في ذكرى المناضل سالم خله سالم اليافاوي: حاضراً، لا يغيب
صادف السابع والعشرين من آب اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال، وفي هذه المناسبة نظم مركز القدس للمساعدة القانونية مجموعة من الفعاليات، من ضمنها فعالية مكرسة لذكرى الرفيق سالم خلة (أبو زياد) تضمنت عرض فيديو وتوزيع كتاب عن مسيرته النضالية، إذ كان الرفيق منسق للحملة الوطنية لاسترداد الجثامين المحتجزة في مقابر الأرقام وفي الثلاجات.
في إحدى المناسبات الاجتماعية في الغالية يعبد، اقترب مني وقال: هل تذكرني؟ أكدت له "طبعاً، ألست موسى؟"، أضاف "هل تلتقي بسالم ابن أبو علي اليافاوي؟"، قلت "نعم، بين فترة وأخرى نرى بعضنا"، قال "بلغه سلامي الحار، لن أنسى لطفه وأحاديثه، ومعاملته لي وأنا أعمل صبياً في مطعمهم، ولن أنسى يوم أخذوه من المطعم وأبعدوه، رغم مرور أكثر من أربعين سنة على ذلك اليوم، ما زلت أذكر صورته وشخصيته ومحبة الناس له". سكتُّ، لم أرغب بمقاطعته، كنت أرغب في سماع المزيد منه، لكنه استدرك "ألم تكن معنا في المطعم وقتها؟ أذكرك، جلست أنا أبكي وأنت شجعتني". نظرت إليه مبتسماً، وأكدت له أنني سأوصل السلام. تذكرت صورته يومها وبكاءه، كان الوقت ظهراً، لم يكن غيرنا في المطعم، وقفت دورية عسكرية وقيدوه وغادروا. كنت أحب هذه الأوقات لأستمع من سالم، النموذج بالنسبة لي، أحاديث الوطنية والثورية. كانت السنوات الأربع التي بيني وبينه عمراً، وغربته في الأردن بعد حزيران 1967، وما في جعبته من أحاديث عن الثورة والفدائيين، مغناطيساً قوياً يجذبني إلى لقائه في بيتهم أو في المطعم حين يقل عدد الزبائن. كان قد عاد متسللاً عبر النهر ووصل يعبد ثم اعتقل، وكان فرحاً بأنه قد خرج من المعتقل ولم يقم الاحتلال بإبعاده وأنه سيبقى في الوطن، ولكنهم استشعروا خطره فأبعدوه. أبعدوه لتبقى صورته في ذهن صبي مثل موسى الذي أصبح أباً وربما جداً، صورة ناصعة يحن إليها رغم مرور عقود من الزمان.
هذا هو سالم اليافاوي ابن الحارة الشمالية في يعبد، سالم حسن سالم خله الشاب في المدرسة الثانوية، الرفيق طارق أبو زياد ابن الثورة الفلسطينية والقيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، سالم خله العائد إلى الوطن والمناضل لتحرير جثامين الشهداء الذين يحتجزهم الاحتلال الإسرائيلي في مقابر الأرقام والثلاجات، أبو زياد خله أو "أبو الزوز" تحبباً الأخ والصديق القريب من القلب الذي بكيت رحيله بحرقة وأنا بعيد عن الوطن أنتظر انقشاع جائحة الكورونا لأعود وألتقيه.
لي مع سالم، في كل من هذه الأسماء والصفات التي مرت في حياته وحياتنا ذكريات لا يمكن للكلمات أن تغطيها أو توفيها حقها.
أراك يا سالم اليافوي تلميذاً في مدرسة ذكور يعبد التابعة لوكالة الغوث، يعبد التي استضافت أعداداً كبيرة من اللاجئين من القرى القريبة شمالها وغربها وتداخلوا في نسيجها الاجتماعي كأبنائها، في حاراتها المختلفة، كنت ابن الحارة الشمالية، لعبت فيها وذهبت إلى المدرسة، كنت تقول نحن "العائدون" وتغني مع أترابك وتسمعنا الغناء في الحارة "أخي جاوز الظالمون المدى" وترددون في الصباح "عائدون، عائدون" فنفرح معكم لهذا النشيد/الغناء. وفي الحارة الشمالية أراك تمسك بيد "ستي زهرة" الضريرة، وتساعدها للوصول إلى بيتها وتحمل لها إبريق الماء أو غرضاً آخر من البيت أو من الدكان القريب، فتكسب منها "الله يرضى عليك وينجحك".
