ما جدوى الكتابة الأدبية؟
ما جدوى كتابة الأدب؟ هذا السؤال الذي لطالما راود العديد من الكتاب والنقاد، قد يبدو في ظاهره بسيطًا ولكنه في جوهره يحمل ذلالات كثيرة. كتابة الأدب ليست مجرد فعل للتسلية أو الترفيه؛ إنها عملية تحمل في طياتها أهدافًا وأبعادًا أعمق بكثير. الأدب هو انعكاس للواقع والخيال، للتجارب الإنسانية، وللمشاعر التي غالبًا ما يعجز المرء عن التعبير عنها في الحياة اليومية. يفتح الأدب أبواب العوالم الخفية داخل النفس، ويمنحنا نافذة لفهم الآخر، بل وفهم أنفسنا بشكل أعمق.
من ناحية، يوفر الأدب مساحة للتعبير الحر. الكاتب يخط أحاسيسه وأفكاره على الورق دون خوف من حكم الآخر. في هذه المساحة، يصبح القلم وسيلة لتحرير النفس، وتظهر تلك المشاعر الخفية التي غالبًا ما تكون مكبوتة. هنا يكمن دور الأدب كملجأ نفسي، يمنح الكاتب القُدرة على التفريغ، وفي الوقت نفسه يتيح للقارئ فرصة لمشاركة هذه الرحلة الشعورية، ليجد صدى لتجاربه الخاصة، ولربما يجد شفاءً لألمه، أو إلهامًا للتغلب على تحدياته.
الأدب أيضًا يسهم في بناء الوعي والتأمل الاجتماعي. من خلال القصص والروايات، نتعرف على ثقافات وأزمنة وأماكن قد لا تتاح لنا فرصة زيارتها. الأدب يسافر عبر الزمن، يحكي لنا عن ماضي الإنسانية ويستشرف مستقبلها، يسلط الضوء على قضايا مثل الظلم الاجتماعي، الهوية، الحرب، والحب. إنه بمثابة مرآة تعكس لنا واقعنا وتطرح علينا أسئلة عميقة حول مفاهيم العدل، الحرية، والكرامة. الأدب يحثنا على التفكير فيما وراء الحاضر، ويشجعنا على رؤية العالم من زوايا متعددة، ويجعلنا نلتزم بمسؤولية تجاه من حولنا، وتجاه الإنسانية ككل.
اللغة الأدبية نفسها تحمل سحرًا خاصًا؛ فالكاتب يستخدم أساليب السرد والوصف لخلق عوالم محسوسة ومتخيلة في آنٍ واحد. تراكيب الكلمات تكتسب قدرة على إثارة المشاعر والأفكار، وتحول المفردات إلى أدوات تعبير قوية. هذا الجمال اللغوي هو في حد ذاته دافع للاستمرار في الكتابة، إذ تتيح للكلمات قوة تأثيرية تصوغ ذهنية القارئ وتغمره في تجارب جديدة.
من زاوية أخرى، الأدب هو حافظة للذاكرة الإنسانية. فهو يسجل تاريخ الإنسان بأبعاد شخصية وإنسانية لا يمكن للتاريخ الرسمي أن يلتقطها بنفس العمق. الأدب يعطينا صوتًا لأرواح لم تكتب لها الحياة أن تُسمع. يتناول قضايا تعبر عن أصوات المهمشين والمظلومين، ويمنحهم الحضور والتأثير. هنا، يصبح الأدب وسيلة لإحياء الذكرى، لمقاومة النسيان، ولتحدي الزمن، ليبقى كل حدث وذكرى في مخيلة الأجيال القادمة.
ولا يمكننا إغفال دور الأدب في بناء التغيير. الأدب يمكن أن يكون وسيلة للمقاومة، للثورة، ولإعادة النظر في الأنظمة والقيم السائدة. العديد من الأدباء كانوا في مقدمة حركة التغيير، سواء كانوا يناضلون ضد الاستبداد السياسي، أو يطالبون بحقوق الإنسان، أو يدافعون عن العدالة والمساواة. الأدب هنا لا يُرضي فقط حاجة للتعبير، بل يصبح سلاحًا ثقافيًا يساهم في تشكيل الوعي الجماعي ويسهم في خلق مستقبل أفضل.
في النهاية، قد تبدو الكتابة الأدبية غير ضرورية لمن يراها من الخارج، لكنها في جوهرها ضرورة أساسية لتحقيق الذات وللتعبير عن الوجود الإنساني. الأدب يعبر عن الهوية ويدفع حدود الخيال ويثري الإنسانية جمعاء. كاتبو الأدب ربما لا يغيرون الواقع بشكل مباشر، لكنهم يساهمون في بناء عوالم جديدة، وفي صقل أرواح الناس ووعيهم. الأدب ليس مجرد حروف على ورق؛ إنه قوة تترجم الحياة، تنقلنا لعوالم لم نكن لنصل إليها، وتساهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا وإنسانية.