

في ديوان «ترهلات غيمة ذابلة»
همسـات الصـبر والأحزان تولــّد فـينا جـرحا ً قاسيـا ً لا يـشفي ألـم الذل والمـوت .. وبراكـين مجـنونة تـثور وتصـرخ ولا حـيلة لنا سـوى الصـمت والقـهر .. وغـيمة تمطـر حـزنا ً وهـمـّا ً وتحـمل ظـلما ً غـامضـا ً يسـافر خـلف طـيات المجـهول وحـلم يعيـش على حـافة الفـرح ينتـظر ضـوءا ً جـديدا ً بين سـطور الألم والوحـشة ...
"ترهـلات غـيمة ذابلـة " المجـموعة الشـعرية الرابعـة للشاعر الدكـتور صـدام فهد الأسـدي وتضـم ( 36 ) قصـيدة يعبــّر فيها عن عـتمة الأسوار وأحزان ممتـدة من البحـر إلى البحـر مع بقـايا العـمر وطـنين الصـمت والآم الإنسان
خـلف منـفى الموت ..كل شيء, معتـم يخـترق السـور إليككل شيء يفرك البرد طريقا هانئا إلا يديـك
في أسطورة سـيزيف يتناول "البير كامو" تجربة العبث بين "الأنا" و "العالم"..
"لقـد أفلـت العالم منا لأنه أصـبح مجـددا ً ذاته" فالشـاعر يجـد في ذاتـه أمواج متـلاطمة من بحـر هائج – بحر الأحزان – كـلها آهات وعـذابات وألما ً حـارقا ً ويعمل على إيصال صـخرة حزنه إلى رأس الجـبل..
كما حمـل سـيزيف صـخرته وصـعد بها إلى أعلى الجـبل ثم تعـود لتسـقط مرة أخرى إلى السـفح ويعـود يحملـها قي اليوم التالي.. وهكـذا ..
تعتبـر الرمـوز الأسـطورية أكثر اسـتحبابا ً للشـعراء.. وكما تقول الشـاعرة والناقـدة "سلمى الخضراء الجيوسي":
(وكان إدخال الأسطورة الرمزية بنجاح إلى الشعر انجازا ًحـداثيا ً مهمـا ً يدين إلى السـياب بوجوده الأساس.
فأن العنـصر الأسطوري توطد في الشعر ووجد له تعبيرا ً قويا ً عن طريق استعمال الزمن الأسطوري والنماذج العليا.. وفي هذا التجديد الآخر كان السـياب هو الرائـد الأول)
فذا– عولي– البطل الميثولوجي يعاني عذابا ً شديدا ً ويجتاز المهالك .. وذا – برموثيوس– المخادع المتمرد والبطل الأسطوري الذي سرق النار لتكون شـعلة وهاجة للإبداعات الفنية ورغم اللهب المحمول على كف– ديوجين– فلن نجد ذلك الإنسان ولو بحثنا عنه بمليون مصـباح..
فالشـاعر صـدام الأسدي يحمل مصـباح –ديوجين– ليتـعذب مع احاسـيسه ويبحـث عن الحـقـيقة وعن القيم الإنسانية في زمـن الصـمت العربي.. في زمن مات فيه الضـمير لأن الجـرح عمـيق جـدا ً...
ذي صـخرة سيزيفاتبع سخط الغجر الماشين لذلك الحـيذا– تموز– القادم من وجه الريـحانبع من سيل الدم وخذ حذرا من عهد الدجالذا– عوليس– الواقف مغتربا كيف يطل من الأنفاس لينقذ هذاالكهف العربـيمن الأرتال المصلوبة في أبار النفطذا– برموثيوس– اله النار يستوحد ظلا في جبل القفقاس ليأكلكبد التأريخليفزز صحوة مجبول في اكل الخوف من الشرفاترغم اللهب المحمول على كف – ديوجنيس– يتعرى المشهدوينام الظل وحيدا في كبد الشمساه – ديوجين – كيف رفضت الناس الناس الناس!
واقعنا العربي المشلول يسـير بنا بلا أمل إلى نفق مسـدود .. وجـرح الزمان لا يشـفي لأن الدواء سـم ُ في ضـمائرنا ..
لم يبـق شـيئا يواسـينا غير الصـمت والصبر.. وغير القـهر والجـوع والموت.. والى متى نبقـى نصفـق للطغـاة والمغامـرين...
