طلعت سقيرق.. رجل بحجم وطن
«فلسطين تسكنني وتراقص كل حرف من حروفي.. لا أستطيع أن أكون كاتبا دون الكتابة عن فلسطين.. وكتابتي عن فلسطين كتابة حب وانحياز وشوق وأمل وتطلع ومعايشة.. أنا لا اكتب انطلاقا من مقولات حزب أو منظمة فأنا لم أنتسب لأي حزب أو تنظيم لإيماني أن فلسطين اكبر من كل هذا.. فلسطين هي حزبي وتنظيمي وفضائي الواسع.»..
يمتد الألق من أعالي هذه الكلمات.. ليمطر فخرا وحبا على كل ذرة تراب في بلادي.. أنها كلمات لمبدع شامخ ذاع صيته أرجاء البلاغة والفصاحة.. وتبارك كلمه وفكره في جنة البوح العربية.. فكان قطرة ندى تشفي أنين اليراع وتسقي أنات الهامسين ليلا.. وتشرق على العابثين في الظلام..
في مساء يوم جميل.. وكعادتي باستعراض لبريدي الالكتروني.. قفزت أمامي رسالة مختصرة يعرف صاحبها بأنه الكاتب:طلعت سقيرق ويخبرني كم يحب بأن يتواصل مع فتاة بعمري ولها تجربة بالكتابة ومصحوبا معه رابط لنور الأدب التي يمتلكها.. أكملت الرسالة بسرعة وأغلقتها دون اهتمام بالبداية.. لبرهة كامنة أمام جوجل وبحرية الطيف.. تسلقت محركات البحث وكتبت لأظهر الستار المنسدل في معرفتي عن ذلك الكاتب؟؟!..
لم تلبث دقائق حتى قفزت لي الصفحات المتتالية وكأنها تخاطبني على من تريدين أن تتعرفي " الشاعر.؟ أم الأديب؟ أم القاص؟ أم الراوي؟ أم الصحفي.؟ أم ذلك الأب العطوف لسهير وديما ومحمود.. أم ذلك الفلسطيني المغترب في سوريا – وكم سررت حين علمت أنه فلسطيني الاصل -.. أم ذلك الإنسان القريب من الجميع.. لملمت أوراقي المتناثرة بدهشة ورددت كم يشرفني معرفة هامة وطنية فلسطينية بحجم (طلعت سقيرق)..بل وأكثر من ذلك..
"لأوّل مرة في الحبّ تنتصرينَ يا رئتيوتلتفين بالأنوار يا شفتيأنا الآتي إلى عينيك شدّينيجذوري أصبحت أقوىأنا الممتدّ في التربةضربت الليلَ فانكسرت جماجمهُضربتُ شرانقَ الغربة"
قرأته طفلا في حي شعبي مليء بالحب والحياة – حيث تمنى ان يبقى طفلا –..قرأته شابا شاعرا على" لحن أوتار الهوى 1974"..يروي"أحلى فصول العشق1976" "في أجمل عام 1975" ويرسم "لوحة الحب الاولى1980".. ويهدي "عشرون قمرا للوطن 1996" و"قمرا على قيثارتي 1993" رأيته في الخيمة 1978"يروي أحاديث الولد مسعود 1984" فـ"هذا الفلسطيني فاشهد 1986" كان "طائر الليلك المستحيل 1998" فغرد أجمل "أغنيات فلسطينيه 1993" وحمل "السكين 1987"
وخبأ في قلبه أكبر المعاني وأجملها وزينها بـ"الإسلام ومكارم الأخلاق 1990.."
ذلك الفريد.. الذي ضربت جذوره في أعماق الأدب بأكثر من ثلاثون ديوانا.. ما بين القصة والشعر والرواية والبحث والدراسة والنقد.. فكان العاشق، والمحبوب، والمتضرع، والفلسطيني بعينه..
يا فلسطيني صوتك أعلى.. أعلىزندك أقوى... أقوىيا فجر الثوارْيا جبلاً من ناريا فلسطيني قامتك الأشجار انتصبتْجبهتك الأعلام ارتفعتْخطوتك الميلاد انتشرتْيا فجر الثوارْيا جبلاً من ناريا فلسطيني وقف الجبل وقاوم قاومْركض السهل وقاوم قاومْشمسك خيل قاوم قاومْيا فجر الثوارْيا جبلا ًمن نارْيا فلسطيني يا جنين و غزة وطبرياطوباس ورفح و قلقيليهْيا جبين بيبني الحريهْيا فجر الثواريا جبلا من نار.
