الثلاثاء ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم جابر فتحي أحمد

رَسَـائِـل الـزَّيْـتُـونِ

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

(1)

بخطوات مضطربة لكنها سريعة، قطع (إياد) طريقه إلى البناية التي يقطنها رفيقه وقائده (مالك)، لا تزال البناية بحالة لا بأس بها بالرغم من كل القصف الذي تعرضت له خلال الأشهر الماضية، لكن القذائف أصابت الأدوار العليا فحسب، بينما (مالك) يقطن في الطابق الثاني، وبذات الخطوات المضطربة المتسارعة انطلق يثب على درجات السلم وثبًا، حتى بلغ باب مسكن رفيقه، وطرق الباب بطريقة منتظمة بالرغم من توتره الشديد، ونبضات قلبه التي تهدر بقوة، بدت طرقاته على الباب كأنها ذات نغمة متفق عليها. ولم تمض لحظات حتى فتح الباب وأطل وجه (مالك) جامدًا كعادته.

 "(إياد)! مرحبًا، تفضل."

وأشار له بالدخول، وهو يفسح له الطريق، كان (إياد) متعجلًا للغاية، فاندفع إلى الداخل سريعًا وهو يقول لاهثًا:-

 "لقد اعتقلوا (آدم)."

رفَّت عينا (مالك)، وإن ظل وجهه مكتسيًا بقناع الجمود، لكنه التقط نفسًا عميقًا، وقال:-

 "الله المسعان."

ثم تحرك نحو الأريكة القريبة في الردهة، وأشار إلى (إياد) ليجلس بدوره، وجلس هذا الأخير بالفعل لكنه ظل متوترًا، وتساءل في جزع:-

 "ماذا سنفعل الآن؟"

احتفظ (مالك) بصمته، وأخذ يدير الأمر في رأسه بتماسك، الفرق بين (مالك) و(إياد) أن (مالكًا) في العقد الخامس من العمر، وله باع طويل في النضال، انعكس على شعره الذي شاب أكثره، لكن ملامحه لا تزال قوية وواثقة، أعطتها التجاعيد القليلة سمت الخبير، كما فعلت لحيته الخفيفة البيضاء، وقامته المتوسطة، وقوامه الرياضي.

أما (إياد) فلا يزال شابًا، يحمل عنفوان الشباب وحميته، وشدة تأثره بالأحداث والوقائع، كما أن قوامه الممشوق يعطيه سمت المقاتل، إلا أن عينيه الرماديتين تفصحان عن كل ما يجيش بأعماقه.

 "سنمضي في خطتنا، وننفذ عمليتنا، لن يردعنا شيء"

قالها (مالك) بحزم واثق، لكن (إياد) قال وهو يحاول إخفاء انفعاله:-

 "أي خطة؟ (آدم) هو الوحيد الذي يملك الخطة، وقد وقع في الأسر."

كان حديث (إياد) صادمًا، فـ (آدم) هو العقل المفكر للمجموعة، وهو المخول بوضع خطط العمليات، وقد أخبرهم منذ يومين أنه انتهى من وضع خطة العملية الجديدة، وسيوافيهم بها في حينها ضمانًا للسرية، ولم يحاول أحدهم أن يستفسر عن شيء، لأن هذا النظام المتبع عادة، لا أحد يعرف الخطة إلا عند التدرب على تنفيذها، ولا أحد يعرف أكثر من دوره إلا قائد العملية ومساعده.

هذا العملية بالذات كان يفترض أن تنفذها مجموعة (نصار)، و(إياد) فرد منها، لكن لا (نصار)، ولا (إياد)، ولا أي أحد آخر من أفراد المجموعة، يعرف أي شيء عن الخطة بعد، حتى (مالك) نفسه – وهو المنسق للعمليات والتدريبات – لم يتسلمها بعد، الأمر معقد للغاية!

واصل (إياد) في عصبية:-

 "سوف يستجوبونه بعنف، وأخشى أن ينهار ويعترف بكل شيء، ويرشدهم إلينا."

لكن (مالك) قال بحزم:-

 "لن يعترف بأي شيء، أنا أعرف (آدم) جيدًا، أنا من دربته وأعددته لهذا العمل، وأعرفه أكثر من أي شخص آخر، وأعرف مدى صلابته وذكائه."

أضاف بذات الثقة:

 "حتى لو اضطر للاعتراف بشيء سيمنحهم شيئًا آخر يلهيهم به، لطالما كان مستعدًا لهذا."

أراد (إياد) أن يناقش، لكن (مالك) أوقفه بإشارة من يده، وسأله بتؤدة:-

 "أخبرني أولًا: كيف تم اعتقاله؟"

أجاب (إياد) بذات اللهجة المتوترة:-

 "كان في (كرم أبو سالم) يشرف على توزيع بعض المعونات، فجاءت قوة من جيش الكيان واقتحمت المنطقة، واعتقلت عددًا كبيرًا من شبابنا، ومنهم (آدم)، لم يكن الشباب مستعدين لهذه الهجمة، ولم يكن معهم أسلحة، وسيطرت قوات الكيان على المنطقة سريعًا."

