روعة الشروق وأحزان الغروب
يتوجب الاعتراف أنني في هذا العنوان أقلّد عنواناً بديعاً حول مي زيادة هو
"التوهج والأفول"، إنه عنوان كتاب ألفته الكاتبة اللبنانية الكبيرة روز غريب صاحبة المؤلفات القيّمة في النقد الأدبي، فضلاً عن أعمالها القصصية ومسرحياتها للأطفال. ومن كتاب "التوهج والأفول" المنشور ببيروت عام 1978 استقيت كثيراً من معلوماتي عن مي زيادة، فضلاً عن اطلاعي على عدد قليل من المراجع، ولا بد من القول إن المراجع حول هذه الشخصية متعددة متنوعة وقيّمة.
اشتهرت مي زيادة شهرة لم تعرفها كاتبة عربية . وقد نظنّ أنّ ذلك بسبب المأساة التي حلّت بها في سنواتها الأخيرة. ولكننا لو استمعنا الى كبار الكتّاب في النصف الأول من القرن العشرين يمتدحون قدراتها ومواهبها في الكتابة والخطابة وإدارة النقاش وثقافتها الغنية الواسعة، لتبيّن لنا أنها استحقّت شهرتها قبل تلك المأساة وبدونها.
وينبغي أن نتذكر أن مي زيادة كتبت ولمعت واشتهرت في وقت مبكّر وفي زمن عمالقة، جميعهم تكوكبوا حولها حتى تجاهلوا ما كان بينهم من خلافات. ولم يُتح لأي كاتب آخر أو أي كاتبة أن يكتب عنه أو عنها. وفي وقت واحد، طه حسين والعقاد وخليل مطران وأمين الريحاني وجبران خليل جبران ويعقوب صروف واحمد لطفي السيد وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وولي الدين يكن ومنصور فهمي والشاعر إسماعيل صبري وسليمان البستاني وداود بركات (مؤسس جريدة الأهرام) ومصطى صادق الرافعي وحتى زكي مبارك خصم النساء، وآخرون.
ومما يذكره العقّاد عنها في إحدى مقالاته:
"كنا نحو ثلاثين كاتباً وأديباً ووزيراً. اجتمعنا للتشاور في الاحتفال بالعيد الخمسيني للمقتطف (مجلة أسسها يعقوب صروف). وكان اجتماع هذا المجلس عندها في إبّان المنازعات السياسية التي وصلت بكثير من الكتّاب الى حد التقاطع والعداء. . . فأمضينا عندها ساعتين نسينا فيهما أن في البلد أحزاباً أو منازعات، وذلك بفضل براعتها في التوفيق بين الآراء والأمزجة، وقدرتها على توجيه الحديث الى أبعد الموضوعات عن الخلاف . وما أحسب أن أحداً غير ميّ قد استطاع الذي استطاعته في تلك الأيام".
ولا يمكن في هذا المجال الضيق الإحاطة بكل ما كتب حول ميّ وما قيل حول صالونها الأدبي الذي جمع نخبة رجال النهضة على مدى عشرين سنة بين 1914 و 1934 السنة التي غادرت فيها مصر الى لبنان وبدأت فيها محنتها، وأكتفي بالقليل.
يأتي طه حسين على ذكرها في كتابه الشهير "الأيام" وهو سيرته الذاتية كما هو معلوم، فيقول: "لم يرض الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتاً واحداً سمعه. كان الصوت نحيلاً ضئيلاً وكان عذباً رائعاً. وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ الى القلب، هذا الصوت كان صوت ميّ". أما عن ندوتها فيقول: "كانوا رجالاً ونساء يشتركون في تنظيم الاجتماعات الأدبية اشتراكاً حراً سمحاً. فيه كثير جداً من الرقي والامتياز . . . واتّصلت حياة ميّ في هذا الصالون أعواماً غير قليلة وظهرت آثارها في إنتاج هؤلاء الناس.
