فعل القراءة وإنتاج المعنى
نحويا يعتبر فعل القراءة فعلا متعديا.وذات الشيء يقال عن التعدية المجازية للفعل،أقصد أن فعل القراءة يتطلب وجوبا فعل الكتابة حيث تتحول القراءة من فعل استهلاك لفعل إنتاج.ولتحقق هذا الشرط وجب الرقي بعملية القراءة إلى مدارج المعايشة الحميمة لفسيفساء النص والتمثل العميق لمفاتنه،فتصير علاقة القارئ بالمقروء علاقة رغبة واشتهاء متبادلة.إن هذا التصور لمفهوم القراءة هو ما اصطلح عليه في نظرية الأدب بلذة القراءة.علما أن اللذة مناقضة للسلطة المعرفية التي تنهض على ثلاثة أثافي:سلطة اللغة وسلطة المؤلف وسلطة الحقيقة.سلط تتجمع بيد منتج المعنى التقليدي/أي الكاتب، وتجعل المتلقي يعيش تجربة وجودية قلقة.فالقارئ بعد أن يتمثل معنى مقروئه –وهو شيء يجعله يحس بتميزه عن باقي العالم –عليه أن يواجه ذات العالم لوحده وينتزع منه صك اعتراف بقدرته على الظفر بالمعنى العميق لمقروئه.وهذه صيرورة تختلف تماما عن ما اصطلح علية بالقراءة السطحية أو ما سماه عبد الفتاح كيليطو :’’بالقراءة العادية التي تشد بخناق القارئ وتجعله يبتلع الأحداث دون مضغ ويقفز الصفحات لكي يصل أخيرا إلى النهاية التي يتلهف على معرفتها .إن اللذة التي تمنحها هذه القراءة يؤدي ثمنها غاليا،ذلك أن القارئ يجري وراء الوهم ،يفقد انضباطه وتحكمه في نفسه ويعيش فترة استلاب’’ [1] إن لذة القراءة بالمعنى البارتي: r.Barthesتجعل النص لا يكشف عن مفاتنه إلا لقارئ ملحاح في معاشرة النص، بعد أن يتعرف على تاريخ تشكله وخصوصية اشتغاله وتبايناته الفنية استنادا على تنوع تجلياته المثنية.
1-مستويات القراءة:
تتعدد مستويات القراءة بتعدد الأهداف والمناهج..فهناك القراءة التي تعتمد الاستيعاب المتنامي منطلقة من الجزء إلى الكل.وهناك التي تعتمد استباق المعنى بناء على التخمين وإدراك الكليات أولا.فضلا عن القراءة التفاعلية التي تشيد المعنى لا قبل القراءة و لا بعدها،ولكن إبان الفعل نفسه.وكل هذا يرتكز على هدف المتلقي.فهل هو يبحث عن الإفادة أو المتعة ؟إن تفاعل القارئ مع المتن هو الذي يحدد طبيعة النص :فهل هو محرض أم مسالم ،وديع أم متوحش؟ومع المراس والدربة تتكون لدا القارئ طقوس وعادات قرائية كالسرعة في الاستيعاب و تجميع المعنى الإجمالي في جمل محدودة ورصد التيمات..معتمدة مهارات الانتقاء والتخزين والتأويل وما شابه...نستنتج أن فعل القراءة ليس هو تلك الممارسة البسيطة التي يمرر فيها البصر على السطور ،وليست أيضا ذاك الاستقبال التقبلي الذي نكتفي فيه عادة بتلقي الخطاب تلقيا سلبيا اعتقادا منا أن معنى النص قد صيغ نهائيا وحدد ولم يبق سوى العثور علية كما هو،أو كما كان نية في ذهن القارئ. [2]
إن القراءة المنتجة ترفض التسليم بخطية الدلالة وآلية التلقي السلبي.إنها ممارسة خاصة تتطلب جهازا مفاهميا واستراتيجية ومنهجية محددة لمعاشرة النص وجعل عوالمه وأسراره مباحة.علما أن معنى النص لا يمكنه أن يكون نهائيا بأية حال من الأحوال،بصرف النظر عن المنهج والمرجعية الأذاتية.فإذا كان التصور المادي للأدب يتحدث عن النص كانعكاس للواقع ويبحث في الشروط الاجتماعية والطبقية لمنتجه.فان التصور النفسي للأدب يركز على السيرة الذاتية للمبدع ..وقس على ذلك البنيوية التي تكتفي ببنية النص دون غيرها ..وهذا يعني أن هذا المرجع أو ذاك يلامس جوانب دون أخرى .إن تركيز القراءة المنتجة على البعد الأفقي والعمودي يسعف على الإنصات لنبض الخطاب الأدبي كأسلوب جمالي ورؤية ومخيال وصوغ فني للواقع.يقول رولان بارت في لذة القراءة:’’إن النص الذي تكتب عليه أن يعطيني البرهان على أنه يشتهيني،هذا البرهان يوجد:انه الكتابة ذاتها .،،
2-فعل القراءة وإنتاج المعنى:
إن التركيز على القارئ في تاريخ الأدب تبلور بالأساس في أحضان مدرسة جمالية التلقي [3]التي ردت الاعتبار للقارئ بعد أن سلم القراء لزمن طويل بملكية الكاتب المطلقة لمعنى نصوصه.وفي هذا الإطار بدأ التعامل مع النص باعتباره عملا مفتوحا يزداد معناه إشراقا كلما صادف قراءة ترفض التماهي والاستهلاك،علما أن معنى النص متعدد بالضرورة.وتعدده هو ضامن خلود وتجدد الأدب.وإذا كان معنى النص رهين هذه القراءة تحديدا، فهذا يعني أنها قراءة تنغرس في رحم السميائيات كعلم للمعنى والدلالة والرموز الأدبية. مع وجوب الإشارة إلى أن إشكالية المعنى طرحت على مدار تاريخ الإبداع والفكر أسئلة عدة منها على وجه التحديد:هل يتأسس المعنى على خلفية إشارات النص ؟أم أن ثقافة المتلقي هي التي تلون دلالة النص بصبغة ذاتية؟أم أن تفاعل البعدين السابقين هما سبب تشكله ؟وقبل هذا وذاك، بماذا يتحدد معنى النص؟هل لزمانه ومكانه دخل؟ وهل هناك نصوص خارج المعنى؟..أسئلة كثيرة تفضي بنا إلى أنه إذا كان المعنى أساس التواصل بين النص وقارئه فان تعدد معانيه تعزى لاختلاف أدوات القراءة والمرجعيات دون أن نغفل النظائر في الخطاب الأدبي ونقصد بها الأوجه البلاغية للغة كالمجاز والكناية والثورية وما شابه. إن المعنى بهذا المفهوم حصيلة تفاعلية يحكمها السياق والزمن والرؤية للعالم. أما ارتفاع هذه الشروط فتعني حصول اللاتواصل والالتباس .لهذا بات معنى النص هو إحدى احتمالات قصدية الكاتب فقط.ومادامت معاني النص متعددة بتعدد قرائه فيصعب ،إن لم يكن من باب الاستحالة القبض على المعنى الذي قصده الكاتب.فان تشييد معنى النص يتطلب من المتلقي استراتيجية تأويلية تمليها إشارات المتن،وبالتالي يصير الضفر بالمعنى أشبه بالعثور على ذات القارئ عبر استدعاءات المعطل والمكسور فينه لحظة القراءة ،مادام زمن التلقي هو زمن ولادة المعنى.بهذا المعنى نتمثل مقولة أيزر:’’لا يصبح النص حقيقة إلا إذا قرئ,,
وإذا كان المعنى الظاهر والقريب للنص ملكا عاما ومشاعا، فان المعنى الخفي يستلزم تأويلا لأنه ثورة وتدميرا للمعنى الأول .وهذا يؤكد أن معنى النص دائما هو بصيغة الجمع،متجدد باستمرار لا يتشابه حتى مع ذاته .أقصد بين القراءة الأولى والثانية تتغير المعاني والاستنتاجات .إذ أن كل قراءة هي خلق جديد للمعنى واستدعاء لإحدى دلالاته الراقدة في أعماق النص.ومادام كل نص مأهولا بما لا نهاية من النصوص الأخرى فانه غير قادر البتة أن يعيش بمعزل عن النصوص الأخرى التي تدخل معه في تحد وصراع دون أن ننسى أنها مصدر ثرائه الدلالي.إن سبب تعدد معاني النص يرجع لفعل القراءة أساسا..فضلا عن كون النص الأدبي عالما متخيلا يخاطب الوجدان والعقل ويمزج بين المحتمل الحدوث والواقع ..و يجمع بين الإمتاع والإفادة ولا يحتكم لمنطق الصدق والكذب بخلاف القول العلمي الذي لا يمكنه أن يكون محط تأويل كالقول التالي :يتمدد الحديد تحت درجة حرارة معلومة.إن قولا مماثلا لا يحتمل إلا معنا واحدا بخلاف البيت التالي:
عيناك غابتا نخيل تحت السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر.