صمت (مالك) برهة يقلب الأمر في رأسه، ثم قال:-

 "مبدئيًا: هذا جيد، إذ أن هذا يعني أن الهجوم لم يكن يستهدفه خصيصًا، وإنما تواجد في المكان الخطأ، وكل جريمته عندهم: توزيع المساعدات على الأهالي."

قال (إياد) بحنق:-

 "لم يكن يفترض أن يقوم بهذا من الأساس، فهو يعلم مثلنا جميعًا أهمية دوره معنا."

لكن (مالك) حافظ على هدوئه وتماسكه، وقال:-

 "بل يفترض أن نتصرف جميعًا بشكل طبيعي، ونتفاعل مع الأحداث كأي مواطن آخر، حتى لا نلفت الأنظار، وما فعله (آدم) لا يخرج عن هذا الإطار."

لم يعترض (إياد) هذه المرة، فأسند (مالك) ظهره للخلف، ورفع بصره لأعلي كعادته كلما شرع في التفكير في العميق، وأدرك (إياد) هذا فاحترم صمته، ولم يعلق بشيء، فـ (إياد) يعلم أن (مالكًا) هو الشخص الوحيد الذي يملك مخرجًا لكل أزمة، كما أنه أكثر شخص قادر على بث الطمأنينة والثقة في نفوس من حوله، ولديه قدرة غريبة على هذا.

كان (مالك) يحسب المعطيات بهدوء ونظام، من المؤكد أن (آدم) أعدَّ خطة لعملية جديدة تستهدف ضرب الكيان الغاصب في أحد مواقع سيطرته، (آدم) ذو عقلية حسابية وهندسية مذهلة، يعمل حساب كل شيء، ولا يهمل أدق التفاصيل، هل كتب هذه الخطة أو رسمها في أوراق؟ أين يخفي أوراقه عادة؟

التفت (مالك) إلى (إياد) وسأله:-

 "هل التقيت بأحد من أسرة (آدم)؟"

أجاب (إياد) محاولًا استنباط الغرض من السؤال:-

 "لم ألتق بأحد منهم مؤخرًا، فالتعليمات واضحة، لا ينبغي أن نقترب من بعضنا كثيرًا بشكل لافت، لكن أخته (رنيم) هي التي اتصلت بي وأبلغتني بالخبر."

نظر إليه (مالك) مستفهمًا، وقال:-

 "لماذا اتصلت بك أنت بالتحديد؟"

أجاب (إياد):-

 "(آدم) هو من طلب منها هذا في حال حدث له مكروه."

صمت (مالك) برهة، ثم عاد يقول:-

 "حسنٌ، عليك أن تجد طريقة للقائها دون أن يشعر أحد، وحاول أن تعرف منها ما إذا كان (آدم) قد احتفظ بأوراق ذات أهمية، أو كتب شيئًا ذا قيمة له، حتى إن بدا ساذجًا للآخرين، ربما ترك شيئًا لنا بطريقة ما."

ظل (إياد) ينظر إليه نظرة غامضة، مما دعا (مالكًا) لأن يسأله في توجس:-

 "ما الأمر؟"

قال (إياد):-

 "(رنيم) أخبرتني أنه كتب خاطرة أدبية، وطلب منها أن تنقلها إليّ لأبدي رأيي فيها، لا أظن الأمر .......!"

قاطعة (مالك) بلهفة شديدة تغلبت على سمته الهادئ:-

 "أين هي؟"

أخرج (إياد) جواله، وفتش في رسائله، حتى عثر عليها، ومد الجوال تجاه (مالك) قائلًا:-

 "ها هي.. لكنها خاطرة عادية، أنت تعرف أن (آدم) يكتب خواطر أدبية وينشرها على مواقع التواصل، و...........!"

لم يكترث (مالك) بأي شيء من حديثه، بل اختطف منه الجوال، وسدد نظره في شاشته ليقرأ كلمات الخاطرة:-

 "أنا لست خالدًا، طالما تعبت أكتب سيرتي في لهفة شيخ جريء رزين تائه، إنه لا زال يكتب، تراه وحيدًا ناظرًا إلى لوحة أيامه، ثاويًا يتأمل راية ترفرف فوق يافا خائفة، أنا ناقم يشكو وطأة نقص سنابله."

ظل (مالك) يتأمل الخاطرة، ويعيد قراءتها، و(إياد) يرمقه بحذر، وقال مترددًا:-

 "قلت لك إنها خاطرة أدبية عادية، لا علاقة بها بأمرنا."

