قراءة في ر واية’’جراح الروح والجسد’’لمليكة مستظرف
شكل القهر كما المهانة، الصدمة كما الفاجعة إحدى حوافز الحكي لدى مليكة مستظرف..منطلقات مقلقة أضفت على كتابتها السردية عريا جارحا وألما صادما تماما كما هو شأن هذه الرواية..رواية مشدودة البناء بخيط الاغتصاب ،مغموسة في حنين موجع للأمان ورفض صارخ للظلم .تجربة مزلزلة خرجت منها طفلة/بطلة الرواية-المثخنة بالجراح جراء دخول الرجل على خط الجسد المستباح-بقرار تقديم مشروع بناء الذات على أي شيء آخر.وجعلت من حريتها مقياس كل شيء ..بل هي المطلق وما عداها نسبي..فجرحها الراعف وشم باكرا في ذاكرتها صورة الرجل الشبق المسير بالشهوة والمنقاد للرغبة الآثمة..مستشعرة عداء دفينا لكل ما يمس عوالمه.لذلك فالاغتصاب يفتح الحكي على جراح تأبى الالتئام ويكشف مجتمع بكامل عريه أمام صوت الرغبة المرضية.صوت لا يلبث يرتفع ويعلو على كل الأصوات ،فيتراكم وعي الطفلة بخسارة الذات مدى الحياة..
1-الموت والرغبة الآثمة:
مع كل حدث اغتصاب كانت الرغبة على موعد مع الموت المجازي لطفلة لم تتعدى ربيعها الخامس .جسد طلق باكرا براءته واستحال لمسرح مفارق تلتقي على أرضه اللذة بالألم ، الاعتداء الجنسي بالنشوة المرضية ! مخلفة عذابا نفسيا بلا قرار..وقلقا حفر في أعصابها تعبا وإرهاقا لا حدود لهما.فأضحت تكن عداء دفينا للمجتمع بأسره.تحترق في كل لحظة بسبب اكتئابها المزمن مادامت غير قادرة على الغضب من الإساءة والرد على الاعتداء.تقول الساردة في ص7:’’اعترض طريقي رجل أسود..بشع..أركبني دراجته وطار بي ..انتهى بنا المطاف في عمارة نائية ...بطحني أرضا..حاولت المقاومة وكلما قاومت وحاولت التخلص منه ازداد شراسة.وبعدها انتهى.مادة لزجة كريهة بين فخدي،ألم ،شعري أشعث،رجلاي كأنهما مصنوعتان من القطن لا أستطيع الوقوف هو ممدد بجانبي يلهث كخنزير كشيطان.,, إن صدمة الاعتداء والظلم في هذا العمر المبكر ولد لدى الطفلة حالة من الالتباس والعجز في فهم دواعي الاغتصاب ..والذي ضل بالنسبة لها- لحظة الفعل- لغزا مستعصيا على الإدراك!لكن بتقييم الكبار لما وقع! ستتحول حياة الطفلة بسرعة الضوء من بياض الثلج إلى سواد الفحم!لنتأمل هذه القرينة السردية في ص 10:’’تمسكني خديجة وتكوي والدتي فخدي الأيسر .أرتعش ..أرتعش لم أعد أستطيع حتى الصراخ.أنزوي في ركن الغرفة وأبكي في صمت وأمسح دموعي عندما يأتي والدي حتى لا يعرف بالأمر.,, وإذا كانت الطفلة قد حافظت على عذريتها فهذا لم يسحب إحساسها بالنبذ والحقارة.بل إن تركيز الأم بعد فعل الاغتصاب على العذرية علمها أن حياة المرأة يجب أن تبدأ ليلة الزواج وليس قبلها بأية حال من الأحوال.وبذلك فالأم تحطم ابنتها نفسيا بالعنف المتنكر في لباس الحب والخوف على المستقبل الذي يجب الوصول إليه بطهارة جسدية ولا يهم الثمن! وبالتالي فعالم الكبار يقفز عن تشوهات الروح خلافا لتراتبية عنوان الرواية!ومع توالي الفصول يتكرر الاغتصاب وكأنه قدر ..