الجمعة ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم ميمد شعلان

زبانية الرحمة

كان راكبًا لسيارة الترحيلات مكبلًا بالقيود وعيناه تزرف ندمًا على ما لحق به لم يكن يتصور أنه سيصنع هذه العاقبة، وأن يستقر به الحال في هذه العربة، وأن يضع في زنزانة مليئة بضباع بشرية بعدما كان يخالط سادة المجتمع وصفوته. أدرك وقتها قيمة ما أتلفه على نفسه وأنه أودى بنفسه إلى سوء السبيل! هذا هو حصاد يداه اللتان بالرغم من أنهم تسببتا في تخفيف الآلام للبعض، إلا أنهما تسببتا في جراح كثيرون وخانتا للقسم الذي أخذه على نفسه وبما تعهد به، فقد حول نفسه من طوق نجاة إلى دوامة يبتلع من يستند به ويجذبه نحو قاع الهلاك.

كان يعمل طبيبًا في إحدى المستشفيات الحكومية ويتقاضى راتبًا ضئيلًا؛ مما كان يوغر صدره ويزيده ضيقًا بأنه أضاع الكثير من عمره ولا يوجد المقابل لهذا، فقلبه كان يتدور المال كلما شعر أن أحلامه أصبحت ركامًا لا يستطيع أن يحقق ولو جزء بسيط منها بسبب ضيق الحال لم يتحلى بالصبر ونقم من حياته، ولذلك قرر أن يحول نفسه من طبيب جراح يداوي آلام المرضى إلى قصاب يقتطع أحشائهم ويبيعها لمن أراد أن يشتريها واحترف مهنة السرقة، ولكن سرقة من نوع جديد- متخفيًا وراء ستار الطب التي يسدلها أمام الناس- التي وسرعان ما تحققت أمانيه ومكتسباته المادية وكلما كانت تزداد أمواله كانت تتلاشى من قلبه الرحمة وتجردت منه العواطف وصنع لنفسه فلسفة أثمه بأنه يفعل ذلك من أجل شفاء الآخرين حتي يبرر أفعاله المشبوهة.
وفى يوم جاءته إحدي تلك الفتيات ولم تكن معها المال الكافي لغسل كليتيها الذي أتلفهما المرض والذي جعل منها حالة يرثي لها مما جعله يتحدث معها بشأن إجراء عملية جراحية ونقل كلية جديدة، ولكنها استوقفته بكلمة واحدة بأنها لا تأمل فى الشفاء ولا تريده لأنها لا تملك المال الذي سينجيها من الموت ولا تريد الحياة التى حكمت عليها بالفقر والمرض معًا.

تألم لكلامها وتهشم قلبه وشعر بالخجل أمامها الذي ذكره بالماضي الغميق، حينما ذاق مكانها مرضًا وفقرًا وعسرًا أليمًا، فأخذ على عاتقه مساعدة هذه الفتاة المسكينة وأن ينجيها من الموت وبدون مقابل لأول مرة، ولكن رفض القدر أن يساعدها فلم تسنح له الفرصة بأن يعود إلى صورته الأولى كطبيب لتنقشع ستار الطب والوقار الذى كان يختبأ وراءه، حتى يجد نفسه مكبل اليدين وقد انتزعوه من مكان عمله كما كان هو يستئصل الأعضاء من الجسد وأودعوه في زنزانة كمان كان يودع الأعضاء التى يسلبها فى صناديق، ليدخل في دوامة بكاء تجعله يندم على كل لحظة إفتقر فيها لرحمة ضميره في الخوض علي معترك النزيف البشري وما فعله مرارًا وتكرارًا ففي اللحظة الوحيدة التي قرر فيه أن يعود لطبيعته الملائكية وأن يكفر عن ذنوبه ونجدة هذه الفتاة تتدخل القدر وكأنه رافضًا منه أي عمل يتسم بالخير.

فيالها من فتاة عاثرة الحظ! فالحياة رفضتها كما كانت ترفضها من ذي قبل، إلى أن جاء اليوم بها لتأتي به وتسأله في أضغاث أحلامه: (كيف كان يريد مساعدتها؟!) أهل من المتصور أن الشيطان – الذي يوسوس في صدور الناس- يساعدهم ويعطى لهم الأمل فى الحياة والتنعم بها؟! لتنهي كلامها مطمئنة بذكر الله وتقول: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق...) صدق الله العظيم. كان كلامها جارح فكل حرف كانت تنطقه كان بمثابة شفرة تحفر في أذنيه وتقطع أوصاله وتزرف عينه دماءً بدلًا من بحورها دمعًا.
هذه القصة هي ليست من وحي الخيال وليست لمحاسبة جزاري مهنة الطب بعينهم، لكنها لمخاطبة ضمائر من يجدوا أنفسهم محور إهتمام ما كُتب بين السطور. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى