تحليق عابر لطيور الذاكرة
كل شيء في النوارس جميل سوى زعيقها وشجارها. تراقبها كلما جئت إلى مسطح مائي وهي تحوم حوله وفوقه وتغطس في مياهه. اليوم عند بحيرة إميرالد- المنتجع الذي جئت إليه مع العائلة وقد وفّقتم في العثور على مكان جيد للجلوس ووضع الأمتعة رغم الأعداد الكبيرة ووصولكم متأخرين. تجلس في ظل ثلاث شجرات تشكل معاً مثلث ظل دائم مهما تحركت الشمس في السماء مراقباً هذه الطيور وهي تحلق ثم تهبط على المسطحات الخضراء ولا تهبط على البحيرة الصغيرة، لأن البحيرة مليئة بالبشر، كباراً وصغاراً. تلقي للنوارس على العشب بفتات الخبز أو الكعك فتأتي هذه تباعاً، تتسابق على القطعة التي تقع بين العشب، أحياناً يستحوذ واحد منها بعدوانية على الكثير من القطع، يدفع غيره بقوة وعدوانية ويزعق زعيقه الممجوج، فتنثر اللقيمات الصغيرة بعيداً عنه لتصل المستضعفين فتنجح الخطة أحياناً، وتفشل أحياناً لأنه يهجم حتى من بعيد.
تتوقف عن نثر الفتات حتى تهدأ الأمور فتراه يتبختر مستعرضاً قوته، فتنثر دفعة جديدة من الفتات بعيداً عنه نكاية بعنجهيته، تأخذ الأمر على محمل الجد وتتخذ منه موقفاً، تصبح معادياً له، يذكّرك ببشر مثله في العدوانية والعنجهية.
بعد نهاية جولة من هذا اللعب، حين تتوقف عن تزويدها بالطعام، تنتظر النوارس فترة حولك عسى أن تعود فتطعمها، وحين تيأس من ذلك تقرر الطيران عالياً فوق البحيرة في الاتجاه الآخر.
بعد فترة تلاحظ نورساً يقف على رجل واحدة فوق مقعد خشبي والرجل الأخرى معلقة لا تصل سطح المقعد، تدقق من زوايا مختلفة لتتأكد من حالته، فقد يكون يمارس تمرين يوغا كبعض الطيور التي تفعل ذلك، مثل تلك البطة التي وقفت برجل واحدة على صخرة في حديقة كاريا لأكثر من نصف ساعة، وتضامنت معها وفي النهاية وجدتها تفرد جناحها وتمد رجلها المرفوعة إلى الخلف لتمارس تمارين شد العضلات، أما هذا النورس فقد كان فعلاً بقدم مبتورة. تقرر أن تخصه ببعض فتات الكعك بعيداً عن أعين النوارس الأخرى، تذهب لتحضر الكيس، ما أن تستدير لتعود نحوه حتى تجد أنه قد طار واختفى.
تفكر في أمره، تنثر بعض الفتات فقد يعود مع العائدين، تنثرها فيهجم عدد من النوارس البيضاء والمرقطة، لم يكن بينها، فتتوقف عن إلقاء المزيد.
تفكر، ماذا يدعى مبتور القدم من الناس والطير، فتسأل غوغل باستعمال هاتفك المحمول، فلا تجد ضالتك، ولكنك وجدت قصة تتعلق بالموضوع، قصة الزمخشري وعصفور تسبب في قطع رجله، تقول القصة:
"كان الزمخشري مقطوع الساق يمشى على ساق من خشب. وذات يوم جلس يحكى لأصدقائه سبب قطع سـاقه، فقال: مسكت عصفوراً صغيراً، وربطته بخيط في رجله، فدخل بين حَجَرين، فجذبته بالخيط بعُنف فانقطعت رجله، فتألمت أمي وقالت: "قطع الله رجلك كما قطعت رجل العصفور". فلما كَبِرتُ وأردت السفر لطلب العلم سقطت من فوق الدابة فانكسرت رِجلِي وقُطِعَت واستجاب الله لدعاء أمي".
تعود للنورس، ترى هل تسبب أحد ما في قطع قدم هذا النورس، وهل دعت عليه أمه أن تقطع قدمه جزاء ما فعل، ويسير الآن بقدم صناعية أو بدونها لأنه تسبب في قطع قدم هذا النورس الذي رغبت أن تخصه بلذيذ الكعك، لكنه طار واختفى.
فكّرت بالأمر كأنه يعنيك جداً، تساءلت: هل تسبب قطع قدم هذا النورس في قطع رجل إنسان دعت عليه والدته في هذه البلاد المتعددة الثقافات واللغات، وبأية لغة كانت دعوة الأم المفترضة، التي استجيبت؟ ثم تساءلت بحيرة شديدة: هل تستطيع أم بصدق أن تدعوَ على ابنها بأذى؟ لماذا كان قلب أم الزمخشري قاسياً إلى هذا الحد؟
طار نورس أميرالد، حلّق بعيداً، لم يعد، ولكنه استحضر طيوراً أخرى وتركها تحلّق وتسحب بمناقيرها خيوط الذاكرة.
ليس بمقدوري أن أحكم على قساوة قلب أم الزمخشري، ولكنني أستطيع أن أجزم أن قلب الخالة نديّة، أم صديقي صالح، لم يكن قاسياً في يوم من الأيام طيلة حياتها، بل كانت قلباً ولساناً بمنتهى الحنان، وأنها بالتأكيد لم تدعُ عليه بقطع رجله. كما إنني أرجّح إلى أبعد الحدود أن قلب أم جميلة، رغم كل ما عانته من ظلم ذوي القربى، لا يمكن أن يكون قد قسا إلى الحد الذي يجعلها تدعو على ابنتها بهذا المصير. كل من صالح وجميلة يعيش برجل صناعية تعويضاً عن رجل قطعت.
كانت الذخائر التي لم تستعمل في حرب حزيران 1967، الحرب التي لم تخض، السبب في قطع رجل صالح، وكان حقل الألغام الذي تم زرعه ليمنع تقدم قوات العدو في تلك الحرب، ولكنه لم يمنعها، الذي ظل مليئاً بالألغام بعد تلك الحرب وأصبح وحشاً فاتحاً فمه على آخره لابتلاع الأرواح والتسبب بإصابات أدت إلى قطع الأرجل وإصابة بعض ضحاياه بفقدان البصر كان السبب في قطع رجل جميلة.
كانت الخنادق التي تمترس فيها جيشنا مليئة بالذخائر والمواد المتفجرة التي تركت بعد انسحابه، تلك الخنادق التي حفرت قبل الحرب بأيام في التلة المقابلة ل"الخط الأخضر"، أو منطقة الخطوط الأمامية كما كانت تسمى، التلة التي اختارها أهل بلدتي يعبد لتكون المقبرة. يبدو أن أجدادنا اليعبديين قد أرادوا أن يكرموا الراحلين بوضعهم في هذا الموقع المميز بإطلالته على البحر المتوسط غرباً وعلى غابة أم الريحان الطبيعية شمالاً، موقع يهب عليه نسيم البحر عليلاً في الصيف ويوفر منظراً يبهج العين في الربيع. وجد أطفال حارتنا الشمالية في هذه التلة مكاناً مناسباً جداً ليطيّروا طياراتهم الورقية، وكنت واحداً منهم. ولكنهم بعد الحرب وجدوا في الذخائر المتروكة أداة للتسلية وللحصول على بعض القروش، تسلية خطيرة لم يدرِ الأهالي الغارقين في هموم البحث عن لقمة العيش عنها، أو أن من علموا بما يفعله الأطفال لم يدركوا خطورة ذلك العمل. كان الأطفال يفرغون الرصاص من "كحل البارود" ويجمعونه ليبيعوه نحاساً لرجل كان يجمع النحاس والخردوات، ولكن الأخطر من ذلك أنهم كانوا يفكون بعض قنابل الإنارة التي تحتوي على "برشوت" مصنوع من قماش قوي ليستعملوه في ألعابهم. الذخائر المتروكة أخذت حياة عدد من الأطفال، وجرحت البعض جروحاً تعافى منها مع ندبة ظلت ذكرى صعبة تذكر الواحد منهم بما حدث معه وبأترابه الذين فقدوا حياتهم، وتركت لآخرين إعاقات دائمة. في ضحى أحد الأيام ذهب عدد من هؤلاء الأطفال بينهم صالح إلى موقع الذخائر وبدأوا بتسليتهم المعتادة، وفجأة سمعوا صفيراً من إحدى القنابل التي ضربها أحدهم بالأرض فحاولوا الابتعاد إلاّ أنها انفجرت لتودي بحياة ثلاثة منهم، وتصيب صالح بجرحٍ عميق في الفخذ، وتصيب البقية إصابات أقل خطورة. علمت يومها أنهم مروا على بيتنا وسألوا والدتي عني لأذهب معهم "للعب"، لحسن حظي لم أكن في البيت، كنت قد أصبحت بائعاً متجولاً للدخان العربي في مدينة جنين. وصلتني الأخبار عمّا حدث وعلمت أن الجرحى قد نقلوا إلى المستشفى الحكومي في المدينة، تركت بضاعتي أمانة عند صاحب دكان لطيف كان يسمح لي أن "أبسّط" ببضاعتي أمام محله، وهرعت إلى المستشفى، توقعت أن يكون شقيقي الأصغر مني بين المصابين، وأردت الاطمئنان على الجرحى. ما زالت المناظر محفورة في الذاكرة، كان العم سلمان في ساحة المستشفى قرب حمالة عليها جثمان ولده وليد، وقفت أنظر إلى وجهه المغطى بالدم، وليد المعروف بحركته ونشاطه أصبح جثماناً مسجى على حمالة إسعاف، تلفت نحوي والده وقال كلمات وسط نشيجه "شايف وليد يا سامي"، لم أستطع النطق بأية كلمة سوى "الله يرحمه". تركته، ودخلت المستشفى، كان والد صالح ووالد مفيد ووالدته وأقارب آخرون في ممرات المستشفى. علمت أن صبحي وجمال قد توفيا في المكان ولم تكن هناك حاجة لنقلهما إلى المستشفى.
في المستشفى أوقفوا نزيف صالح، ودخل في مراحل طويلة من العلاج، محاولات علاج حسب القدرات الطبية المتواضعة المتوفرة في المستشفى ذاته حينذاك، نجم عنها بتر قدمه بسبب "الغرغرينا" كما قالوا وأنهم بتروا القدم ليحموا بقية رجله، ثم تحركت الغرغرينا إلى الأعلى فبتروا قسماً آخر. قرروا بعد ذلك تحويله أخيراً إلى مستشفى في مدينة القدس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فبترت رجله من أعلى الركبة. وفي النهاية تزوّد برجل صناعية لتعيش معه ويعيش معها حتى الآن. الخالة نديّة بريئة، أكثر من براءة الذئب من دم يوسف، من أن تكون قد دعت عليه بهذا المصير.
أما حقل الألغام الذي تبلغ مساحته حوالي 40 دونماً الواقع شمال شرق البلدة فقد بدأ بالتهام ضحاياه بعد أقل من شهرين من زراعته. أجزاء كبيرة من الأرض التي أصبحت حقل ألغام كانت قد زرعت حديثاً بأشتال الدخان للموسم القادم. عندما كبر نبات الدخان وأصبحت أوراقه بحاجة للقطاف قام أبو العامر بقطف ما هو قريب من سياج الأسلاك الشائكة المحيطة بحقله، ثم دخل مسافة قصيرة وقطف الأوراق ولم يحدث شيء، وتقدم خطوات أخرى ليقطف المزيد لينفجر به أحد الألغام، صارع جراحه الصعبة دون رعاية طبية لأيام ثم أصبح الضحية الأولى لهذا الوحش.