في الفصل الثاني يكون للطفلة موعد مع بقال مرتديا عباءة الفضيلة..عباءة تسقط بمجرد اختلائه بها،كاشفة عن حيوان شبق وذئب بشري يشكو جوعا جنسيا حادا يفقده الوعي والإدراك ..ليتوحد الرجال المختلفون على قاعدة الجنس المشوه،بحيث تعجز القيم والأخلاق عن كبث الرغبة الآثمة، ويصير الموت المجازي قدرا دون أن تقدر الطفلة هذه المرة على التصريح بجرحها مخافة حرائق السيخ وصراصير المرحاض المغلق،لينضاف الاغتصاب الثاني إلى رصيد الجراح المفتوحة.وكان من الطبيعي جدا أن تنقلب الرغبة الجنسية لدى الطفلة إلى نقيضها..إلى قرف وخوف و شعور بالذنب،مع الكره الماحق للجنس الآخر..كره يمتد ليشمل الأب باعتباره امتداد لتاريخ القهر الشرقي .تقول الساردة في ص28:’’يأتي أبي يحاول تحريك قدمي ويدي،لا أستطيع.يحملني بين ذراعيه لا أحس بالأمان بين ذراعيه بل بالخوف .وأتمنى أن أفر منه.,,ليبقى العصاب هو المخرج الوحيد لوضع هذه الطفلة المفجوعة في جسدها ووجودها.تعد أيامها السوداء بلوني الحريق والارتياب ..والرجل يقيم في خلفية اللوحة يرقب،يتربص،ينقض ويحيل كل مخطط إرادي إلى نقيضه ..لنحصل على تطابق مثير بين الذات والخارج حيث عمارة الاغتصاب الخالية والشوارع الباردة صورة لسراديب الذات المهجورة من الأنس.وتطابق تام بين اتساخ الوجدان واتساخ المدينة العامرة بالعهر والخيانة.غير أن الاعتداء الجنسي يصل مداه عندما يأتي من القريب القاطن بذات المأوى ليأتي على ما تبقى من آدميتها،ويجعلها تركن مكرهة إلى الصمت والحلم علهما يسعفان على توازن لحضي!
2-الرغبة والحلم:
إن حالتي الضياع والقلق اللذان فتتا أعصاب الطفلة لم يجدا لهما من مخرج سوى الحلم باعتباره تعويضا لا شعوريا للرغبة المعطلة.فكثيرا ما تقدم البطلة في حالة سفر ذهني إلى أبعد نقطة ممكنة محاولة النأي عن مكان الجريمة وتداعياته النفسية.تقول الساردة في ص18:’’كنت أعشق السفر .أتخيلني وقد سافرت بعيدا بعيدا جدا.أحلم أن لي طفلة أضمها إلي،أمنحها الحب والحب وفساتين كثيرة ولعبا،أبدا لن تكون أقل من الأخريات،لن أنهرها لن أكوي فخديها بل سأخفيها عن كل العيون القذرة.لكن أبدا لا أحلم بزوج لم أكن أستطيع أن أتخيلني عروسا بفستان أبيض،حاولت مرارا تخيل شكل العريس فتراءى لي وجه’’قدور القدر’’أستفيق من حلمي مرعوبة على واقع أشد رعبا.,,إن ظمأ البطلة للنفوذ والسلطة يترجم رغبة دفينة في الثأر وحلما معطلا في الانتقام. ولذلك فهي دائمة الحلم بامتلاك السلاح الأبيض .علما أن الرغبة في حيازة السكين هو دلالة نفسية لامتلاك قضيب رمزي يمزق ويخرق ...الشيء الذي يحيلنا رأسا على عقدة الاخصاء و التي تصور الفتاة بمثابة ذكر فقد قضيبه!مع وجوب الإشارة هنا أن بطلة الرواية لا تكره الرجل لمجرد امتلاكه لقضيب !ولكن بسبب امتيازا ته الاجتماعية والحرية التي يتمتع بها. وبالتالي فهروبها من أنوثتها ليس هروبا من جسد بقدر ما هو هروب إلى امتيازاته.تقول الساردة في ص29:’’كم أتمنى لو أستطيع أن أحمل سكينا وأغرزه في صدره وأفتحه لأرى إن كان يحمل قلبا مثل البشر،يحس،يتألم..