فإذا كان التخييل والصوغ الفني هما ما مانحا النص الأدبي تميزه وخلوده. فان القراءة هي مصدر نفخ الحياة فيه كلما تعدد قراؤه كسلطة نصية تقوم على سد فراغاته وبياضه.وهذا ما يسميه غستون بشلار باللآشعور النص.أي البحث عن تلك الخصوبة المتوقدة التي تطرح ثمارها مع كل قراءة منتجة بسبب سفرها خلف مركونات النص التي لا يستطيع قولها أحيانا إما لاعتبارات سياسية أو أخلاقية أو ما شابه.لكن علينا أن لا نهتم فقط بما يود النص قوله من دلالات ومعاني ..لأننا إن فعلنا نكون قد أهملنا ما قاله بالفعل!نستنتج أن فعل القراءة يتأسس على شبكة من الأفعال المركبة تبدأ بالفهم والتوصيف ثم التأويل كعملية مجردة تبحث عن توافق صعب بين ثلاثة أطراف وهي المؤلف ،النص والمتلقي.
3-القارئ النموذجي:
قدمت نظرية التواصل والسميائيات ونظرية الأدب تصنيفات كثيرة لمفهوم القارئ حيث بدأنا نصادف القارئ الافتراضي وهو كسلطة نصية وطرف مشارك في بناء المعنى وبالتالي في جزء أساسي في عملية الإنتاج الأدبي ،والقارئ المتعاون والقارئ الضمني والقارئ النموذجي ..هذا الأخير الذي ينظر له كذات تمتلك وعيا عميقا بالجنس الأدبي المقروء ومكوناته الداخلية وتاريخه مع امتلاكه لأدوات التحليل والتأويل المؤسسة على أفق انتظار خاص جدا.خلاصات بلورتها مدرسة ’’كونستنس’’الألمانية أو ما يعرف بتيار جماليات التلقي، بريادة يوس وأيزر..منظران ركزا على البعد التواصلي في تلقي الأدب.. بل و طالبا بإعادة كتابة تاريخ الأدب من جديد لكن هذه المرة من وجهة نظر القارئ كطرف أساس في معادلة بناء المعنى وصوغ الدلالة.استنتاجات أثارت الكثير من الردود الحادة. فإذا كانت البنيوية ضلت تشدد على بنية النص دون غيرها. فان القراءة المادية للأدب ضلت متشبثة بمفهوم الانعكاس ،بخلاف مدرسة جمالية التلقي التي تنادي بالتفاعل بين النص والقارئ يقول أمبرطو ايكو:’’النص إذا نسيج من الفضاءات البيضاء،والفجوات التي يجب ملؤها،وأن الذي أنتجها كان ينتظر دائما بأنها ستملأ،وأنه تركها لسببين:أولهما لأن النص اوالية بطيئة تعيش على فائض قيمة المعنى الذي يدخل فيه المتلقي،ولا يتعقد النص بالإطناب إلا في حالات التصنع القصوى والاهتمامات التعليمية المفرطة ..ثم لكي يمر النص شيئا فشيئا من الوظيفة التعليمية إلى الوظيفة الجمالية يريد أن يترك للقارئ المبادرة التأويلية.’’4نستنتج’’ أن القراءة أوسع من النقد،وأقل سلطة وعنفا منه. [4]مادام النقد يحتكم للنموذج وخصوصيات الجنس الأدبي وثوابته الصارمة ..أقصد الذوق العام الذي صار مسلمة ..بينما القراءة في أحيان كثيرة تحتكم للتراكمات الجمالية والمعرفية للذات القارئة وذوقها الخاص المؤسس على خلفية المكونين السابقين.ولذلك فهي توصف بمغامرة البحث عن معنى النص باعتباره نقطة تقاطع بين إشارات المتن وتأويلات القارئ..أو لنقل نوع من التوافق بين أفقي انتظار مفترضين.وهذا يوضح طبيعة النص الناقصة والمرهونة بفعل القراءة .فالنص لا يوجد إلا لها وبها.وقيمة القراءة تتجدر في كونها مصدر تعدد معنى المتن بخلاف جمل النص الثابتة...
ا