كم أدهشتني تلك العبقرية المتفردة لهذا الرجل العظيم لم يكتفي بالتنقل في كل صور الأدب.. بل كان فريدا عمليا أيضا بكونه (* عمل في الصحافة منذ العام 1976.. وكان المسؤول الثقافي في مجلة "صوت فلسطين"منذ العام 1979..ومديرا ’’لمكتب سورية ولبنان’’’ ل"جريدة شبابيك"الأسبوعية التي تصدر في (مالطا) منذ العام 1997م..ومديرا لدار (المقدسية) للطباعة والنشر والتوزيع في (سوريا)..وصاحب ورئيس تحرير مجلة (المسبار)..مدير (رابطة المبدعين العرب)..عضو اتحاد الكتاب العرب والصحفيين الفلسطينيين..عضو اتحاد الصحفيين في سورية..عضو (اتحاد الكتاب العرب)..عضو (رابطة الأدب الحديث)بمصر.
سآتي إليكمْمنَ المستحيلْجراحي إشاراتُ عمريوكلُّ انكساراتِ هذا النخيلْمباحٌ لكمْ أنْ..!!..وأن لا تجيئوا..!!..فإنَّ الذي بيننا والصحارى..!!.... أضأتُ الطريقَ فلمْ تعبروهاولن تعبروها..أضأتُ الطريقَ وظلَّ القتيلْ!!..
وما بين كل هذا وذاك.. كان هنالك سؤال يحيرني دوما.. من أين يجد هذا الكاتب الاستثنائي كل هذا الوقت الذي يخصصه للتواصل مع مئات الكتاب والأدباء في الوطن العربي.. مخصصا منه مساحة واسعة للاهتمام بالكتاب الفلسطينيين خاصة الواعدين والشباب منهم..
وكم كان لي شرفا وعزا.. بأن خصني بعناية ورعاية وتوجيه.. يحملها إلي بكل صدق ونيل قلّما أجدها في معلم أخر..ولا أنسى كم قال لي.. " أقول لك بصراحة خشية الوالد على فلذة الكبد: إياك والانسياق مع لحظة غرور تجعلك بعيدة عن طريق أثق وأعرف انك ستملئينه بكل رائع وجميل"
وكم مدني بمقالاته التي نشرها عني بعشرات الصحف العربية.. معرفا ومشجعا ومبشرا ومطلقا علي لقب "درة فلسطين تكتب بأصابع الوطن "..
رفعتُ يديّ لربِّ السماءبكيتُ وأجريتُ دمعَ الرجاءبأن يجعلَ الله كلَّ فضائيوعمري وروحي رؤايَ هوائيزمانا من الحبّ دون انطفاء
ولقد غاصت روحي في أعماق الألم.. حينما علمت أنه ولحوالي شهرين كان في العناية المركزة ينتظر القدر.. لاذت كلماتي مني.. وعانقت زوايا الأمل..بأن تعود وترى رسائله تنير بريدي.. وتنطلق هي بفرح لترد عليها.. وتمنيت أن تصله صلواتي.. وتراتيل يراعي.. ومناجاة الآلاف من المحبين لهذا القلب الدافئ الحاني.. ولكن القدر قال كلمته الأزلية.. ليغادرنا طلعت الإنسان وهو لم يناهز الثامنة والخمسين عاما..
ليكتب آخر قصائده..وكأنه كان يعلم بان الموت يتربص به.. وانه وإياه على ميعاد قريب..
"لا احدَ سيسألُ عنيأعرف لا أحد سيسأل عني!!فالناس الجثث عراياحتى من أحلام الناس ْ!!يا أميلا أحد سيسالُ عنيسأنام طويلا..وطويلا.. وطويلا.."
ونام طلعت طويلا..طويلا..تاركا خلفه ميراثا نابضا بالحياة والحب والوفاء..لشعبه ووطنه..وقضايا الإنسان الكبرى في الحرية والكرامة والسلام.
وإذا كان هناك هامشا للوفاء لهذا الراحل العظيم فإنني أناشد القيادة الفلسطينية.. ووزارة الإعلام.. والجامعات والمؤسسات والمراكز الثقافية والأدبية والعلمية... بأن أذكروا طلعت..انصفوا هذا الرجل..وليأخذ حقه بالتعريف عليه ونشر بعض انجازاته وروائعه..وهو الذي كان وسيبقى نورا ملائكيا ينبع من بحيرات حب الوطنية والانتماء لقضيته العادلة التي ما غابت عن وجدانه وضميره..
وحتى تذكرنا الأجيال القادمة بأننا نذكر عظمائنا ونكرمهم ونوفيهم حقهم ونحفظ ذكراهم..
جِنازةُ مَنفىوعمرُ المنافي الذي كان يوماطويلٌ طويلْجِنازةُ مَنفىوليلُ المنافي ثقيلٌ ثقيلْجِنازةُ مَنفىوكلّ المنافي هنا تستقيلْهنا تستقيلْهنا تستقيلْجِنازةُ مَنفىجِنازةُ مَنفىفلسطينُ عادتْفأقبلْ وقبلْ هواكَ الجميلَالجليلَ الطويلَالطويلْ
وداعا طلعت.. فما غاب من وُلد من رحم الحروف..