مستحيل أن يكون له قلب.,,ولنا أن نتساءل في هذا المساق هل ظمأ البطلة للسلطة هو انهزام للعقل؟وهل توسلها بوظائف زجرية فشل للفكر والوعي كرهان على تغيير الدهنيات وسلوك الأفراد والجماعات؟بل لماذا راهنت على الثأر بدل التثوير إبان صراعها مع سلطة الأب وسلطة الرجل؟ لنتوقف عند هذا المقطع السردي في ص36:’’أسرح بأفكاري ثانية أتخيلني رجلا شرطيا طويل القامة،ألقي القبض على ’’قدور القذر’’أضربه ضربا مبرحا في بطنه،أحمل سيخا حديديا،أضعه في النار حتى يحمر وأكوي قضيبه حتى ينتفخ،وأراه يتلوى أمامي من الألم،يركع عند قدمي يقبلهما،وأنا أرفسه بقدمي و بعنف،أغرز أضافري في وجهه حتى يسيل الدم .وأعلقه في ميدان عام ويرجمه الأطفال بالحجارة.ويموت وتأكل الكلاب جثته النتنة .’’إن رغبة القتل في هذا المساق تروم تطهير الشرف من الاتساخ،كما أن إراقة الدم هو طقس تطهيري يقصد به حصول رضا الآلهة!لنستحضر طهارة الأطفال بالختان وتطهير الأمكنة بالذبائح!بل إن القتل المجازي يتخذ صفات لا حصر لها .كتلذذ الطفلة بقتل الأب من خلال التواطؤ مع خيانات زوجته الثانية!فضلا عن قتل مغتصبيها بتشويه وجوههم والسخرية منهم !كما أنها تمعن في القتل الرمزي لجسدها الموسوم بالبرود الجنسي والخوف من اللذة والرضا والإقبال على الحياة.لنتأمل من جديد هذا الموقف الملتبس في ص61:’’خرجت من البيت أمشي عن غير قصد.التقيت رجلا بلا ملامح قال لي:-تذهبين معي؟بيتي قريب جدا من هنا.
لم أفكر ركبت سيارته ذهبت معه.وفي بيته نزع ملابسي لم أغضب وكأن الأمر لا يعنيني .حتى جسدي أحسسته منفصلا عني وكل ما يحدث لا يعدو كونه فيلم من الأفلام الجنسية الرخيصة.فجأة تذكرت’’ قدور القذر’’نظرت حولي .ماذا أفعل هنا؟كنت مستلقية على ظهري ورجل ما يركبني.شعرت بالاشمئزاز،بالاختناق.أبعدته عني بكل قوة،تأوه لبست ملابسي.’’إن حالة الانفصام والضياع هذه تترجم تفاهة الوجود وضياع الحقيقة .وأن ليس هناك شيء جدير بالتضحية.حالة سقوط تفقد فيها البطلة الرغبة في الحياة ويفترسها الضجر ومع ذلك تحيى رغما عن المنطق !غير أنه في منتصف الطريق الذاهب إلى اللامكان تظهر ’’جوزيان’’زوجة قدور المنتحر بسبب اغتصابه لأولاده الثلاثة !رمز الخلاص وجسر العبور لعالم التطهر من الخطيئة!ليتحول الغرب إلى ملاذ!علما أن البطلة أدركت باكرا أن الغرب ليس واحدا ولا مطلقا فقررت السفر وخوض تجربة بناء الذات في تفاعلها مع هذا الآخر المختلف ..ولنا أن نتساءل في هذا المساق :هل حقا أن حلول البطلة لا توجد إلا في الغرب؟ألا يمكن اعتبار سفرها هروبا من المواجهة ؟أم أن هروبها من الخسارة في حد ذاته مكسبا؟وهل يمكن اعتبار فعل السفر فعل حر يثبت قوة الذات في مواجهة سلطة الأب الرافض لكل تغيير؟وهل حقا يمكن اعتبار فعل الاغتصاب ترميز وتكثيف لجراح المرأة التاريخية والممتدة لزمننا الراهن؟
3- التمرد و رغبة التجاوز:
