

شاعر الجلال عباس محمود العقاد
يعتبر العقاد ظاهرة أدبية وفكرية خارقة في دنيا الفكر والأدب فهو كالجاحظ أديب موسوعي لم يقصر نشاطه على حقل من حقول المعرفة وإنما سعى إلى الثقافة ككل ونظر إليها على أنها كل لا يتجزأ.
والذي يبهر في هذا الكاتب عصاميته فهو إن اكتفى في تعلمه النظامي بنيل الشهادة الإبتدائية فقد كدح في سبيل المعرفة كدحا وأخلص في طلبها مضحيا بالزوجة والولد ومتاع الدنيا مكتفيا بما يسد الرمق ويحفظ ماء الوجه.
وأما الصفة الثانية الباهرة فيه فهي حبه للحرية وإيمانه بأنها أساس الصلاح في الفرد وتعلقه بالحرية دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزازبنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغريق. ولقد كان لويس عوض على حق حين قال :" صورة العقاد عندي لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذي يسحق بهراوته الأفاعي والتنانين والمردة وكل قوى الشر في العالم"
مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبا آية في تحري الدقة العلمية والحقيقة مستعينا بقلمه السيال وبثقافته الجبارة في شتى شؤون المعرفة.
فلقد عرف العقاد بالعبقريات وبقصة سارة وبالديوان في الأدب والنقد وبسيرته الذاتية "أنا" وبهذه المؤلفات شاع بين الباحثين والأساتذة والطلبة.
غير أن الثابت أن الذي كان يحز في نفس الأستاذ العقاد- رحمه الله- أنه لم يشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقي كانت تؤلمه أعمق الألم ، ولاغرو في ذلك فالعقاد يرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بين الناس رحمن أوليس هو القائل
والشعر من نفس الرحمن مقتبس
والشاعر الفذ بين الناس رحمن
بلى فالشاعر تفضي إليه ألسنة الدنيا بأسرارها فهو روح الوجود وضميره والشاعر أعلى درجة من غيره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مأرب في الحياة.
ولقد أخرج العقاد عدة دواوين شعرية وأعطاها عناوين تتماشى وسني عمره " يقظة الصباح" "وهج الظهيرة" " أعاصيرمغرب" " أشجان الليل" وديوان آخر رصد فيه وقائع الحياة اليومية على عادة شعراء الغرب أسماه " عابر سبيل".
ويجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنيفة لأنصار شعر التفعلية ولما كان عضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر كان يحيل قصائد التفعلية على لجنة النثر للاختصاص فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان يسميه الشعر السائب . فهو من المحافظين على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخليلية فالوزن والقافية هما حدا الشعر وما يميزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذي يعبر عن أفكاره وأحاسيسه محافظا على الوزن والقافية دون أن يحد الوزن من قدرته التعبيرية ، إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقيود وهو مناورة بها يتميز الشاعر عن الشويعر والشعرور.
ولم يقف العقاد عائقا أمام سنة التطور فالتجديد في الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسيط ونوعوا القوافي حتى تتأتى المرونة في التعبير وتتحقق المتعة الفنية ويتحاشى السأم من الرتابة المملة في الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجديد في الشعر بتنويع القافية واستعمال المجزوء والاستعانة بالأوزان الخفيفة في الرمل والخفيف والمتقارب والمديد ، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة الديوان :
ألا يا طائر الفردو
س إن الشعر وجدان
وتحاشى المديح الزائف والرياء الكاذب والمبالغة الحمقاء وفي ديوان " عابر سبيل" قصر الشعر على هموم الحياة اليومية كقصيدة الكواء، ليلة العيد وفي هذا الديوان بالذات قصيدة عن طفل صغير شرب على وجه الخطأ (الجعة) البيرة فاستمرأها واستحلاها فيقول العقاد على لسان الطفل - وهو إمعان في الواقعية الشعرية والصدق الفني- (البيلا البيلا ) عوض البيرة البيرة لأن كثيرا من الصغار ينطقون الراء لاما .