وعلى سبيل الطرافة أذكر هذين البيتين للشاعر إسماعيل صبري حول شوقه الى ندوة ميّ:
روحي على بعض دور الحي حائمةٌ كظامئ الطير توّاقاً الى الماء
إن لم أمتَعْ بميّ ناظــــري غــــــداً لا كان صبحْك يا يومَ الثلاثاء
ويقول منصور فهمي واصفاً مقدرتها الخطابية: "لا أعدو الحق إذا قلت إنها كانت محاضرة من أرقى طراز وأعلى غرار". وحتى الشاعر الهندي طاغور قد سمع بها وأهداها قصيدة نشرت ترجمتها في أحد كتبها.
الكتب العديدة التي كتبت حول ميّ تتفق جميعها في تصوير مرحلة "التوهج"، وتضيع في التخمينات وعدم الوضوح عندما تصل الى تفسير مرحلة "الأفول". لأنه في الواقع لا تناسب بين المرحلتين ولا توجد في حياة ميّ المعروفة حتى عام 1934 ممهّدات وعلامات معقولة للمحنة التي أصابتها. لكن لنبدأ من البداية: من من هي هذه الكتابة المرهفة المهمة؟ وكيف سارت حياتها؟
ولدت ميّ: واسمها الأصلي ماري زيادة. عام 1886 في مدينة الناصرة بفلسطين لأبوين مثقفين، كانت ابنتهما الوحيدة واليها وجّها كل عنايتهما، تلقّت دروسها الابتدائية في مدرسة راهبات في الناصرة. ثم انتقلت مع اسرتها الى لبنان حيث درست في إحدى مدارس الراهبات في عينطورة، تلك البلدة التي اشتهرت بمدارسها وخرّجت كباراً من الأدباء وعلماء اللغة العربية. في عينطورة تعلمت ماري اللاتينية والفرنسية والإنكليزية الى جانب العربية وبدأت مواهبها الأدبية تتكشف. وبدأت تكتب مذكراتها وبعض الأشعار باللغة الفرنسية.
من هناك انتقلت الأسرة الصغيرة الى مصر التي كانت تشهد حركة أدبية فوارة ونهضة في سائر الميادين. فتابعت الفتاة اهتمامها بالتحصيل ولا سيما اكتساب اللغات فتعلمت إضافة الى الفرنسية والانكليزية اللغتين الاسبانية والألمانية، كما أتقنت العربية.
نشرت ديوان شعر بالفرنسية وبتوقيع مستعار هو إيزيس كوبيا عام 1911 وأحدث ضجة وتساؤل الناس طويلاً عن صاحبته. وبدأت تكتب وتنشر المقالات لا سيما أن والدها كان يعمل في حقل الصحافة. وقد رحّب بها عديدون.واهتموا بما تكتب منذ مقالاتها الأولى. واختارت أن توقع بالحرفين الأول والأخير من اسمها أي "مي"؛ وهكذا لم يطل بها الوقت حتى ذاع اسمها مقروناً بالتقدير وصارت تدعى للكلام في المناسبات أو تلقي المحاضرات.
غير أنها لم تقنع بما حصّلته من علم في المدارس فقررت عام 1916 أن تتابع حضور المحاضرات في الجامعة المصرية. هكذا درست التاريخ والفلسفة والفلك والأدب القديم وبعض العلوم العصرية.
هذا مع العلم أنها كانت قد أنشأت "ندوة الثلاثاء"، عام 1914، ذلك الصالون الأدبي الذي تلاقى فيه ثلاثون كاتباً وشاعراً وعالماً من أهم الشخصيات الثقافية.
لا بدّ هنا من التساؤل حول المزايا والمواهب وكذلك الإنجازات التي ميّزت مي وجعلت لها هذه المكانة: باختصار، أول هذه الميزات هي اتساع دائرة ثقافتها لتعدد اللغات التي تجيدها وتطالع بها ولغنى هذه الثقافة. وتعرف أنها في حياتها القصيرة تلك قد بنت مكتبة هائلة وأعطت وقتها للمطالعة والكتابة.
ويمكننا أن نستعرض عناوين كتبها لنجد بينها ثلاثة كتب كتبتها حول كاتبات نهضويات وهذا يكشف تعاطفاً مع الكاتبات وتشجيعاً واعتزازاً بهن. هذه الكتب تناولت عائشة التيمورية وباحثة البادية ووردة اليازجي.
معرفة مي زيادة باللغات وكتابتها الشعر بالفرنسية قد ترك أثره في نصوصها وأسلوبها فتميزت لغتها بالإشراق، وأفكارها بالجدّة، وصورها بالإرهاف، وكان الزمن زمن انفتاح على الأدب في العالم، فجاء نتاجها يحمل لمسة جديدة منعشة مع لغة متينة ونظر إنساني فيه كثير من الترفع والرقة. ولا شك أن شخصيتها قد لعبت دوراً لأنها كانت تتحلى بالرقة والتحفظ مع الشجاعة وسرعة الخاطر وحسن الإصغاء وعمق التأمل.
المعروف أن مي لم تتزوج، مع أنها أحبت جبران بالمراسلة ولم تلتق به كما هو معروف. واستمرت المراسلات بينهما أكثر من عشر سنوات. وهناك كتاب لجميل جبر بعنوان "مي وجبران" وكتاب لكامل الشناوي بعنوان "الذين أحبوا مي". والحب المعروف والذي استمر بلا أمل هو حبّ أنطون الجميّل لها (وهو صحافي وسياسي ترأس تحرير الأهرام وكان بين رواد ندوتها) وظل يحبها حتى بعد تقدمها في العمر، ولكنها لم تتخذ قرارها بالزواج.
ألفت مي عشرة كتب بينها كتابان بالفرنسية. وترجمت ثلاثة كتب. وجمعت رسائلها في مجلّد وهناك أربع وعشرون مقالة ومحاضرة غير مجموعة في كتاب.
أما عن نهايتها الحزينة فلا أقدر أن أقدّم خبراً دقيقاً لتضارب الأخبار والتحليلات. خلاصة المأساة أن مي منذ عام 1937 بعد موت جبران 1931 ثم موت أهلها وبعض أصدقائها أخذت تميل الى الانطواء وتعتريها الكآبة. كتبت الى قريب لها في لبنان حول مشاعرها, وكان طبيباً، فدعاها الى لبنان لتغيير الجو. ولا وجود لخبر دقيق حول تطور تلك الكآبة. لكن مي وجدت نفسها في مستشفى "العصفورية" الشهير وهو مستشفى للأمراض العقلية، وتحديداً للمجانين، وهناك قاومت بلا شك وامتنعت عن أخذ الدواء وعن الطعام، ربما احتجاجاً وربما غير ذلك. لكن بعد تدخّل الصحافة والأدباء تم نقلها الى مستشفى صحي عادي. وبالطبع احتجت واحتجّ الوسط الأدبي في لبنان، واضطرت أن تطلب امتحانها لتبرهن على سلامة قواها العقلية؛ فألقت في الجامعة الأميركية ببيروت محاضرة استمرت ساعتين تكلمت فيها بعمق وتحليل ومنطق حول "رسالة الأدب الى الحياة العربية". وانتزعت الإعجاب من الحضور، وأعطى الطبيب تقريراً واضحاً يؤكد سلامة قواها العقلية، وهكذا تقرر أن تخرج وتستأجر بيتاً.
بعد مرور سنتين على وجودها في بيروت عادت الى القاهرة. لكنها اعتكفت في بيتها تقرأ وتدرس عن الحضارات القديمة وآثارها وتمتنع عن رؤية الناس، وقد فارقتها الثقة وانكسر في روحها ذلك الأمل. ماتت عام 1941 وكُتِب الكثير في رثائها.
عن " المشاهد السياسي "
مشاركة منتدى
10 نيسان (أبريل) 2006, 21:05, بقلم احمد مروات
انا اتفق مع الاديبة نينار اسبر على ما اشارت بة عن الاديبة الراحلة مي زيادة .
ولكن هنالك آثار ووثائق لها مازالت مدفونة كالتي وجدتها في الناصرة بلدي حيث ولدت وهي عبارة عن 56 رسالة مؤرخة من عام 1903 الى1906 حيث كانت مي تدرس في عينطورة وبعض الصور الفوتغرافية لها ولعائلتها ولعائلة والدتها نزهة خليل معمر .
بيت ميزيادة هو قائم حتى الان وهو بجانب الجامع الابيض القديم .
احمد مروات
باحث ومؤرخ الناصرة
.