فتحية العسال: تحديت أميتي فأدخلتني كتاباتي السجن
لم انل اي شهادة أكاديمية ولا حتى شهادة ابتدائية، ولم يساهم أحد في تعليمي، انما كل ذلك كان نتيجة ردة فعل على وضعي، أخرجني والدي من المدرسة وأنا بعمر عشر سنين لأنه خاف عليّ باعتباري بنت (مفتحة حبتين)، فقررت ان اعوض كل شيء حرمت منه، وابتدأت اعلم نفسي، وأول شيء فعلته محاولة كتابة اسمي، فيما بعد رأى أبي اصراري وعنادي على العلم فبدأ يساعدني في بعض الكتب الدراسية، عند اتقاني القراءة والكتابة، اصبح والدي يعطيني الصحيفة لأقرأ له اخبار (هتلر) كون نظارته مكسورة،
رغم انني لا احب هتلر.. لكن القراءة تفتح لك عالما لا متناهيا من الاتساع، وتدفعك للتساؤل والفهم والبحث.. في تلك الفترة كتبت أول قصة ضمن رسالة غرام لزوجي الآن عبدالله وكانت مليئة بالاخطاء وخطي يشبه (نبش الفراخ).. حاولت ان اتعلم اكاديميا ثم عدلت عن الفكرة، فالعلم موجود في الكتب واستطيع ان أتعلم كل ما اريد بشكل ذاتي، وفعلا تعلمت عن عالم الحيوان والنبات والقانون، وحتى هذه اللحظة مازلت نهمة جدا للقراءة.. اول كتاب قرأته كان عقلي وعقلك لسلامة موسى، وهذ الكتاب هو الذي وجهني لما انا فيه، ثم أتى جبران خليل جبران وابتدأت الحكاية.
ـ هل أنا فعلا حرة ام مدعية حرية، تسألين نفسك هذا السؤال في نهاية الجزء الأول من مذكراتك، ونعمم السؤال هل نحن احرار، اي معنى من الحرية تقصدين؟ ـ لقد كتبت هذا السؤال وأنا في اصعب مرحلة من عمري، واصعب مرحلة في حياتي الزوجية، لذلك كانت المعركة معركة حرية، تزوجنا صغار، كان عمري انذاك 14 سنة، وكان زوجي انسانا متحضرا ومتفهما ومثقفا،
لكن في فترة من حياتي الزوجية احسست أنه يحاول تحجيم حركتي والحاقي بأفكاره، فكان لابد من حل، وكتب هو (فتحية طلبت الطلاق لإحساسها انني أتملكها وهي لا تصلح ان تكون مملوكة)، من هنا كان علي البحث في حياتي الشخصية، لذلك قمت بتأليف هذا الكتاب، (هل أنا حرة أم أدعي الحرية) أم ان حريتي تأتي بالدفع الذاتي وهل تسيرني التقاليد المغروسة منذ سنين في داخلي ام أنا متحررة منها، هذا هو جوهر مذكراتي في الاجزاء الاربعة، حيث احاول معرفة وتعريف الاخرين كيف يكون الانسان حرا، كلمة الحرية كلمة سهلة، والسؤال المهم هنا، هل يأخذ احد ما حريتك ام انت شخص غير متحرر؟.
علمت نفسي بنفسي عبر التحدي وسألت نفسي هل بناء الانسان بالتحدي ام بالقدرات وما الفرق بين الطموح والوصول؟!! فإذا كنت تريد الوصول فينبغي عليك الالتواء، والفرق بين الطموح والتطلعات كبير، فأنا دائما اطمح ان اكون امرأة فاعلة، لكن عندما أكون متطلعة يعني القيام بعمل لا أقدر عليه، وأؤكد ان كل كلمة كتبتها في سيرتي الذاتية كتبتها بصدق شديد، وكشفت نفسي امام القاريء وكشفت عن التخلف الذي عانيت منه في داخلي وكيف تخلصت منه، لكن وفي لحظة من اللحظات تضخمت أناي، ربما لأني نلت نصيبا من الشهرة، مما ولد صراعا مع زوجي ومع نفسي.
ـ هل الشهرة فقط هي التي أدت لانفصالك عن زوجك؟
ـ لا ليس الشهرة فقط، زوجي يعتبر هو المربي لي من عمر الرابعة عشرة، وعشنا مع بعض على ارضية النضال الوطني والكفاح والتحرر ودخلنا السجن مرات عديدة، وكنت اقف بجانبه حين يكون معتقلا ويقف معي حين أسجن.. لكن في لحظة من اللحظات ابتدأت الأنا تكبر عندي، وابتدأ هو بسياسة الاستحواذ، هنا حصل الصدام، والعامل المساعد على ذلك اتفاقيات كامب ديفيد، حيث رفضت كامب ديفيد بشدة، أما هو فوقف مع الاتفاقيات، لذلك لم نستطع الاستمرار مع بعض.
بعد ثلاث سنوات من الانفصال وتجربة الابتعاد كل منا عن الآخر التقينا بعد بيان من المثقفين ضد كامب ديفيد وكان عبدالله الطوخي أحد الموقعين عليه، قال لي: فتحية أنا اشكرك لانك انقذتيني من حمل ملكيتك، وسألته هل تشعر الآن بأنك تملك فتحية العسال فقال لا بل اشعر انني احب فتحية العسال، وهذه هي فتحية العسال التي اعرفها واحبها. في لقائنا ذاك بعد افتراق ثلاث سنوات وعلى اثر ساعتين من الكلام والمراجعة، شعرنا ان الحب تجدد بيننا وقال لي: هل تتزوجيني فقلت له: الساعة الثانية عشرة ليلا هل نجد مأذونا شرعيا او نوقظ احدهم من النوم؟!!
ـ هل البحث عن الحرية ومعانيها هو الذي قادك الى السجون في مراحل مختلفة؟
ـ طبعا، وليس البحث فقط، فأنا من الاساس ضد الاستعمار وضد الفاشية وضد الحكم الفردي، وضد التبعية ان كانت سياسية او اقتصادية او اجتماعية، وأنا كنت أيام عبدالناصر في الحزب الشيوعي بشكل سري أما الآن فلم يعد هناك سرية وأصبح الوضع مختلفا.
ـ هل مازلت محافظة على علاقتك بهذا الحزب ومؤمنة به؟
ـ طبعا مازلت مؤمنة به، ومقتنعة بالفكر الماركسي رفضت في حكم عبدالناصر الفردية وحكم الفرد، وعدم وجود ديمقراطية، ولكني اقول الآن ان الرئيس عبدالناصر هو الزعيم الوطني الأوحد تقريبا، لانه حافظ على الكيان المصري والقومية العربية وعروبة مصر، فعبدالناصر له فضائل كثيرة جدا، وهذا لم يكن يمنع من مواجهته بالاخطاء التي حدثت في عهده، خاصة المطالبة بالديمقراطية، وهذا ما ادى لسجني عام 1954 وكنت يومها اشارك في مظاهرة ضد الاحكام العرفية، وكان زوجي في السجن، وبعد ذلك سجنت قبل حرب 56 وفي كثير من المرات حدث تناوب بيني وبين زوجي في دخول السجن والخروج منه.
ـ وفي عهد السادات سجنت ايضا هل للأسباب نفسها؟
ـ سجنت في عهد السادات بسبب كامب ديفيد، عندما تشكلت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية لمواجهة التطبيع في المجال الثقافي وأنا كنت جزءا منها وكانت معي الدكتورة لطيفة الزيات وعواطف عبدالرحمن وأمينة رشيد ورضوى عاشور وعبدالعظيم انيس ومحمود امين العالم ونبيل الهلالي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد.. وفي معرض الكتاب عام 1979 تم تخصيص جناح لاسرائيل فخرجنا جميعا وحرقنا العلم الاسرائيلي وتظاهرنا واثناء الليل قبضوا علي ووجدوا في بيتي المطبوعات والمنشورات التي تخص اللجنة واودعت سجن القناطر وهذه الفترة مهمة جدا في حياتي حيث كتبت اثناءها مسرحية «سجن النساء» ويوم تم القبض علي كانت تحضر لي مسرحية «بلا اقنعة» التي تحدثت فيها من وجهة نظري التقدمية عن المرأة الكاتبة والمبدعة.
ـ هل المسرح السياسي الذي ينتمي مسرحك اليه استطاع ان يعبر عن فكرك وهواجسك الفنية؟
ـ انا لا افرق ابداً ما بين الابداع الادبي والسياسة بلا شك هما مرتبطان ببعض، فمسرحية بلا اقنعة التي تتحدث عن المرأة وضرورة تحديد موقعها والارض التي تقف عليها هذا سياسة، وفي مسرحية سجن النساء عندما تحدثت عن السجينات وقلت انهن نتيجة لمجتمع فاسد فهذا ايضا سياسة وابداع، وعندما كتبت مسرحية «البين بين» عن الانسان المعاصر الضائع كنت اتحدث سياسة، حيث يطمح حسن الشخصية الاساسية بأن يكون اغنى رجل واشرف رجل،
هذا التناقض والطموح المستحيل يقوده الى الانتحار، وبعد انتحاره تجري له محاكمة بين السماء والارض يحاكمه اليمين والوسط واليسار وكل منهم يلومه من موقعه.. احدى مقولات المسرحية هي الدعوة لعدم المصالحة بين الاطراف الثلاثة.
ـ هذا يقودنا الى مدى تأثرك بمسرح بريخت؟ ـ عندما كتب النقاد عن مسرحياتي قالوا انني متأثرة بمسرح بريخت وببرانديللو وبسعد الله ونوس، لكن انا لا اعرف بمن تأثرت، لكن انا انتمي لنفس المدرسة المسرحية.
ـ كونك امرأة هل ينتمي مسرحك الى الادب النسائي عامة؟
ـ بالتأكيد لا، عالجت قضية المرأة في مسرحية بلا اقنعة وسجن النساء لكن في بين بين ومسرحية جواز سفر والخرساء التي احضرها الآن فكل هذه المسرحيات ليست لها علاقة بقضية المرأة كامرأة والاساس لدي هو الفكرة ومتطلباتها، رغم تأثري بشكل عام بقضية المرأة لكن في النهاية القضايا غير منفصلة
وفي هذا الشأن هناك تيارات ففي اوروبا مثلا يقولون ان اصل عذاب المرأة هو الرجل والظالم هو الرجل وهناك تيار آخر يقول ان قضية المرأة جزء لا يتجزأ من قضية المجتمع وهو التيار الذي اناضل معه من اجل قضية المجتمع ككل، ولكن للمرأة خصوصية مرتبطة بالنوع، فنحن النساء نتعرض لحمل تسعة اشهر وولادة وفي الحروب نتعرض للاغتصاب وتحمل الابناء المعاقين، ونتعرض لارهاب الفكر المتخلف والاصولي، وهذه الامور هي خصوصية المرأة التي نتحدث عنها، والرجل الذي يقهر المرأة هو اصلا رجل مقهور.
ـ اسرائيل اخترقت السياسة والاقتصاد، ولا تزال الثقافة هي الحصن الاخير فهل ستبقى منيعة عن الاختراق؟
ـ اسرائيل اخترقت الاقتصاد بفعل اصحاب المصالح والزراعة للسيطرة على الزراعة المصرية وتحويلها حسب متطلبات اسرائيل، كما اخترقت التجارة لتداخل المصالح، لكن المجال الثقافي لم تستطع الدخول اليه، فكل الاتحادات المسئولة عن الثقافة والكتابة، كاتحاد الكتاب وجمعية الممثلين والجمعيات الاخرى اتخذت قراراً حاسماً لو سافر اي عضو من اعضائها الى اسرائيل واقام علاقات معها، يفصل منها مباشرة كما حدث مع الكاتب علي سالم حين زار اسرائيل.
ـ لكن ألم يناصر الكاتب الكبير نجيب محفوظ التطبيع ويدعو اليه؟ ـ نجيب محفوظ قال انه مع التطبيع لكن لم يسافر الى اسرائيل، أي لم يتخذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، ومع ذلك نحن ندين موقفه.
ـ لنعد الى الكتابة حيث لم تكتف بالمسرح انما كتبت للتلفزيون ايضا اضافة للقصة هل يطغى مجال من هذه المجالات على اهتمامك؟
ـ كتبت القصة القصيرة والشعر والدراما الاذاعية، وللسينما والتلفزيون والمسرح، لكن في الاخير اخترت مجالين المسرح لانه عشقي الخاص وبنفس الوقت ارتبط بجمهوري فمن خلال المسرح اتواصل يوميا مع الناس، وأرى كيف يتم التفاعل بين العرض والناس، كما اخترت التلفزيون لانه يدخل كل البيوت وتخليت عن كل المجالات الاخرى والسبب انني لست موهوبة في هذه المجالات ويجب علينا ان نكون صادقين مع انفسنا ونعرف قدراتنا جيدا.
كتبت للتلفزيون ما لا يقل عن ستة وخمسين عملا تلفزيونيا بين مسلسل وسهرت في أول حياتي قدمت اعمالاً تاريخية، مثل مسلسل «حسن الزوق» ومسلسل بدر البدور اللذين اخرجهما احمد الحريري، وفي المعاصر كتبت مسلسل «هي والمستحيل»، «لحظة صدق»، «حصاد العمر»، «لحظة اختيار» «العودة الى الحياة»، «حصاد الحب».
شاركت مؤخراً في مؤتمر النساء والحرب، كيف تنظرين إلى هذه المؤتمرات وما الذي تقدمه سوى الصراخ وبيانات ختامية مكررة؟
ـ أنا مؤمنة بالتراكم الكمي الذي سيتحول إلى نوع وكيف، فأي عمل يقوم به الفرد سيحدث تراكماً، مثلاً أنا فتحية العسال عندما آتي إلى أسبوع النساء والحرب، وأقول رأيي ليسمعني الآخرون وبغض النظر ان وافقوني على رأي أو خالفوني، لكن هذا القول يثير الجدل ويحرك الماء الراكد قليلاً، وهذا يحدث تراكماً، ومن جهة أخرى كانت فرصة للالتقاء بالشعب السوري الذي أكن له محبة خاصة لأنه قريب من الشعب المصري، كما ان سفري لبيروت في حصار 82 وتواجدي مع المقاومة في زمن الخطر، حيث كنت أول امرأة تتواجد هناك في الحصار. لقد عشت الحصار اثنين وعشرين يوماً، شهدت وقف اطلاق النار وخروج المقاومة، كل ذلك يحدث تراكماً في المواقف، فلا أعتقد ان قيام أي شخص بعمل يخدم قضيته يذهب هباء.
شاركت الشباب في حصار بيروت وزرت قانا وليبيا أثناء الحصار، والعراق، وكل هذه مشاركة للشعوب في محنتها وليس القادة والزعماء والأنظمة «مليش دعوى بيهم» وقلت هذا الكلام لصدام حسين فأنا لست قادمة من قبل حسني مبارك، بل من قبل الشعب المصري، فالأنظمة متغيرة أما الشعوب فأبدية، مثال آخر من مصر، عندما ضرب الارهابيون كنيسة كنت أول من ركب القطار لمدة أربع ساعات لأواسي الأهالي هناك في الصعيد.. وما دام هناك نفس سأبقى هكذا والحركة هذه تعطيني عمراً.