إن البديل الموضوعي للحلم كمخرج لحالة الاتساخ الروحي جراء الاعتداء الجنسي لدا البطلة بعد حصولها على الوعي بامكانات الذات، كان هو رفض الواقع. إذ بالتمرد اغتسلت من سواد الاغتصاب. وبالسفر للغرب تخلصت مرحليا من سلطة الأب والقبيلة.وبتحريض الآخر على التطور أعلنت عن وجودها الجديد.وبذلك يتحول حلمها بإنجاب طفلة من الولادة البيولوجية إلى الولادة الرمزية للذات.ذات تراهن على تحويل الحشمة والخجل إلى فعل إسقاط ما تبقى من ورق التوت عن عورة مجتمعنا المعطوب.تقول البطلة وهي تنظر في عيني ’’جوليان’’محتجة على رفض ولدها للسفر في ص97: :’’ليست حياته،سأصرخ..سأكسر هذا الصمت.وسأتقيأ كل ما ظل مختزنا في جوفي طوال هذه السنين..سترين..وستسمعين أعدك.’’غير أن هذا التصالح المرحلي مع الذات لم يسحب عنها عذاب الوعي الشقي الباحث عن واقع منسجم وقيم حقة في مجتمع منحط.وبسبب ذلك كانت في خصام دائم وصراع حرون مع وسطها الاجتماعي.ترفض خيانات والدها المتكررة،وتحتج على عهر أختها وسلبية أمها ..صارخة في وجوههم بأن الإنسان هو المسؤول عن مصيره،وهو الوحيد القادر على اجتراحه أو تغييره.وفي أحيان كثيرة قادر على اجتراح شرف الموت في سبيله.تقول البطلة في مواجهة والدها وقد تحولت من نموذج واقعي لفكرة ذهنية تتكلم بلسان القضية لا لسانها الشخصي في ص71:’’الخيانة ليس لها لون وجنس،الخيانة تبقى خيانة .تصرف حقير وبشع.ما رأيك بطعم الخيانة أليس مرا؟أمي عانت منه كثيرا .حتى أمي كان الناس يأتون ويقولون لها زوجك رأيناه مع فلانة،زوجك مع فلانة.كانت تبكي في صمت،وعندما أقول لها اغضبي ثوري لكرامتك.كانت تقول لي من أين لي بالعيش الحلال إذ تركته؟وعندما كنت تحضر تغسل قدميك وفي عينيها ذل وانكسار،كنت أكره ضعفها وخضوعها.خنتها كثيرا ولم تخنك ولا مرة.’’إن تزامن صحوة البطلة بنقاء باطنها خلق منها نموذجا إنسانيا تقمص تناقضات المرحلة مع مغامرة التمرد عليها بنية تجاوز الشعور بالعجز على تكسير العلاقات التقليدية بما في ذلك سلطة الأب.لنتأمل القرينة السردية التالية قي ص117:’’كان لابد أن أواجهه بنفسي لست في حاجة لواسطة أحد.لم أعد أحتمل الحياة في هذا الوسط الموبوء.’’إن رغبة التجاوز هذه كهدف جاءت مشحونة بقلق التحرر وأسئلة الوعي بالشرط الاجتماعي والسياسي القادرين على خلق واقع مغاير... وبهذه الأسئلة تفتح راوية’’جراح الروح والجسد’’ فضاء جديدا لتأمل جرح مغيب عنوة.وزاوية معتمة بحجة الفضيحة والعيب!قضية تقلق اطمئناننا الهش على عالم الطفولة ومستقبلها.وتدفع بذاكرة مقموعة للواجهة .رواية تستدعي الحلم والاستهام الرغبة كما الموت المجازي لفئة عمرية ذات خصوصية بالغة.. طارحة قضية في غاية الأهمية ..لذلك فهي كتابة مركبة تجعل من الأدب غاية ووسيلة.وتترجم وعيا جديدا بقيمة الصوت والصوت المضاد..كتابة لا تكف عن الخلخلة والإرباك بتساؤلها المستمر عن المصير والمآل وسبب تشوهات الواقع إيمانا منها أن فهم العطل يسعف على إصلاحه...
جراح الروح والجسد.مليكة مستظرف.رواية.مطبعة.accent..الطبعة الولى1999