محمود البدوى وطه حسين
جاء محمود البدوى من الصعيد فى العشرينات من القرن العشرين بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية ، جاء إلى القاهرة ، والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية .. ويقول :
" والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو لغة عربية .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام [1].
وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ، ويستعمل لفظة غليظ فى اسراف .. وتبسم الشيخ شتا .. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن " عذاب غليظ " فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ .. [2]. وأنه كثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده [3].
نجح محمود البدوى فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها .. ويقول :
" وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها ، سألنا الأستاذ ، ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة [4] ..
سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة " بوفون " الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب " .
سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف " المنفلوطى " وعباءة الزيات " فقلنا المنفلوطى والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ـ وطه حسين ..؟
فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على اسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى .. والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. هم بلغاء العصر فى نظرنا وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب.
ويقول البدوى فى حوار معه نشر بصحيفة الجمهورية فى 25|12|1975 " تأثرت بالرائد طه حسين .. أقدس فكره " .
ولما صدرت مجلة الرسالة ، وانتقل البدوى من السويس للعمل بمقر وزارة المالية فى القاهرة .. يقول :
" كان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما .. الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا نكتب المقال والقصة والشعر [5] والزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و " طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة [6].
وفى 25 مارس 1953 تأسس نادى القصة فى مصر وتولى رئاسته الدكتور طه حسين ، والأستاذ الأديب يوسف السباعى سكرتير النادى وكان مقر النادى فى ذلك الوقـت فى ميـدان التحرير .
ويقول البدوى :
" كان استاذنا توفيق الحكيم يحضر بعصاه وغطاء رأسه وعلى وجهه الصمت والتأمل ، كما كان يحضر فريد أبو حديد .. ويحيى حقى .. واحسان عبد القدوس صاحب فكرة النادى ، وهو الذى عندما راودته الفكرة عرضها على يوسف السباعى فنفذها هذا سريعا بطريقته التى لايشوبها التردد " .
" حملت معى إلى نادى القصة ذات مساء مجموعة قصص صدرت لى حديثا " حدث ذات ليلة " [7] وكان فى النادى طه حسين .. وتوفيق الحكيم .. ويوسف السباعى .. وعبد الحميد السحار .. وغراب .. فأهديت نسخة إلى طه حسين ومثلها إلى توفيق الحكيم .. وتركت الثلاث نسخ الباقية على مكتب يوسف السباعى .
وفى الأسبوع التالى .. جاء الدكتور طه إلى النادى وسلمت عليه مع المسلمين ، وبعد أن استراح قليلا أخذ يتحدث عن قصص المجموعة .. ويلخص كل قصة فى ايجاز فيه كل اللمحات الإنسانية .. مع التركيز على لب القصة ومحورها .. وقد شكرته فى خجل شديد .. وأنا مذهول من هذه الذاكرة الفذة .. فقد كان يسرد وقائع نسيتها وأنا كاتبها .
ولما صدرت لى " مجموعة العربة الأخيرة " [8] رأى غراب [9] أن أهديها للدكتور أيضا .. فأهديتها له .. وحمل إلىّ أمين فى نفس الأسبوع كتاب " الفتنة الكبرى " للدكتور ردا على هديتى .
وتحدث الدكتور طه بعد ذلك بسنوات فى الإذاعة عن بعض الأدباء وكتاب القصة الجدد ولم أسمعه .. وحدثنى من سمعه أنه عندما أراد أن يذكر اسمى .. كان قد نسيه .. فقال محمود ال .. ال.. البدوى ونطق البدوى بعد ثوان من التوقف .. وكان لقائى الأول مع طه حسين فى النادى كما أسلفت .. واللقاء الأخير فى بيته عندما مرض ، ورأى المرحوم يوسف السباعى أن يجتمع مجلس إدارة النادى فى بيت الدكتور بالهرم ، وكان ذلك فى آخر أيامه رحمه الله [10]" .
وحينما حلت الذكرى السابعة على وفاة طه حسين .. يقول البدوى :
" طه حسين هو أول من فتح عيوننا على الدراسة المنهجية العميقة التى تعرف جيدا كيف تدرس بيئة الشاعر وحياته ومن اختلط ومن تأثر بهم ..
ومثل هذه الدراسة هى الدراسة الحقيقية للأديب والشاعر .
وكان كتابه " الأيام " قمة من ناحية السرد الذاتى للحياة الشخصية ، وإن كنت أفضل لو كان كتبه بضمير المتكلم المباشر ، أى بلسان الراوى ، فيذكر :
أنا فعلت ، أنا عشت ، أنا انتقلت
بدل قوله :
كان صاحبك يا ابنتى ..
لأن هذه الطريقة التى استخدمها أفقدت الكتاب ما يقرب من نصف قوته [11] " .