أراك يا سالم حسن سالم خله، الطالب الشاب الصاعد في مدرسة يعبد الثانوية ومعك نخبة من أبناء صفك بعين الولد الذي يصغركم بأربعة صفوف، تتناقشون في السياسة وتتحدثون عن الوطن السليب، وتخرجون إلى الشارع تهتفون مع الوحدة العربية والناصرية وتحرير الوطن السليب، أو يدوّي صوتكم في الأعراس بالهتافات ذاتها، توصلون صوت يعبد إلى الدنيا وكلكم ثقة بقوة الأمل "عبد الناصر يا غالي، يا باني السد العالي"، "فلسطين عربية". فأصبحتم لي ولغيري نماذج نتتبع خطاكم وننصت بحرص إلى كلامكم عن الأمل بالجيوش التي ستحرر فلسطين، الأمل الذي تعاظم فجأة حين انعقدت القمة العربية الأولى وتأسست منظمة التحرير الفلسطينية. تذكرتك يا سالم حين كتبتُ قصة قصيرة عن الحارة الشمالية بعد عشرين سنة من تلك الأيام بعنوان "عيد سيظهر في الحارة الشمالية". لم تكن أنت الشخصية التي رأيتها وجعلتني أستعيد ذكريات الحارة، فقد كنتَ حينها مبعداً عن الوطن تناضل من أجل العودة إليه ومن أجل حريته وتحرره، ولكن كان لا بد من أن أركّب منك ومن تلك الشخصية شخصية جديدة تستطيع رسم الصورة، شخصية أستطيع من خلالها أن أعطي الحارة صورتها التي نحبّ والتي نحنّ إليها، من خلالك رسمت للحارة صورة كنت أنت عنوانها يا سالم.
يصلني صوتك يا رفيق طارق أبو زياد عبر البعد، رغم الحدود المصطنعة، يصلني عبر الجسر اللعين الذي يحرمك ويحرم كل الغوالي من زيارة الوطن. أسمعك بصوتك الجهوري خطيباً في احتفالات انطلاقة الجبهة وفي مهرجانات الثورة وفي وداع الشهداء، يصلني الصوت مليئاً بالحيوية والأمل والإصرار. ويصلني صوتك الهادئ الثابت وأنت تحلل الوضع السياسي، أراك رغم البعد تطرق قليلاً ثم تتحدث وتركز على الفكرة الناضجة وتملك سمع من يستمع إليك. وأتابع أخبارك، أخبار المقاتل والقائد والممثل السياسي للجبهة في العواصم الصديقة، فأقول مفتخراً هذا سالم بن أبو علي اليافوي ابن يعبد ابن حارتنا. استمعت من الذين شاركوك المسيرة قصصاً عنك عناوينها التضحية والإخلاص والوفاء ومحبة الرفاق لك.
وحين عدت إلى الوطن يا سالم، تلاقينا وكأن أكثر من ربع قرن من الزمان من البعد لم يكن، اندمجت في العلاقات وكأنها لم تنقطع، واندمجت في العمل بكل الهمة والنشاط استكمالاً للمسيرة التي قطعتها. عاد صوتك جهورياً في كل فعاليات الوطن. وكسبت أنا صداقة خاصة متميزة أينعت من جديد انطلاقاً من جذور مرحلة الطفولة والشباب المبكر. وفي كل لقاء لنا كان الحديث عن الوطن والهم الوطني وتفاصيل المرحلة بمرّها الصادم وبعض حلوها زادنا، ولكننا لم نبخل على بعضنا بتلطيف المرّ باستعادة ذكريات الحارة كواحة نستمتع في اللجوء إليها، ثم تقول وأثني على قولك بأن العودة كانت مكسباً حقيقياً فالرحيل في الغربة والشتات كان هاجسك الذي تتمنى ألاّ يكون. وقررت أن تستثمر كل طاقتك في قضية من أنبل القضايا: البحث عن المفقودين الذين اختفى ذكرهم في حرب الأيام الستة، المسماة تجاوزاً حرباً، وما بعدها، واستعادة جثامين الشهداء من مقابر الأرقام وثلاجات الاعتقال ما بعد الشهادة، قضية ترتبط بالحق الإنساني للمفقودين والشهداء وعائلاتهم، وتعبيراً عن الكرامة الوطنية لنا جميعاً. وفي مسيرة النضال هذه كنت الابن والأخ لكل فردٍ من أفراد أسرهم.
وتسلل المرض الخبيث إلى جسدك وأنت في معمعان هذه المعركة. أراك وكأنك تتحدث الآن أمامي عن هذا الخبيث اللعين حديث العقل والعلم، وفي كل لقاء أو محادثة هاتفية تحدثني أين وصل فأنوي أن أبدأ حديث الدعم والتشجيع لك على مواجهته وأتوقف لأنني أرى فيك شجاعة وتصميماً على هزيمته ومقارعته دون انكسار حتى آخر نفس، فأعود معك إلى حديث العادي واليومي مطمئناً إلى شجاعتك. سمعت صوتك واهناً في المكالمة الأخيرة بيننا، ولكن الكلمات لم تغب عنها الروح الشجاعة. أتخيلك بروحك المرحة التي كانت تلقي على جلساتنا جواً من الفرح، فنضحك من القلب وسط كل المنغصات، أتخيلك وقد خاطبت الفيروس اللعين الآخر الذي تسلل إلى جسدك ليستقوي عليه، هل قلت له: وأنت أيضاً يا جبان يا لئيم.
حين فوجئت بخبر رحيلك وأنا بعيد عن الوطن ذرفت دمعة عصية، فقد جفت العين من الدمع على كل الذين رحلوا قبل الأوان، واستحضرت كل الصور، صور الحضور الثري في كل ما هو جميل فيك وعنك.
سالم أيها الأخ الذي لم تلده أمي، لكنها كانت تحبه كواحد منا نحن أبناءها، وكان يبادلها حب الأبناء الصادق، حباً أراه في عينيه وفي عينيها حين يلتقيان،
لروحك الرحمة والسلام ولذكراك الطيبة الدوام يا سالم اليافاوي، أيها الصديق الذي ترك فيّ وفي الكثيرين كل أثر جميل.