بعد سنوات كانت جميلة التي تبلغ العشرين من العمر الضحية الثانية، هربت منها دابتها وقفزت فوق جزء مترهل من السلك الشائك فلحقت بها لتردها، انفجر لغم بالدابة وبالصبية، كانت إصابتها صعبة، لكنها عاشت بعد أن فقدت ساقها. وبعد حادث جميلة بسنتين ابتلع وحش الحقل ولدين من رعاة الأغنام منهياً حياتهما في عمر السادسة عشرة.
في تشرين الأول 1984 كنت شاهداً على ما حدث، حيث كنت أعيش تحت الإقامة الجبرية في البلدة بأمر عسكري من سلطات الاحتلال، حدث انفجار في حقل الألغام، هرع الناس بالمئات وكنت منهم، وقفنا قريباً من الأسلاك الشائكة نراقب المشهد داخل الحقل اللعين عاجزين عن عمل شيء. كانت جثتي الصبيين طاهر ابن الثانية عشرة وأمجد ابن الخامسة عشرة ممدتين داخل الحقل على مسافة من الأسلاك الشائكة. تم الاتصال بشرطة الاحتلال لمحاولة إنقاذ الصبيين إن كانا على قيد الحياة أو إخراج جثتيهما، لم تحضر أية مساعدة خلال أكثر من ساعتين، فقط حضرت سيارة شرطة فيها عنصرين ووقفا يراقبان دون عمل شيء يذكر. فجأة نهض أمجد وبدأ يمشي، أصبح الجميع على أعصابه، قد ينفجر لغم آخر تحت قدميه، مشى مسافة ثم وقع قريباً من الأسلاك الشائكة. تقدم شاب جريء وتحسس موقع أقدامه، تقدم قليلاً ونحن جميعاً نحبس أنفاسنا، رفع جسد المصاب واستدار بحذر شديد وعاد يخطو على الخطوات التي خطاها سابقاً ولما اقترب من السياج تناوله منه شاب آخر. كل هذا الوقت ولم تحضر أية مساعدة ولا حتى سيارة إسعاف، تم وضع الجريح في سيارة خاصة ونقل إلى المستشفى، كان مصاباً بجراح في مختلف أنحاء جسمه، وفي وجهه. شفي من الجراح لكنه فقد بصره. الجميع كان مقتنعاً أن الصبي الآخر قد فقد الحياة، لكن نسمة هواء حركت ملابسه فاعتقد أخوه الموجود بيننا أنه ما زال حياً، ركض باتجاه السياج والجميع يصيح به أن يتراجع، قفز عن الأسلاك الشائكة واتجه نحو جسد أخيه وحمله، ساد صمت رهيب وترقب ودعوات من الله أن يسلمه وهو يمشي حاملاً أخاه، وصل السياج بسلام. لكن ماهر كان قد فارق الحياة.
لم أنم ليلتها، إلى متى سيستمر هذا الوحش بالتهام الضحايا؟
يجب أن نعمل شيئاً، يجب أن أعمل شيئاً، أي شيء. قمت بصياغة بيان للرأي العام موجهاً للمؤسسات الدولية عبر الصليب الأحمر الدولي ولمؤسسات حقوق الإنسان وعدد من الجهات التي كنت أتواصل معها للعمل ضد الاعتقالات الإدارية وأوامر الإقامة الجبرية مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي)، ووقعته باسم أهالي يعبد. كتبته بخط اليد وطلبت من شقيقي أن يذهب لطباعته على الآلة الكاتبة في جنين ويصور منه عدداً من النسخ.
بعد أيام بدأ مندوبون من مؤسسات إنسانية وصحفية يأتون لعمل تقارير عن هذا الحقل اللعين، نتج عنها رسائل تطالب سلطات الاحتلال بعمل عاجل يتمثل بتجديد السياج ووضع لافتات تحذيرية واضحة، وضرورة القيام بنزع الألغام منه. تم تجديد لافتات تحذيرية، ولكن الحقل بقي مليئاً بالألغام حتى تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث قامت منظمة دولية متخصصة بنزع الألغام بتنظيفه تماماً وعادت المنطقة زراعية وشملتها حدود البلدية وتم بناء بيوت فيها.