في واقعـنا العربي المشـلولالحكمة قالت – سوف تقول – (أيام الصبر تطول) وقالتللصـبر حـدودلا بد بهـذي الغابة من مقتول ..
بسـمة على شـفاه الغرباء تعبت من عـواصف الرياح.. بكت من جرح الزمان خمسـين عاما ً.. وعـزفت لحنا ً حـزينا ً
يتسلل وراء الأفـق بأعماق ملـيئة بالآهات والآلام..
وصداقة الشـعر تمزقها حروفها بين ألسنة النار عندما تسـتيقظ على نهاية زمـن الرحـيل...
قالوا دع اليأس هنا وحرك الأفعالالصبر قد عاصرني خمسين عاما باحثا عن لحظة المنالوالشعر قد صادقته لكنه يخيب الآمالوالشعر قد حطمني منذ وقفت صانعا حقائق الأقوال
هذه حياة الشاعر الأسدي.. من بداية العمر وهو يحاكي الواقع المرير.. علاقته بالحزن حميمة كلها دموع وشجن.. مع حب صـامت للوطن.. أعوام مضت يحمل فيها جرحه ولا يملك لنفسـه غير الألـم .. مع عزة النفـس لا تعرف المسـتحيل لآخر العمر .. يكتب شـعرا بين سـطور الذكـريات قبل انطفاء الزمن.. ويدرك عمـق المأساة الإنسانية عبر التأريخ الطـويل..
من ومضـة الولادة..ومسرح الدموع والشـجنما دق قلبي أبدالغير ربي وأبي وأمي والوطنواشتعلت قصائدي تحارب المنكر والعفنوسوف أبقى هكذا في عزة النفس وللكفناقدح شعري شمعة من قبل أن ينطفئ الزمن
عاد الشاعر من رحلته ليسجل لنا مأساة العروبة.. مأساة تعشق الألم وتنام على الجرح كلما تحتضن القدس الثكلى وأقصاها الجريح.. أصبحنا في زمن نصـرخ فيه بلا صوت.. وتبقى نكسة حزيران مستقرة في الذاكرة العربية.. الا تكفي الدروس والعبر التي تعلمناها من تلك الهزائم يا معشر العرب..وأصبح السيف العربي جاهزا ً للرقص في أيدي المعتدين..
مأساتك السوداء كانت منذ سلمتالغزاة الأرض بل بيت المسـيحوفرشت للأعداء داركوالعروبة بالخطابة تسـتريحكم نكسة مرت بها العرب الكرام؟تنسى حزيران القبيحهل ينفع القول الفصيحوالسيف في كف العروبة قد يطيح ..
بين جدران الصـمت ينبض القلب.. ويسـابق الكلمات عند فراق الأحبة.. ويرسـم تنهداته الهادئة .. ويذوب في
همسـات الخوف ويتنفس الصبر والنار والألم .. عندما يصـلب خلف لقمـة العيـش ويعيـش صراعا مع وحوش البشـر ..
لي شعر يتنفس في الخوفأخشى يوما أن يصلب قبليلو صلبوا الشعر صلبوا الخبزة في كفيلي قلب يحسب للأيام ألف حسابينبض قبل النبض ويذوب كثيرا عند فراق الأصحابفبطاقة اسمي يصلبها التاريخ كما صلب السياب
وعلى امتداد الديوان تتداعي الذكريات ويتوسع أفق الشـاعـر ويخلق صلة واسعة بينه وبين العالم .. ويعطي كل لحظة من حياته طعما ً وفهما ًعميقا ً للحياة .. ويفتح أمام القلب البشري منبعا ً واسعا ً للحزن .. وعلى جمر الكتابة يحترق الصبر وتجف المرافئ ....
وتبقى صـورة الوطن تعيش في ذاكـرة الشـاعر عبر لـغة الحرف وظـلال الكـلمة .. وكما يقول شاعر الهند الكبير– رابندرانات طاغور-:
"إن الحياة منقضية، وإنها ذابلة وإنها شـبيهة بقطـرة ندى فوق ورقـة لـوتس"
فحياة الشاعر الأسدي كلها معاناة وقلق.. ونقاء قلبه كـنقاء اللحظة في حالة اغتراب مع ذاته.. ومع كـل غـيمة وقطرة ندى يصـبح الصـبر تعويـذة تحتل حروف الأبجديـة.. وكغيمة الروح تمطـر فيض الحـنين .. حيث يتجرد إلا من الحقـيقة تأن في داخـله ويلوذ بصـمت حـزين ...