السبت ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٤
بقلم نشوان عزيز عمانويل

في عناق اللحظة

إهداء :

إلى التي وجدت الحرية في الانسلاخ من الخرائط، ولامست المعنى بين ألوان الغروب وسكون الحقول.
لرحلتكِ الأبدية، بلا وجهة، بلا قيود، وبكل الصفاء الذي تستحقينه.

إلى الشاعرة المبدعة... كولالة نوري

.... صديقتي الأبدية

في مساء خريفي خافت، جلست كولالة في مقهًى صغير قرب محطة قطار مهجورة، كأنها شبح يتأمل انعكاسه على زجاج نافذة عتيقة. بين يديها خريطة مهترئة، تتشابك عليها الخطوط كأوردة مشبّعة بحلم قديم: أن تعبر الولايات المتحدة كمن يفر من ذاته، بحثًا عن غدٍ لا يحمل ظل الأمس. كانت المدن المرسومة على الورق تبدو لها كوعود هاربة، كأبواب مفتوحة على الحرية، أو كأسرار تطل من وراء ستار كثيف.

مع أول خيوط الفجر، انطلقت على الطريق بلا وداع.

وسيارتها تئن تحت وطأة الطريق المفتوح، بينما الهواء يلثم وجهها وكأنه يريد انتزاعها من ماضيها. كل ميل قطعته كان يشبه اقتلاع جذور من أرض أرهقتها. الطريق امتد أمامها كخط أزلي، بلا وجهة سوى تلك اللحظة ذاتها، تلك النشوة التي جعلتها تتوهم أن العالم صار ملكها أخيرًا.

لكن عند أحد المنعطفات الحادة، كأن القدر قرر اختبار يقينها. فقدت السيارة السيطرة، وانزلقت كطائر أصيب بجناحه. الزمن تجمّد، وتحوّلت الضوضاء إلى صمت مطبق، إلا من صوت خافت يشبه ارتعاش الضوء في بركة مظلمة. حين أفاقت، وجدت نفسها ممددة على العشب، تنظر إلى السماء التي بدت شاسعة أكثر من أي وقت مضى، وكأنها ترحب بها.

ابتسمت كولالة؛ لم يكن ذلك الشعور بالخوف أو الألم، بل كان أشبه بانكشاف سرٍّ خفيّ، كأن الكون أخيرًا همس لها بمعناه. أدركت فجأة أن كل المدن التي سعت إليها، وكل الطرق التي رسمتها على الورق، لم تكن إلا وهمًا. السلام الذي حلمت به طويلاً لم يكن في وجهة، بل في لحظة واحدة خالية من كل شيء عدا وجودها.

لامست الأرض بيدها، شعرت بحرارة الحياة تتدفق من خلالها، كأن التراب أراد أن يخبرها أن كل خطوة مشتها قادتها إلى هنا. رفعت عينيها إلى السماء التي انسكبت ألوانها كأغنية صامتة. لم يكن الغروب بالنسبة لها نهاية، بل بداية جديدة لم تطلبها.

وقفت بهدوء، ألقت بالخريطة على العشب، وابتسمت. لم تعد بحاجة إلى خطوط تحدد مسارها. عادت إلى الطريق، لكن هذه المرة بلا عجلة، بلا خوف، بلا أي شيء سوى يقين عميق أن الرحلة ليست في الأماكن التي نصل إليها، بل في تلك اللحظات التي نعانق فيها الحياة بكل تناقضاتها: جمالها وصخبها، ثقلها وخفتها، وفي النهاية، سلامها العميق الذي يتسلل إلينا عندما نتوقف عن الركض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى