طوابع بريدية لرسائل الموتى
السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم السابقون ، ونحن اللاحقون ....
أما بعد ،،،
صديقي العزيز ...
بلغني أنك قد مت !!! فما هي أخبارك ؟ هل ما زلت ميتاً ؟ أم أنك تستشعر بدفىء حياتك المختزلة في حركات شفاهنا ؟ ولعل جراحك التي تسببت في موتك قد برءت ، أم أنها لا تزال تؤلمك ؟ هل أصبح لك أصدقاء هناك ؟ هل وجدت هواية جديدة ترغب في ممارستها لتتقنها وتُميت بها موتك ؟ أتمنى ذلك ... أو لا أتمنى ذلك تماماً لأني لا أرغب في سماع خبر جديد عن موتك . إغفر لي يا صديقي سذاجتي الدنيوية ، فكل أمانيَّ تجاهك منتهية الصلاحية لأنهم علمونا أن نوزع _ على الأحياء فقط _أمنياتنا بحياة سعيدة ، فقد إحتالوا على الطفولة ونقشوا في حجر ذاكرتنا أن الموت هو نهاية الحياة ، وأنه نقطة التحول من الوعي اللامحسوس الى اللاوعي المحسوس ... ونحن منذ ذلك الوقت لا نملك إلا أن نؤمن بما حفظناه من مُسَلَّمات لم يعد أحد من الموتى ليصححها لنا أوليخبرنا ماذا يفعل هذا الإنقلاب بالأحلام وبالذكرى ... وبالمشاعر، فهل المعنى أيضاً ولارتباطه الجدلي بالروح يتكثف بفعل الإنسلاخ المدوّي لروحين في جسد أو روح في جسدين فيغدو _فيزيائياً_ جاهزاً لصيرورة الرميم ؟
صديقي البسيط الفريد كحرف الضاد ... لا تكترث كثيراً لفضولي المسعور والمحموم هذا ، فأنا حتماً سأتفهّم تجاهلك لأسئلتي السابقة ، وسأتقبّل خصوصية المرحلة كما سبق لنا وأن تركنا لك هامشاً خاصاً تحتفظ فيه بعلاقتك بهاجر ، بالسجائر ، بوالديك ، بمقود المركبات وبصلاة الجمعة .
ولكن هل لك أن تخبرني كيف خطر ببالك وبشكل مفاجىء أن تمارس حقك في التساوي مع الأغنياء والعلماء .. بل وحتى مع الأنبياء ؟ ومن الذي وشى بقلبك المثقوب _ بفتاة _ لتقتنع بأن الطريقة المثلى التي تجنبنا الشيخوخة هي موتنا صغاراً ؟ لماذا أخفيت لكل هذا الوقت مؤلفات المعريّ تحت وسادتك العتيقة لتوصي بأن يُكتب على شاهد قبرك " هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد " ؟ لماذا مارست نيرون بسرية ورفضت بخجل غناء بعض أشعار هوميروس في غرفتي الصغيرة ؟ .... ألا تذكر أننا كنا نمتدح صوتك الأخّاذ وضحكتك " المكتملة كالبدر " !!! ألا تذكر قرابيننا المقدمة تسبيحاً لروعة خطك العربي !!! ألا تذكر أننا كنا نمتثل طواعية لأوامرك ونتقن دورالأطفال المهذبين كلما حطّك القدر خلف مقود مركبة تُقلّنا !!!
فلماذا أَمَتّنا وخُنت ؟؟؟ ولعلي أقصد بذلك أنه لماذا خوّنتنا ومُتّ ؟؟؟
فقد إختلفت من بعدك مع ( محمد ضمرة ) حين قال في العام الأول لغيابك " إن أشد ما يفزعنا حقاً ، ويقضّ مضاجعنا ، هو ذلك الشعور الكافر الذي تركه جاثماً _ بعيد رحيله _ في قلب ووعي كل واحد منا بأننا قد قبضنا كالاسخريوطي يهوذا ثلاثون قطعة من الفضة لقاء خيانته / موته " ...فكيف تُفسَّر مرافقتي لك ثلاث مرات لاجتياز إختبار القيادة على أنها استدراج لك لمكان تسليمك لمَلَك الموت ؟؟؟
فأنا يا صديقي لم أدّعي بأن قيادتك الماهرة هي قيادة إقصائية ، ولا أنها تبشير بثقافة الإرهاب والكراهية لنفي الآخر والتحريض على قتله ... ولم أقل يوماً أن شخصيتك المثخنة بالقمع والتي تصاب فجأة بالعصيان والتمرد وبشكل طردي مع دوران محرك العربات أنها بذلك مجرد حق أريد به باطل ...
فكيف لي أن أقبض ثمن خدماتك الجليلة بتخليصنا من إقطاعيي الفراغ _عقلاً ووقتاً_حتى وإن كانت بدافع من النفس الأمّارة بالسلطة ؟؟؟ فأنا وبإعتراف الأمكنة بريء من نبأ وفاتك ، ومن مراسم الدفن ، ومن طقوس الحداد ثلاثاً ، وبريء أيضاً من الحزن ... فالحزن للموتى أوعليهم أنانية صرفة وتمثيل مبتذل . الحزن للموتى أوعليهم جهلٌ بتفاصيل حياة الميت وتَغييب لمعنى الموت . الحزن هو فرصةُ الأحياء لتنفيذ كبتهم ومساحةٌ شرعية للدموع .
صديقي القصير الممتلىء كسنبلة قمح ، يا صاحب الأصابع الطفولية ... إشتقت إليك ... ألم تكتفي بكل هذا الموت ؟ أنت الذي لم تنتظر حتى عودتي لتمنحني فرصة تقبيل قالب روحك وضمّه لصدري لأكون أقرب إليك من حبل وريدك المقطوع ولأهمس في أُذنك " دير بالك على حالك " كما سبق وان أقرضتني ذلك حرفياً. ولهذا فأنا الآن مدين لك بوداع ولقائين وببعض التفاسير للنزعة الإسمانية لدى من يموتوا فرادى ... فرادى حد الإنتحار .
فطوبى للأحياء الذين يروا في الموت استئثار الآلهة بالأناس الطيبين ، لذا فانهم يسارعوا في طلبهم .
في الذكرى الثالثة لصدور مرسوم موت - يونس محمد سعد