لكن (مالكًا) لم يكترث مجددًا بحديثه، وظل يتأمل كلمات الخاطرة بضع دقائق بتركيز شديد، ثم انفرجت أساريره، وظهرت على شفتيه شبح ابتسامة خفية، قبل أن يعيد الجوال إلى (إياد) قائلًا:-

 "احذف هذه الرسالة، واطلب من (سيلين) أن تحذفها، وهيا بنا سنقوم برحلة قصيرة."

كان (إياد) يشعر بحيرة شديدة، وتساءل:-

 "رحلة؟! إلى أين؟"

نهض (مالك) وهو يقول:-

 "إلى خان يونس."

وتوجه بخطوات سريعة نحو غرفته ليستبدل ثيابه، ولا يزال (إياد) يشعر بحيرة شديدة، وغير قادر على استيعاب الأمر.

(2)

بعد دقائق، كانت السيارة تنطلق بهما إلى خان يونس، و(إياد) يريد أن يستفسر ويتعرف سر هذا التغير المباغت، وهذه الرحلة المبهمة، لكنه كان ينتظر أن يتطوع (مالك) ليخبره بنفسه.

أثناء الطريق، سمع (مالكًا) يدندن بكلمات تلك الخاطرة كأنها أغنية من أغاني (فيروز)، وقد صنع لها لحنًا من تلقاء نفسه، والتزم (إياد) بالصمت بالرغم من كل الحيرة والفضول اللذين يستعران بأعماقه، والسيارة تنطلق بهما بسرعة متوسطة، بين البنايات المتهدمة، والبنايات التي لا تزال صامدة تقاوم العدوان، لم تعد الشوارع في غزة كما كانت، فالمدينة التي كانت تضج بالحياة صارت تنبض بالألم، الطرقات لم تعد طرقات، بل صارت ندوبًا عميقة على وجه الأرض، تحمل آثار القذائف والصواريخ التي لم تترك حجرًا في مكانه.

اقتربت السيارة من منطقة الحقول بخان يونس، فقال (مالك) دون أن يلتفت إلى (إياد):-

 "هذا الحقل له ذكريات طيبة لي، أمضيت به فترة صباي، (آدم) يعرف هذا."

لم يتكلم (إياد) لكن ازدادت حيرته، ما علاقة هذا الحقل بما حدث ولا يزال يحدث؟!

استطرد (مالك) بذات الهدوء:-

 "ثمة شجرة زيتون عتيقة ها هنا، عمرها يتجاوز الأربعمائة عام، (آدم) يعرفها جيدًا، لطالما صحبته إليها وجلسنا تحتها، لأعلمه بعض الأشياء التي سيحتاجها في حياته."

لم يستطع (إياد) الصمت أكثر من هذا، فسأل بشيء من العصبية:-

 "أي حقل؟ وأية شجرة؟! وما علاقة هذا بعمليتنا، وما حدث لـ (آدم)؟"

ابتسم (مالك) ابتسامة واسعة، ثم لم تلبث أن تحولت إلى ضحكة وقور، قبل أن يقول:-

 "ألم تفهم بعد؟ لقد أخبرنا (آدم) بمكان الخطة."

نظر (إياد) إليه بغباء، فاستطرد (مالك) وهو ينظر إلى شجرة زيتون تبدو في آخر الممر بين الحقول:-

 "خذ الحرف الأول من كل كلمة من كلمات الخاطرة: (أنا لست خالدًا، طالما تعبت أكتب سيرتي، في لهفة شيخ جريء رزين تائه، إنه لا زال يكتب، تراه وحيدًا ناظرًا إلى لوحة أيامه، ثاويًا يتأمل راية ترفرف فوق يافا خائفة، أنا ناقم يشكو وطأة نقص سنابله)، قم بتركيب الحروف بنفس ترتيبها، ستحصل على عبارة واضحة."

وصمت هنيهة ثم أردف غامزًا بعينه:-

 "الخطة أسفل شجرة الزيتون الأثيرة في خان يونس."

بهت (إياد)، واستغرق وقتًا في محاولة استيعاب الأمر، خلال هذا الوقت توقفت السيارة أمام شجرة زيتون عتيقة شامخة، لا تزال مورقة، وترجل (مالك) من السيارة ليسير صوبها، ووقف على بعد خطوتين منها يتأملها باعتزاز.

في حضن الأرض، كانت تقف المعمّرة كأنها أسطورة حيّة، تتحدى الزمن بجذورها المتغلغلة في عمق التربة، كأسرار قديمة لا تنضب، جذعها الملتوي، الموشوم بشقوق الزمن، يحكي قصص الريح والمطر، ويروي حكايات الأجيال التي مرت تحت ظلها، ورغم كل ما عبر بها من فصول ومحن، لا تزال ترفع أغصانها إلى السماء، مكللةً بأوراقها الفضية التي تلمع تحت أشعة الشمس، كأنها نجوم ساهرة لا تخبو، تحمل رسائل العزة، والصمود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى