![](IMG/img_trans.png)
![](IMG/img_trans.png)
«جارات أبي موسى» لأحمد التوفيق
![](local/cache-gd2/93/decf27e9dc19f5fbb4ebffe1ac786d.webp?1739192682)
استهلال
ُتعد رواية جارات أبي موسى الصادرة سنة (1997) للكاتب المغربي أحمد التوفيق نموذجًا للرواية التاريخية التي تستعيد الماضي بأسلوب سردي يجمع بين الخيال والواقع الموثق. تتناول الرواية حياة المجتمع المغربي في العصر الوسيط، وتسلط الضوء على قضايا السلطة والعدالة ودور المرأة، من خلال شخصيات مركزية مثل شامة (ورقاء) و القاضي أبي سالم الجورائي وقاضي القضاة ابن الحفيد.
البنية السردية والتاريخية
تفتتح الرواية بوصف وصول الخبير إلى مدينة سلا، مما يعكس الطابع التوثيقي للرواية:
"وصل الخبير على ظهر جواد أدهم إلى مدينة سلا وأعلام صلاة الجمعة ترفرف على صوامعها. وبعد أن تحقق حراس باب المريسة من هويته، أذنوا له بالدخول. جرى أمامه غلام من الحراس ليقوده تواً إلى دار قاضي القضاة ابن الحفيد." (ص.5)
يعكس هذا الاستهلال أسلوب التوفيق في الدمج بين التفاصيل التاريخية الدقيقة والتشويق السردي، حيث يدخل القارئ مباشرة في أجواء المدينة بمؤشراتها الزمنية والاجتماعية.
شخصية شامة (ورقاء) ودورها في الرواية
شامة، المعروفة أيضًا بورقاء، تمثل صورة المرأة التي تخوض صراعًا بين قيد المجتمع ورغباتها الشخصية. علاقتها بالقاضي أبي سالم الجورائي ليست فقط علاقة عاطفية، بل تعكس أيضًا مسألة السلطة داخل مؤسسة الزواج، حيث يبدو الجورائي مستعدًا لتقديم كل ما يسعدها:
"عندئذ أحست ورقاء بازدياد محبتها لهذا الرجل الذي لا يبحث إلا عن كل أمر يرضيها ليبادر به." (ص.32)
هنا، يُظهر التوفيق جانبًا إنسانيًا من شخصية الرجل الفقيه، إذ لا يقتصر دوره على الحكم بين الناس بل يسعى أيضًا لتحقيق التوازن داخل بيته، مما يفتح مجالًا للتأمل في علاقة الدين بالمشاعر الشخصية.
السلطة والعدالة من خلال شخصية القاضي أبي سالم الجورائي
القاضي أبي سالم الجورائي يمثل نموذج السلطة الدينية والقضائية التي تحكم المجتمع، لكنه، على عكس الصورة النمطية، يظهر بوجه إنساني يمزج بين الحزم والتفهم. الرواية تطرح تساؤلات حول مدى قدرة القضاء على تحقيق العدل في ظل تعقيدات المجتمع، وهو ما ينعكس في طبيعة الشخصيات المحيطة به وتفاعلها مع أحكامه.
ابن الحفيد ورمز السلطة السياسية
ابن الحفيد، قاضي القضاة، يمثل بُعدًا آخر للسلطة، حيث يجسد تداخل القضاء مع السياسة في المجتمع الوسيط. من خلاله، يكشف التوفيق كيف كانت القرارات القضائية أحيانًا امتدادًا لإرادة السلطان أو القوى المتنفذة. يظهر ذلك بوضوح عندما يسمح السلطان لوالده المخلوع بالانتقال، في مشهد يوحي بهشاشة السلطة أحيانًا أمام الاعتبارات الإنسانية:
"سمح السلطان لوالده المخلوع أن ينتقل من منفاه بساحل المغرب الأوسط ليلقى زوجته في الركب المار بطريق الصحراء، لكن مرضًا شديدًا ألم به وأودى به بعد أيام." (ص.50)
هذا المقطع يعكس التقاطع بين الحكم والقضاء، حيث لا يكون القانون وحده هو الحاسم، بل تتداخل معه المصالح والعواطف.
العلاقات الإنسانية والسعادة العابرة
تمثل لحظة زواج علي وورقاء تتويجًا للحب داخل الرواية، لكنها تحمل أيضًا بعدًا فلسفيًا حول هشاشة السعادة في مجتمع محكوم بالاضطرابات:
"تم الزفاف وانصرف من حضروه وأصبح علي وزوجته في بحبوحة من السعادة." (ص.58)
هذه السعادة، رغم أنها تبدو مطلقة، إلا أنها تحمل في طياتها إحساسًا بالزوال، وهو ما يعكس رؤية التوفيق للحياة كحالة متقلبة بين الفرح والمعاناة.
اللغة والأسلوب
تمتاز الرواية بلغة تجمع بين الفصحى الكلاسيكية والتعبير الأدبي العميق، مع وفرة في التفاصيل التاريخية التي تعزز الإحساس بواقعية الأحداث. ومع ذلك، قد يشعر بعض القرّاء بأن بعض المقاطع تأخذ طابعًا توثيقيًا أكثر من كونها سردًا روائيًا، مما قد يُبطئ الإيقاع أحيانًا.
تركيب
لا تُعد جارات أبي موسى مجرد سرد تاريخي، بل هي مرآة تعكس قضايا لا تزال حاضرة، مثل السلطة والعدالة ومكانة المرأة. ومن خلال شخصياته المختلفة، يطرح التوفيق تساؤلات حول مدى قدرة الإنسان على تحقيق العدل والسعادة في عالم تحكمه المصالح والتوازنات. وبذلك يبقى هذا المنجز الروائي نموذجًا مميزًا للأدب المغربي الذي يستعيد التاريخ ليحاكي الحاضر.
أحمد التوفيق - جارات ابي موسى - منشورات دار القبة الزرقاء - الطبعة الثانية - 2000