وهكذا فقارئ شعر العقاد يقف أمام عمارة نحتت أحجارها بإزميل وأحجارها من جرانيت أسوان لا يبهرك الجمال في تلك العمارة بقدر مايبهرك الجلال فالعقاد كما يرى تلميذه زكي نجيب محمود شاعر الجلال ، ولنا في تفسير نزوع الشاعر هذا المنزع رأي مستمد من التركيبة النفسية للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلية وعصاميته الأسطورية زادتا في تقديره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف يؤدي بصاحبه إلى العزلة في جبل الأولمب مع آلهة الإغريق ويصبح الجليل والعظيم هو ما ينزع إليه ذلك الشخص ولسنا ننفي صفة الجمال الفني في شعره ففي بعض قصائده لمحات فنية جميلة إقرا شعره في وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنية الجميلة:
يجني المودة مما لاحيــــــاة لــــــــهإذا جفاه من الأحيـــــاء خـــوانويحسب النجم ألحاظا تساهـــــــــرهوالودق يبكيه دمع منـــه هتــانإذا تجهم وجه الناس ضاحكــــــــــهثغرالورود ومال السرو والبانتفضي له ألسن الدنيا بما علمــــــتكأنما هو في الدنيا سليمــــــانوالشعر ألسنة تفضي الحياة بهـــــــاإلى الحياة بما يطويه كـتــمــانلولا القريض لكانت وهي فاتنـــــــةخرساء ليس لها بالقول تبــيــانمادام في الكون ركن في الحياة يرىففي صحائفه للشعر ديـــــــوان
وفي قصيدة " العقاب الهرم " وهي قصيدة موحية بمعاني العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصيد وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وينسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما يشيخ، يقول الشاعر عن العقاب:
يهم ويعييه النـــهــــوض فيجثــــــــمويعزم إلا ريشه ليس يعــزملقد رنق الصرصور وهو على الثرىمكب وصاح القطا وهو أبكميلملم حدبـــاء الــقــدامــــــى كـــأنـــهاأضالع في أرماسها تتهشــــمويثقله حمل الجـنـاحيـــــن بعــدمـــــــاأقلاه وهو الكاسر الـمتقــحــمإذا أدفأته الشمـس أغفـــــى وربمــــــاتوهمها صيدا له وهو هيثــــملعينيك يا شيخ الطــيـور مـهــــابـــــــةيفر بغاث الطير عنها ويهـزموما عجزت عنك الــــغـــداة وإنـمـــــالكل شباب هيـــبة لا تهـــــرم
وفي قصيدته عن "أسوان" وقصرها الفرعوني العتيق الذي زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالين جلال المعمار الهندسي وجلال التعبير الفني عند الشاعر يقول العقاد:
رعى الله من أسوان دارا سحيــــقةوخلد في أرجائهــا ذلك الـقـصـــــراأقام مقام الطود فيهـا وحـــــولـــــهجبال على الشــطـيـن شــامخة كبـراوليلة زرنا القصر يعـلـــو وقــــارهوقار الدجى الساجي وقد أطلع البدراقضى نحبه فيه الزمـان الذي مضىفكان له رسمـا وكان لـــــه قــبـــــرافياوجه "أوزيريس" هــلا أضــأتـهاوأنت تضئ السهل والجبل الـوعرافما رفـعـــت إلا إلــــيــك تــجــلـــةولا رفعت إلا إلى عرشك الشـكـــراولست ضنينا بالضــيــــاء وإنــمـــالكل إله ظلمة تحجــــــب الفــكـــــرا
واحص مفردات العظمة والجلال في هذا المقطع من مثل : الطود، شامخة ،كبرا، وقاره، قضى نحبه فيه الزمان، تجلة، رفعت إله ......إلخ
أما ناقدنا الكبير الدكتور شوقي ضيف فيري أن العقاد أقحم الفكر والمنطق في الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقية ومسائل عقلية لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا في شعره. إقرأ هذا المقطع معي لتقع على صحة هذا الرأي :
وهذا إلى قيد المحبة شاخـــــصوفي الحب قيد الجامح المتوثـــــبينادي أنلني القيد يا من تصوغهففي القيد من سجن الطلاقة مهربيأدره على لبي وروحي ومهجتيوطوق به كفي وجيدي ومنـكـبــــيورب عقيم حطم العقــــم قيــــدهيحن إلى القيد الـثـقيل عــلـى الأب
فهذه فلسفة عميقة تؤكد أن لا حياة بلا ضرورة وأن القيود مهماز القريحة والإرادة الانسانية .
أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكير لا يتأتى إلا لأولي الفكر والحجاج:
والعقل من نسل الحياة وإنماقد شاب وهي صغيرة تتزينوالطفل تصحبه الحياة ومالهلب يصاحب نفسه ويلقــــــنإن العواطف كالزمام يقودنامنها دليل لا تراه الأعيـــــن
على أن في بعض قصائد العقاد غنائية شجية استلها من مكنون ضميره وسلخها من تباريح وجدانه وآهات نفسه وقل في الشعر العربي من بلغ هذه الغنائية الحزينة حتى المتنبي الذي يقول :
يا ساقيي أخمر في كؤوسكماأم في كؤوسكما هم وتسهيد؟إن طلبت كميت اللون صافيةوجدتها وحبيب النفس مفقوديقول العقادظمآن لا صوب الغمـــــــــــــام ولاعذب المدام ولا الأنداء تروينيحيران حيران لا نجم السمــــاء ولامعالم الأرض في الغماء تهدينييقظان يقظان لا طيب الرقاد يـــــدانيني ولا سحر السمار يلهينــــيغصان غصان لا الأوجاع تـبـلينيولا الكوارث والأشجان تبكـينيسأمان سأمان لا صفو الحيـــاة ولاعجائب القدر المكنون تعنينــــيأصاحب الدهر لا قلب فيسعدنـــــيعلى الزمان ولا خل فيأسونــــييديك فامح ضنى يا موت في كبديفلست تمحوه إلا حين تمحونـــي
وبعد فهل العقاد شاعر ؟
وجو ابنا نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصي و كاتب مقالات و باحث في سير العظماء فلن نبخسه حقه في إلحاقه بمملكة الشعر ، ونزعم أن له في وادي عبقر الهاتف الذي يزين له زخرف القول وفي تقديرنا أن الشعر الحديث الذي جدد بهاءه وأحيا مواته البارودي وحافظ وشوقي ، ونفخت فيه روح الحياة جماعة "أبولو" بروما نسيتها الحزينة والرابطة القلمية بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوين العقاد وإن موقفه من الشعر صحيح سليم ولو أنه يفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجليز وديوان " عابر سبيل"يعتبر فتحا في الشعر العربي بعد أن عفر جبينه أحقابا أمام قصور الخلفاء فالشعر صورة من الحياة ونسل مبارك من رحمها وفي الحياة أطياف ومشاعر و طرائق قدد يتسع لها الشعر جميعا بما فيها الفكر وثمار العقل وهذه هي أهمية العقاد كشاعر.
ولعل نقيصته الوحيدة تحامله الشديد على شوقي لسبب نفسي أكثر منه فني ثم حملته الشعواء على شعر التفعيلة الذي توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جديدا في حياتنا الأدبية.
مشاركة منتدى
1 كانون الثاني (يناير) 2017, 20:23, بقلم wassim
والحقيقة التي خلقها الله واقرها الواقع لا حيلة لنا فيه ان المرأة لا تفهم من شؤونها شيء ولو كان من خاصة شواغلها الا كان الرجل افهم منها لهدا الشآن ...
ناقش القول على ضوء ماكتسبتهمي مهارة التعقيب
15 شباط (فبراير) 2018, 03:48, بقلم محمد المصرى
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
لكم خالص التحية و التقدير على هذا العرض المشوق عن الشاعر و الأديب العبقرى الأستاذ عباس محمود العقاد
و بعد
فإنى أود أن يتسع صدركم لأن أعقب على ما تفضلتم بذكره فى آخر المقال
فقد قرأت عن الخلاف بين العقاد و شوقى
و تبين لى أنه كان لان العقاد عاش ينادى و يؤمن بالحرية و كان أحمد شوقى يطلق عليه شاعر القصر
و ما كان حينها للقصر من تقويض لحريات الناس و تقصير فى الدفاع عن حقوق الشعب و تقبل الخضوع لإستبداد و أوامر المستعمر الإنجليذى
و لم يعرف عن العقاد يوما أنه حمل غلا و لا حقدا و لا غيرة من أحد كائنا من كان
كما لم يعلم عنه التكبر و لكن كان متواضعا
أما شوقى فقد كان شاعرا متمكنا و يعيبه أنه كان مقربا من القصر زاهيا بنفسه مقيدا بما يرضى الحاكم
فالخلاف هنا بين العقاد و شوقى ينبع من إختلاف المنهج فى الحياة
وأخيرا فقد تركا للأمة إرثا عظيما من الفنون و الآداب
ولكم خالص الدعاء بالتوفيق و السداد
25 نيسان (أبريل) 2020, 23:27, بقلم منصور غي
نستحسن عملكم غير أني مولع ومنهمك لشخصية عباس محمود العقاد الذي زرع في ذهني أفكاره العميقة ومعاركه القاسية كرها للذل والعار كما يكبح الاستسلام بدون اقناع في حياتي فهوذو روح عالية وآراء صائبة لقد استفدت من مألوفاته كثيرا ونقلت من نظرياته في دقني حيث أقارن الآن عقلي وعقلها بل سميته نفسي ولو أني عجمي ومستعرب رحمك الله يا عباس محمود العقاد سميك عباس منصور العقاد مازال يبكيك وإن لم عاش معك لكن ورث منك ما لا يقدر بمال ولا درهم