعم … بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
وإن لم يفهم البُسَطا معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن … للصمت!!

نعم، فما سبق وغيره جعل "أمير الشعراء" بحق، حجرا ألقي في مياه الشعر الراكدة، فلا زالت دوائره تتسع في كل قطر عربي.

كما كانت هذه المسابقة فرصة لاقتراب أكبر من كبار أساتذة النقد في المشرق والمغرب الذين يثرون _ بمناهجهم النقدية المتنوعة، وبخبرتهم في التعاطي مع الأجناس الأدبية والشعر، وبثقافاتهم النقدية العميقة _ متلقي الشعر والذواقة العرب، ويرفعون منسوب التلقي، ويضعون، كما ذكر الدكتور علي بن تميم القارئ والمتلقي العربي في السياقات الشعرية الجديدة التي لا بد منها حتى يتم التواصل مع الحركة الشعرية الحديثة.

وفيما يتعلق بالشعراء يظل هاجس اللقب يشغلهم، وحُق لهم ذلك، بيد أنه لا يجيز لهم أن يوغلوا في الصنعة والتفصيل على مقاسات متباينة فيظهر الشاعر في نصه مراعيا منطلقات نقدية متباينة، ليرضي أكبر عدد من أعضاء لجنة التحكيم، والجمهور، وإن كان لا يلام الشاعر على المزاوجة والتحديث، لكن دون أن يسمح بظهور أثر التصنع والجهد. يقول محمود درويش: "في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضجة. أما ما وراء ذلك فلا ". كما أن الأنسب للشاعر أن يكتب وفق تكوينه الشعري الخاص الذي يتقنه ويحوزه، فليس بوسعه أن يكون أحدا سواه.

وسيكون النقاد في المرحلة الأخيرة مضطرين إلى أن يغتدوا أكثر علمية، متحللين من قيود المجاملة التي كانوا يراعونها أحيانا، ونتفهمها... دون الوقوع في أحكام نقدية تزدري الشاعر... اتساقا وما صرح به عبد الملك مرتاض: "ولم تكن الغاية من وراء هذا المهرجان العديمِ المثالِ إلاّ تربويّة قبل كلّ شيء، تأخذ بأيدي الشعراء الشباب نحو الغايات، وترتفع بالذائقة الشعريّة، لدى الجمهور بعد أن فقدَها، إلى المستوى المطلوب. ولم تكن قطّ من أجل أن يستعرض النقاد عضلاتهم على الشعراء فيتفيْهَقون عليهم تفيهُقاً، ويتشدّقون عليهم تشدّقاً."

غير أن الشعراء الشباب يجب أن يتقبلوا النقد، ويوطنوا أنفسهم على أنه محاولة للارتقاء بالعمل الأدبي، وأن تلك الأحكام النقدية ليست نهائية، ولا مقدسة فهي آراء قد يأخذ الشاعر بها، وقد لا يجد نفسه مضطرا إليها.

ومع اقتراب البرنامج من مرحلته الأخيرة تنحبس الأنفاس، وتتطلع إليه ملايين العرب في إثارة وتوحيد على مائدة الشعر العربي الذي يشغل في الوجدان العربي مكانا مكينا. ويحتضن من اللغات أشرفها، ومن المعاني الإنسانية أسناها، ومن المشاعر أرقها وأصدقها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى